في ذكر شيء من سيرته صلى الله عليه وسلّم في أحواله النفسية فصول سبعة: في حسن خلقته صلّى الله عليه وسلّم، وحسن خلقه، ووفور عقله، وحسن عشرته، وسماحته، وشجاعته، وزهده.

 في حسن خلقته صلّى الله عليه وسلّم

إعلم أنّ من نظر إلى خصال الكمال وجد نبيّنا حائزا لجميعها، محيطا بشتاتها. أمّا حسن خلقته : فقد كان كما في الحديث الصّحيح أحسن النّاس وجها، وأكملهم صورة. وأحسنهم خلقا، حتّى كأنّ الشّمس تجري في وجهه، إذا ضحك تلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أجمل النّاس من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب.

يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله. وكان له شعر يبلغ شحمة أذنيه، فإذا جاوزها قصّه.

وكان نظيف الجسم، طيّب الطّيب والعرق طبعا، لا يشمّ عنبر ولا مسك أطيب من ريحه، يصافح المصافح فيظلّ يومه يجد ريح يده، سواء مسّها بطيب أم لا، ويضع يده على رأس الصّبيّ فيعرف من بين الصّبيان بريحه، ولا يمرّ في طريق فيتبعه أحد إلّا عرف أنّه سلكه من طيبه، لم يكن منه شيء يكره .

فائدة: في أشبه النّاس صورة بالنّبيّ

أشبه النّاس صورة بالنّبيّ من أولاده: فاطمة، وابناها الحسن والحسين رضي الله عنهم، ومن أهل بيته أربعة: وهم: بنو أعمامه الثّلاثة: جعفر بن أبي طالب، وقثم بن العبّاس، وأبو سفيان المغيرة بن الحارث، والسّائب بن يزيد جدّ الإمام الشّافعيّ رضي الله عنهم.

وقد نظم- هؤلاء الأربعة مع الحسن بن عليّ- بعض الفضلاء فقال:

بخمسة شبّه «1» المختار من مضر

يا حسن ما خوّلوا من وجهه الحسن

كجعفر وابن عمّ المصطفى قثم

وسائب وأبي سفيان والحسن «2»

 في حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم

وأمّا حسن خلقه : فقد كانت فيه الأخلاق الحميدة، والآداب المجيدة، جميعها على الانتهاء في كمالها، والاعتدال في غايتها، حتّى أثنى الله عليه بذلك، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم ٦٨/ ٤] .

وفي «الصّحيحين» : كان خلقه القرآن «3» – أي: مطبوعا على ما احتوى عليه من العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، آخذا للعفو، آمرا بالعرف، معرضا عن الجاهلين- إلى غير ذلك.

وقال : «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» «4» .

وكان مجبولا عليها في أصل خلقته، مطبوعا عليها في أوّل فطرته؛ بالجود الإلهيّ، والتّخصيص الرّحمانيّ، ثمّ ازداد كمالا بترادف نفحات الكرم، وإشراق أنوار المعارف والحكم، وطلوع شمس النّبوّة والرّسالة، واتّساق بدر الخلّة والمحبّة، إلى ما لا يحيط به الوصف، ولا يدركه الوهم، ولا يعلمه إلّا مانحه ومسديه، ومعيد الفضل ومبديه.

 في وفور عقله صلّى الله عليه وسلّم

وأمّا وفور عقله وذكاء لبّه : فمن تأمّل حسن تدبيره لأمور بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسته للخاصّة والعامّة، مع عجيب شمائله، وغريب سيره، فضلا عمّا نشره من العلم، وقرّره من الشّرع، وما علّمه الله من ملكوت سماواته وأرضه، وآيات قدرته، وأطلعه عليه ممّا كان وممّا سيكون، ومع ما خصّه الله به من جوامع كلمه، وبدائع حكمه، ومع التّأييد الإلهيّ والعصمة بالوحي السّماويّ، فإنّه يقتضي العجب، ويذهب به الفكر، ويعلم يقينا مصداق قوله تعالى تشريفا له وتكريما وتعظيما: { وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } (سورة النّساء ٤/ ١١٣)

وعن وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى- قال: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت فيها أنّ الله تعالى لم يعط جميع الأوّلين/ والآخرين من العقل في جنب عقل نبيّه محمّد إلّا كحبّة رمل من رمال الدّنيا.

ولا شكّ أنّ العقل عنصر الأخلاق الشّريفة، ومنه ينبعث العلم والمعرفة، فبحسب عقله كانت علومه ومعارفه، وهو عليه الصّلاة والسّلام أحسن النّاس خلقا وعلما ومعرفة وعقلا، وذلك سجيّة فيه وطبعا

وصف ما امتاز به النّبيّ في خلقه وخلقه

وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى- فيها «5» :

فاق النّبيّين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم


وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم «6»


وواقفون لديه عند حدّهم

من نقطة العلم أو من شكلة الحكم


فهو الّذي تمّ معناه وصورته

ثمّ اصطفاه حبيبا بارئ النّسم «7»


منزّه عن شريك في محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسم

 في حسن عشرته صلّى الله عليه وسلّم

وأمّا حسن عشرته ووفور شفقته ورحمته: فقد قال الله تعالى: { لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ } ( سورة التّوبة ٩/ ١٢٨) .

وفي «الصّحيحين» ، أنّه كان أوسع النّاس صدرا، وأكرمهم عشرة، وألينهم عريكة- أي: خبرة- «8»قد وسع النّاس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحقّ سواء «9» . يؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر النّاس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره، ويتعهّد أصحابه، ويعطي كلّ جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، ومن جالسه صابره حتّى ينصرف، ومن سأله حاجة لم يردّه إلّا بها، أو بميسور من القول «10» .

وما أخذ أحد بيده فأرسلها حتّى يرسلها الآخذ «11» . وكان يجيب من دعاه من حرّ أو عبد، أو غنيّ أو فقير، وما دعاه أحد إلّا قال: «لبّيك» «12» . ويعود المرضى، ويقبل عذر المعتذر، ويقبل الهديّة ويكافئ عليها، ويمازح أصحابه. ولكن لا يقول إلّا حقّا، ويخالطهم ويحادثهم، ويضع أطفالهم في حجره/، ويداعب صبيانهم، ويدعوهم بأحبّ أسمائهم «13» .

ويبدأ من لقيه بالسّلام والمصافحة، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى ينتهي «14» .

وكان مجلسه مجلس حلم وحياء، وصدق وأمانة، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير.

 في سماحته وجوده صلّى الله عليه وسلّم

وأمّا سماحته وجوده : فمن المعلوم أنّه كان بالمحلّ الأكمل. وفي «الصّحيح» ، أنّه كان أجود النّاس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان «15» .

وأنّه كان إذا لقيه جبريل عليه السّلام أجود بالخير من الرّيح المرسلة «16» .وما سئل عن شيء قطّ فقال: «لا» «17» .

وسبق أنّه أعطى رجلا من غير سؤال غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة «18» .

وأنّه قال: «لو كان عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا» «19» .

وفي «الصّحيحين» ، أنّه قال: «ما أحبّ أن يكون لي مثل (أحد) ذهبا، تمسي عليّ ثالثة وعندي منه شيء إلّا أن أقول به في عباد الله، هكذا وهكذا وهكذا» وحثا بين يديه وخلفه، وعن يمينه وشماله «20» .

وأنّه جاءه مال من (البحرين) – أي: نحو مئة ألف- فأمر بطرحه على نطع في المسجد، فصلّى العصر، ثم انصرف إليه، فما قام من مجلسه حتّى فرّقه عطاء «21».

في شجاعته صلّى الله عليه وسلّم

وأمّا شجاعته : فقد كان في ذلك بالمكان الّذي لا يجهل «22» .

بذلك وصفه من عرفه، فقد حضر المواقف الصّعبة، وفرّ الكماة منه غير مرّة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يتزحزح، كما سبق في يوم (أحد) ، ويوم (حنين) «23» .

وثبت عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال- وهو البطل المقدام واللّيث الضّرغام-: كنّا إذا حمي الوطيس، واشتدّ البأس، واحمرّت الحدق؛ اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، وكان أشجعنا من كان أقرب إليه «24» .

وسبق قول العّباس رضي الله عنه في يوم (حنين) : وأنا آخذ بلجام بغلته ، أكفّها إرادة أن لا تسرع «25»

وقول البراء بن عازب رضي الله عنهما: لكنّ رسول الله لم يفرّ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء، وابن عمّه أبو سفيان آخذ بلجامها يكفّها وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، … أنا ابن عبد المطّلب»فما رئي [من النّاس] يومئذ أشد منه «26» .

في زهده صلّى الله عليه وسلّم

وأمّا زهده في الدّنيا، وإيثاره للعقبى: فحسبك ما اشتهر عنه من تقلّله منها، وإعراضه عن زهرتها، امتثالا لقول ربّه سبحانه وتعالى: { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى } (سورة طه ٢٠/ ١٣١) .

وكان - كما اتّفق عليه نقلة الأخبار عنه- مقتصرا في نفقته وملبسه ومسكنه على قدر الضّرورة منها، ولقد عرضت عليه أن تجعل له بطحاء (مكّة) ذهبا، أو أن تكون الجبال ذهبا لا حساب عليه فيها، فاختار أن يكون نبيّا، عبدا، يجوع يوما، ويشبع يوما، ثمّ جيئت إليه الأموال من الغنائم والخمس والزّكوات والجزية والهديّة فصرفها في مصارفها، وقوّى المسلمين بها، وسدّ به فاقتهم، وأغنى به عيلتهم «27» ، ولم يستأثر منها بشيء دونهم.

وفي «الصّحيحين» : ما شبع نبيّ الله وأهله من خبز برّ ثلاثة أيّام تباعا حتّى فارق الدّنيا. «28» .

وإنّا كنّا لننظر إلى الهلال، ثمّ الهلال، ثمّ الهلال، ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أوقد في أبيات النّبيّ نار، [قال: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان] ما هو إلّا التّمر والماء «29» .

وأنّه كان كثيرا ما يرى عاصبا بطنه من الجوع«30» وأنّه مات ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير «31» .

وصف زهد النّبيّ

وما أحسن قول/ صاحب البردة فيها «32» :

ظلمت سنّة من أحيا الظّلام إلى 

أن اشتكت قدماه الضّرّ من ورم


وشدّ من سغب أحشاءه وطوى

تحت الحجارة كشحا مترف الأدم «33»


وراودته الجبال الشّمّ من ذهب

عن نفسه فأراها أيّما شمم «34»


وأكّدت زهده فيها ضرورته

إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم «35»


وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من

لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم