من أصول الإيمان باليوم الآخر عند أهل السنة والجماعة الإيمان بـ شفاعة النبي ﷺ يوم القيامة، وطلب شفاعة النبي ﷺ في أهل الموقف عامة لفصل القضاء بينهم، وخص بها النبي ﷺ دون غيره من الأنبياء.
فهي الشافعة العامة لأهل المحشر، وهي المقام المحمود الذي ذكر الله عز وجل له، ووعده إياه كما قال تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79]، وأمرنا رسول الله ﷺ أن نسأل الله إياه له ﷺ بعد كل أذان، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة). فما قصة شفاعة النبي ﷺ؟
حديث الشفاعة العظمى
روى الإمام مسلم – يرحمه الرحمن – في صحيحه: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (أُتِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يومًا بلحم. فَرُفِعَ إليه الذِّراعُ وكانت تُعْجِبُه. فنَهس منها نَهسةً فقال أنَا سيدُ الناسِ يومَ القيامةِ. وهل تَدْرُونَ بم ذاك؟ يَجمعُ اللهُ يومَ القيامةِ الأَوَّلِينَ والآخِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ، فيُسْمِعُهُم الداعِي وينفذهم البصر، وتَدْنُو الشمسُ فيَبْلُغُ الناسُ من الغَمِّ والكربِ مالا يَطِيقونَ، ومالا يَحْتملونَ. فيقولُ بعضُ الناسِ لبعضٍ: ألا تَرَوْنَ ما أنتم فيه؟ ألا تَرَوْنَ ما قد بلغكم؟ ألا تنظرونَ من يشفعُ لكم إلى ربِّكم؟
فيقولُ بعضُ الناسِ لبعضٍ: ائْتُوا آدمَ. فيأتونَ آدمَ، فيقولونَ: يا آدمُ! أنت أبو البَشَرِ، خلقك اللهُ بيدِه ونفخ فيك من رُوحِه وأمر الملائكةَ فسجدوا لك، اشفعْ لنا في ربِّك، ألا تَرَى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقولُ آدمُ: إن ربِّي غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبلَه مِثلَه. ولن يَغضَبَ بعدَه مِثلَه. وإنه نهاني عن الشجرةِ فعَصَيْتُه. نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوحٍ.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوحُ! أنت أولُ الرسُلِ إلى الأرضِ، وسمَّاك اللهُ عبدًا شَكورًا، اشفعْ لنا إلى ربِّك، ألا تَرَى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقولُ لهم: إن ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبلَه مِثلَه، ولن يَغضبَ بعدَه مِثلَه، وإنه قد كانت لي دعوةٌ دعوتُ بها على قومي. نفسي، نفسي، اذهبوا إلى إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. فيأتون إبراهيمَ فيقولون: أنت نبيُّ اللهِ وخليلُه من أهلِ الأرضِ. اشفعْ لنا إلى ربِّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقولُ لهم إبراهيمُ: إن ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبلَه مِثلَه ولا يَغضبُ بعدَه مِثلَه. وذكر كَذِباتِه. نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فيقولون: يا موسى! أنت رسولُ اللهِ، فضَّلك اللهُ، بِرِسالاتِه وبتكليمِه على الناسِ، اشفعْ لنا إلى ربِّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: إن ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبلَه مِثلَه ولن يَغضبَ بعدَه مِثلَه، وإني قتلتُ نفسًا لم أومَرْ بقتلِها، نفسي، نفسي. اذهبوا إلى عيسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسولُ اللهِ، وكَلَّمْتَ الناسَ في المهدِ، وكلمةٌ منه ألقاها إلى مريمَ، ورُوحٌ منه. فاشفعْ لنا إلى ربِّك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: إن ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبلَه مِثلَه ولن يَغضبَ بعدَه مِثلَه. ولم يَذكُرْ له ذنبًا. نفسي، نفسي. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
فيأتوني فيقولون: يا مُحَمَّدُ! أنت رسولُ اللهِ وخاتَمُ الأنبياءِ، وغفر اللهُ لك ما تقَدَّم من ذنبِك وما تأخر، اشفعْ لنا إلى ربِّك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأَنطلِقُ فآتي تحتَ العرشِ فأقعُ ساجدًا لربي، ثم يَفتحُ اللهُ عليَّ ويُلهِمُنِي من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليه شيئًا لم يَفْتَحْهُ لأحدٍ قبلي. ثم يُقالُ: يا مُحَمَّدُ! ارفعْ رأسَك. سَلْ تُعْطَهْ، اشفعْ تُشَفَّعْ. فأرفعُ رأسِي فأقولُ: يا ربِّ! أمتي. أمتي. فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ! أَدخِلِ الجنةَ من أُمَّتِك، مَن لا حسابَ عليه، من البابِ الأيمنِ من أبوابِ الجنةِ. وهم شركاءُ الناسِ فيما سِوَى ذلك من الأبوابِ. والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه! إن ما بين المِصراعَيْنِ من مَصاريعِ الجنةِ لَكَما بين مكةَ وهَجَرٍ. أو كما بينَ مكةَ وبُصْرَى.
وفي رواية للبخاري: (فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.. ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله). [متفق عليه]
الشرح الإجمالي لحديث الشفاعة
قوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة) والسيد الفائق قومه المفزوع إليه عند الشدائد، وقد ياتي بمعنى المُقدَّم عليهم والسيد هو الذي يسُودُ قومه أي يفُوقهم بما جمع من الخصال الحميدة بحيث يلجئون إليه ويُعوِّلون في مهماتهم.
وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبينا محمد ﷺ في ذلك المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون ويشهد له بذلك النبيون والمرسلون وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء فكلهم تبرأ منها ودل على غيره إلى أن بلغت محلها واستقرت في نصيبها. وخص يوم القيامة وإن كان سيدهم أيضًا في الدنيا لخُلُوص ذلك اليوم له بلا منازع لأن آدم عليه السلام وجميع أولاده تحت لوائه ﷺ.
قوله: (وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟) أي سيادتي لجميع الناس يوم القيامة.
(يجمع الله) سبحانه وتعالى: (يوم القيامة الأولين والأخرين في صعيد واحد) أي في أرض واسعة مستوية (فـ) لأجل استوائها (يُسمعهم) النداء (الداعي) أي المُنادي الواحد (وينفذهم) أي يخرُقهم ويُجاوزهم (البصر) حتى يرى ما وراءهم.
قال ابن الأثير: أي يبلغهم بصر الناظر أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم لاستواء الصعيد. اهـ نهاية، وقال القرطبي: معناه أنهم مجتمعون مهتمون بما هم فيه لا يخفى منهم أحد بحيث إن دعاهم داع سمعوه وإن نظر إليهم ناظر أدركهم، ويحتمل أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب أو أمر آخر كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6].
العرض على آدم عليه السلام والاعتذار
(فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَر، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله تعالى حقيقة، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
(فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ) فيه إثبات صفة الغضب لله تعالى على ما يليق بجلاله.
(وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ) أي عن أكلها (فَعَصَيْتُهُ) أي خالفت نهيه، فأكلتها (نَفْسِي نَفْسِي) “نفسي” الأولى مبتدأ حُذف خبره، أي نفسي هي التي تستحقّ أن يُشْفَع لها، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي المستحقّ للشفاعة نفسي، و”نفسي” الثانية تأكيد عليهما.
العرض على نوح عليه السلام والاعتذار
قوله:(اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ) استُشكل هذاَ بأن آدم عليه السلام كان نبيًّا، وبالضرورة يُعلم أنه كان على شريعة من العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك منه، فعلى هذا فهو رسول إليهم، فيكون هو أول رسول.
وأجيب بأنه يحتمل أن تكون الأوليّة في قولى أهل الموقف لنوح عليه السلام مقيّدةً بقولهم: إلى أهل الأرض؛ لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهلٌ، أو لأن رسالة آدم عليه السلام إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أُرسل إلى بنيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرّقهم في عدّة بلاد، وآدم عليه السلام إنما أُرسل إلى بنيه فقط، وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة.
قوله (وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا): إشارة إلى قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} [الإسراء: 3]، قال في “الفتح”: وفي الحديث ردّ على من زعم أن الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} لموسى عليه السلام، وقد صحح ابن حبان من حديث سلمان الفارسيّ رضي الله عنه: “كان نوح إذا طَعِمَ، أو لَبِسَ حَمِدَ الله، فسُمِّي عبدًا شكورًا.
(اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ، دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي) قال القرطبيّ رحمه الله: يريد قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
العرض على إبراهيم عليه السلام والاعتذار
ثم يقول نوح عليه السلام: (نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﷺ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ الله، وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) قال القرطبيّ رحمه الله: إبراهيم بالسريانيّة: هو الأب الرحيم، حكاه المفسّرون، و”الخليل”: الصَّدِيق المخلص، و”الْخُلّة” بضم الخاء: الصداقة والمودّة.
قول أهل الموقف للخليل إبراهيم: (اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ) قد فسّرها في الرواية الأخرى بما ليس كذبًا على التحقيق، ونحن نذكرها، ونبيّنها – إن شاء الله تعالى -:
- من هذه الكذبات: قول إبراهيم في الكوكب: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، قال ابن كثير: والحقّ أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرًا لقومه، مُبَيِّنًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل، والأصنام، فَبَيَّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية .. وبَيَّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السّيّارة السبعة المتحيرة، .. ثم انتقل إلى القمر، فَبَيَّن فيه مثل ما بيّن في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك.
- ومنها قوله لآلهتهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، إنما قاله ممهّدًا للاستدلال على أنها ليست آلهةً، وقطعًا لقومه في قولهم: إنها تضرّ وتنفع، وهذا الاستدلال، والذي قبله يتحرّر من الشرط المتّصل، ولذلك أردف على قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وعند ذلك قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، فقال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 66]، فحَقّت كلمته، وظهرت حجته.
- ومنها: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وهذا تعريضٌ، وحقيقته أنه سيسقم، واسم الفاعل بمعنى المستقبل كثير، ويَحْتَمِل أن يُريد به أنه سقيم الحجة على الخروج معكم؛ إذ كان لا يصحّ على جواز ذلك حجّة.
- ومنها: ما جاء في حديث إبراهيم عليه السلام أنه قال لزوجه سارة حين دخل أرض الجبّار، فسُئل عنها، فقال: إنها أختي، وصَدَقَ، فإنها أخته في الإسلام، وكذلك جاء عنه منصوصًا أنه قال: إنما أنتِ أختي في الإسلام.
قال القرطبي: «وبالجملة فأوجه الأمور واضحة، وصِدْقها معلومٌ على الأوجه المذكورة، فليس في شيء منها ما يقتضي عِتابًا، ولا عقابًا، لكنّ هولَ المقام، وشدّة الأمر حَمَله على الخوف منها.»[1]
ثم يعتذر الخليل إبراهيم عليه السلام من الشفاعة ويقول: (نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى).
العرض على موسى عليه السلام والاعتذار
(فَيَأْتُونَ مُوسَى ﷺ، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ الله، فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ..) هذا إشارة إلى قوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]
وخصوصيّة موسى عليه السلام من جهة أنه سمع كلام الله تعالى بلا واسطة، وأما سائر الناس، فإنما سمعوه بواسطة جبريل عليه السلام، ثم بواسطة النبيّ ﷺ.
ثم يقولون لموسى عليه السلام: (اشْفَعْ لنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟)، (فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى ﷺ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا، لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ﷺ).
وهنا يذكر موسى عليه السلام أنه قتل نفسا قبل أن يؤذن له في قتلها وهو القبطي الذي كان في خصام مع رجل من بني إسرائيل وموسى من بني إسرائيل ﷺ والقبطي من أهل فرعون { ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ [القصص: 15] دون أن يؤمر بقتله فرأى ﷺ أن هذا يحول مما يحول بينه وبين الشفاعة للخلق حيث قتل نفسا لم يؤمر بقتلها.
العرض على عيسى عليه السلام والاعتذار
يعتذر موسى عليه السلام قائلا: (اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ﷺ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ الله، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن) أي صغيرًا في الحال التي يُمهد لك فيها موضعك؛ لتضطجع عليه؛ لصغرك (وَكَلِمَةٌ مِنْهُ) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: سمّاه كلمة؛ لأنه بكلمة “كن” من غير أن يتقلّب في أطوار الخلق كما تقلّب غيره.
يجيب عيسى عليه السلام قائلا: (إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنبًا- نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم). أي لم يذكر ذنبا عمله .
لكن ورد في حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه: “إني عُبدت من دون الله”.
وفي رواية أحمد، والنسائيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: “إني اتُّخِذتُ إلهًا من دون الله”.
وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه، وزاد: “وإن يُغفَر لي اليومَ حسبي”.
شفاعة النبي ﷺ لاهل الموقف
قوله: (نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُوني، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ الله، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاء، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْش، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي)
قال القرطبيّ رحمه الله: قد زاد عليه في حديث أنس رضي الله عنه: “فأنطلق، فأستأذن على ربّي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد، ثم أخرّ ساجدًا”، قال: وبمجموع الحديثين يكمل المعنى، ويُعلَم مراعاة النبيّ ﷺ لآداب الحضرة العليّة”.
(ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبّ، أَمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ)
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه ﷺ شُفِّع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لَمّا أُمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شَرَع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم، ولذلك قال في الرواية الأخرى: “فيؤذن له، وتُرسَل الأمانة والرحِمُ، فيقومان جنبتي الصراط”، هذا المساق أحسن من مساق حديث معبد، عن أنس رضي الله عنه، فإنه ذكر فيه عقب استشفاعه لأهل الموقف أنه أُجيب بشفاعته لأمته، وليست الشفاعة العامّة التي طَلَب منه أهل الموقف، وكأنه هذا الحديث سُكِت فيه عن هذه الشفاعة، فذكرت شفاعته لأمته؛ لأن هذه الشفاعة هي التي طُلبت من أنس رضي الله عنه أن يُحدّث بها في ذلك الوقت، وهي التي أنكرها أهل البدع.
قال القرطبي في شرح هذا الحديث: “مقصود هذا الحديث أن يبين أنه لا يتقدمه شافع، لا من الملائكة ولا من النبيين، ولا من المؤمنين في جميع أقسام الشفاعات، على أن الشفاعة العامة لأهل الموقف خاصة لا تكون لغيره. وهذه المنزلة أعظم المراتب وأشرف المناقب”.
النبي ﷺ شافع مشفع
هذا الحديث الشريف يثبت بشكل قاطع أن النبي ﷺ يبعث يوم القيامة في مقام محمود ودرجة رفيعة حيث يقام في رتبة عالية كما في الحديث: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه [يوم القيامة] ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، ولا فخر” [رواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح].
قال القرطبي: “محمد ﷺ أخَّره عن الأنبياء زمانًا وقدَّمه رتبةً ومكانًا جعله الله واسطة النظام وكمل بكماله أولئك الملأ الكرام، وخصه من بينهم بالمقام المحمود في اليوم المشهود، فهو شفيعهم إذا استشفعوا، وقائدهم إذا وفدوا، وخطيبهم إذا جمعوا وسيدهم إذا ذكروا … الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة، وطال عليهم، وعظم كربهم، طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدؤون بآدم عليه السلام فيسألونه الشفاعة فيقول: نفسي نفسي لست لها وهكذا يقول من سُئلها من الأنبياء حتى ينتهي الأمر إلى سيدنا محمد ﷺ فيقول: “أنا لها” فيقوم في أرفع مقام ويخص بما لا يحصى من المعارف والإلهام وينادى بألطف خطاب وأعظم إكرام: يا محمد! قل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا مقام لم ينله أحد من الأنام ولا سمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام”.
هذا في شفاعته العامة لأهل المحشر إذ لا شافع في هذا المقام غيره ومن خصائصه أيضًا فيما يتعلق بالشفاعة أنه أول شافع يوم القيامة في الشفاعات الأخرى غير العامة وقد قال ﷺ: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع”.
أنواع الشفاعة يوم القيامة
ثبت بهذا الحديث أنواع الشفاعات يوم القيامة جواز وقوعها بالعقل ووجوبها بالسمع، قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا، ووجوبها سمعًا بصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه: 109]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وأمثالهما، وبخبر الصادق ﷺ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف، ومن بعدهم من أهل السنة عليها.
لكن الشفاعة بمجموعها على خمسة أقسام:
[أولها]: مختصة بنبينا ﷺ، وهي الإراحة من هول الموقف، وتعجيل الحساب، كما صرح بها هذا الحديث.
[الثانية]: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه وردت أيضًا لنبينا ﷺ، وقد ذكرها مسلم رحمه الله، وسننبه عليها في موضعها.
قال ابن عثيمين رحمه الله: وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عَرَصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيها من أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذِّبوا ونُقّوا؛ أُذن لهم في دخول الجنة.
ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب، حتى يشفع النبي ﷺ لأهل الجنة أن يدخلوها، فيدخل كل إنسان من باب العمل الذي يكون أكثر اجتهادًا فيه من غيره، وإلا، فإن المسلم قد يدعى من كل الأبواب.
وهذه الشفاعة يشير إليها القرآن؛ لأن الله قال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وهذا يدل أن هناك شيئًا بين وصولهم إليها وبين فتح الأبواب.
قال في العقيدة الواسطية: “وهاتان الشفاعتان خاصتان له”، يعني: الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في دخول الجنة خاصة بالنبي ﷺ.
[الثالثة]: الشفاعة لقوم استوجبوا النار، فيَشْفَع فيهم النبيّ ﷺ، ومن شاء الله تعالى.
[الرابعة]: فيمن دَخَل النار من المذنبين، فقد جاءت هذه الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبيّنا ﷺ، والملائكة، وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال: لا إله إلا الله، كما جاء في الحديث، حتى لا يبقى فيها إلا الكافرون، ومن حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود، كما جاء في الحديث.
والنوع الثالث والرابع للنبي ﷺ ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم.
أما فيمن دخلها أن يخرج منها؛ فالأحاديث في هذا كثيرة جدًّا، بل متواترة.
وأما فيمن استحقها أن لا يدخلها؛ فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول ﷺ للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم؛ فإنه من لازم ذلك أن لا يدخل النار؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: “اللهم! اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين … ” الحديث
[الخامسة]: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها. وهذا النوع يلحق بالنوع الثاني. كرجل منحه الله منزلة عليا، وأبوه في منزلة دنيا، فالنبي ﷺ يشفع ليصل هذا الأب إلى منزلة الابن.
ويمكن أن يستدل لهذه الشفاعة بقول الله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] وهذه الشفاعة متفق عليها أيضاً.