العدل خلاف الجور والظلم، وهو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه بإنصاف، دون زيادة أو نقص. والفضل: إحسان، ومجاوزة للعدل إلى ما هو أفضل منه وليس بواجب لكنه مستحب مرغب فيه. وشريعة الإسلام لكمالها قد شرعت العدل وحذرت من الظلم، وندبت إلى الفضل وحثت عليه، ورغبت فيه. والقرآن بيّن أن السعداء أهل الجنة وهم أولياء الله نوعان؛ أبرار مقتصدون ومقربون سابقون، فالدرجة الأولى تحصل بالعدل وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلّا بالفضل وهو أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات.([1])
فالعدل طريق الاستقامة، والفضل طريق طلب زيادة الأجر، وقد ذكر الإمام المحاسبي في آداب النفوس أن بعض الحكماء قال: “طريق الآخرة واحد والناس فيه صنفان: فصنف أهل العدل، وصنف أهل الفضل. وَالْعدْل عَدْلَانِ: عدل ظَاهر فِيمَا بَيْنك وَبَين النَّاس وَعدل بَاطِن فِيمَا بَيْنك وَبَين الله، وَطَرِيق الْعدْل طَرِيق الاسْتقَامَة، وَطَرِيق الْفضل طَرِيق طلب الزِّيَادَة.
الَّذِي على النَّاس لُزُوم الْعَمَل بِهِ طَرِيق الاسْتقَامَة، وَلَيْسَ عَلَيْهِم لُزُوم طَرِيق الْفضل.
وَالصَّبْر والورع مَعَ الْعدْل، وهما واجبان، والزهد والرضى مَعَ الْفضل، وليسا بواجبين، والانصاف مَعَ الْعدْل والاحسان مَعَ الْفضل.
وَمن شغله الْعدْلُ عَن الْفضل فمعذور، وَمن شغله الْفضل عَن الْعدْل فَهُوَ مخدوع مُتبع لهوى نَفسه وعَلى الانسان معرفَة الْعدْل وَلَيْسَ عَلَيْهِ معرفَة الْفضل إِلَّا تَبَرعا، وهكذا كل عملٍ لا يجب على العبد فعله لا يجب عليه علمه”.([2])
هذه الكلمات في غاية الجمال والدقة، فهي تبين مكانة العدل وقيمة الفضل، وهذه الشريعة الكاملة تجمع بين تلك الفضيلتين، وبالمثال يتضح المقال:
من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة 280: [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] فهذا عدل واجب، وهو إنظار المعسر، فمن تجاوز هذا العدل في إعنات المعسر استحق العقوبة والإثم، ثم قال تعالى مرشدا إلى الفضل: [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] فهذا فضل مستحب مندوب إليه فمن فعله أثابه الله ورفع درجته ومن تركه فلا إثم عليه ولا عقوبة.
وكذلك أيضا قوله تعالى في سورة النساء 92: [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ] فهذا عدل ليس للقاتل الامتناع منه، لكنه سبحانه أرشد إلى الفضل وندب ولي القاتل إليه في قوله: [إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا] فهذا فضل مستحب مندوب إليه.
وكقوله تعالى مبينا العدل في شأن الجنايات في سورة المائدة 45: [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] فهذا عدل لا يسع المؤمن الامتناع منه، لكنه سبحانه بين الفضل هنا وأرشد إليه فقال: [فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ] فهذا ندب إلى الفضل وترغيب فيه.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في بيان العدل فيما يلزم المطلق في سورة البقرة 237: [وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ] فهذا عدل. ثم قال تعالى مرشدا إلى الفضل والإحسان: [إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى].
وفي شأن العدل وبيان حق المظلوم قال تعالى في سورة النحل 126: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] فهذا هو تمام العدل، أن يمكن المظلوم من الانتصار وأخذ مظلمته دون زيادة عليها، لكنه سبحانه يرشد إلى الفضل ويندب إليه فيقول: [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] فالصبر على المظلمة والعفو عن المسيء طلبا للثواب من الله أفضل.
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الشورى 40: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا] فهذا عدل، وتسمية جزاء السيئة سيئة من قبيل المشاكلة في اللفظ فحسب، وقد أرشد سبحانه إلى ما هو أفضل من الانتقام ورد السيئة بمثلها فقال سبحانه: [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ] فهذا فضل وهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم من الانتصار بالمعاقبة، فإن الصبر والعفو والإصلاح وكظم الغيظ من أمهات الفضائل التي يسمو بها العبد، ويرفعه الله بها درجات، ويرد بها عدوَّه الألَد وليًّا حميما وصديقا مصافيا.([3])
والأمثلة التي تدل على وجوب العدل وترشد إلى الفضل كثيرة جدا وبعضها يذكر العدل فقط كقوله تعالى:” [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] المائدة، الآية:8.
وبعض النصوص يذكر الفضل فقط كقوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } البقرة: 261 .
وبعض النصوص يجمع بينهما كما مر في الأمثلة المتقدمة، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية وهي قوله سبحانه: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] النحل، الآية:90.
يقول “يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] النحل، الآية:126…، وقـال تعـــالى: [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ] المائدة، الآية:45، إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على هذا، من شرعية العدل والندب إلى الفضل”.([4])
ومسألة كون هذه الشريعة شريعة عدل وفضل لا يعني خلو الشرائع السماوية السابقة من الجمع بين فضيلتي العدل والفضل ولكن لما غلب ذكر إحدى الفضيلتين، كالعدل في شريعة، والفضل في أخرى، وجاء ذكرهما متوازنا في شريعة الإسلام، ساغ ذلك التقسيم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “… الشرائع ثلاثة، شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل، فتوجب العدل وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي جمع فيه بين العدل والفضل، مع أنا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح عليه السلام أيضاً أوجب العدل وندب إلى الفضل.
وأمّا من يقول إن المسيح أوجب الفضل وحرّم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين، لكن قد يقال إن ذكر العدل في التوراة أكثر وذكر الفضل في الإنجيل أكثر والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال”.([5])
[1] – الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية: 5/59.
[2] – آداب النفوس للحارث المحاسبي: ص 57.
[3] – الجواب الصحيح مرجع السابق.
[4] – تفسير ابن كثير: 4/595..
[5] – الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/59. والأجوبة الفاخرة للقرافي ص: 43.