تعددت أساليب التسعير للسلع في البيوع بين المتعاقدين وتنوعت طرقها ، لكنها تعود في مجملها إلى طريقتين رئيسيتين، هما:
الأولى: طريقة المساومة
الثانية: طريقة بيوع الأمانة الثلاثة، القائمة على الثقة بين البائع والمشترى
الطريقة الأولى: طريقة المساومة
هي طريقة المماكسة التى لا ترد فيها ذكر رأس مال السلعة عند التعاقد، ويندرج تحتها ثلاثة أنواع من البيوع كما يلي:
- بيع المساومة
هو أحد أنواع البيع الشهيرة في معاملات الناس وفي أسواقهم، وهو البيع الذي يعرض فيه البائع ثمن المبيع للمشتري دون أن يذكر رأس المال الذى هو السعر الأصل للسلعة، ثم يتساومان سعر السلعة إلى أن يتراضيا ويتفقا على الثمن المحدد.
يقول ابن جزي المالكي في تعريه:” المساومة هو أن يتفاوض المشتري مع البائع في الثمن حتى يتفقا عليه من غير تعريفٍ بكم اشتراها”[1]
كأن يعرض الأرض للبيع بمائة وعشرين ألف ويساومه المشترى على مائة ألف، ثم يتفقان على ذلك.
وجاء في قصة جابر رضي الله عنه مع النبي ﷺ قوله ” كنا مع رسول الله ﷺ في سفرٍ فقال: «ناضحك – جملٌ يسقى عليه- تبيعنيه إذا قدمنا المدينة إن شاء الله بدينارٍ؟ والله يغفر لك. قال: قلت: هو ناضحكم يا رسول الله قال: تبيعنيه إذا قدمنا المدينة إن شاء الله بدينارين. قال: قلت: ناضحكم يا رسول الله، فما زال يقول حتى بلغ عشرين ديناراً، كل ذلك يقول: والله يغفر لك، فلما قدمنا المدينة جئت به أقوده قلت: دونكم ناضحكم يا رسول الله، قال: يا بلال أعطه من الغنيمة عشرين ديناراً، وارجع بناضحك إلى أهلك[2]
ومحل الشاهد أن النبي ﷺ تفاوض مع جابر في ثمن البعير بالسوم حتى تم ذلك بالتراضى بين الطرفين، ونظيره ما رواه أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال لبنى النجار: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم.
قال الحافظ في الفتح معلقا:” وهو أمرٌ لهم بذكر الثمن معيناً باختيارهم على سبيل السوم، ليذكرَ هو لهم ثمناً معيناً يختاره ثم يقع التراضى بعد ذلك”[3]
والمقصود أن بيع المساومة بيع جائز، وعليه عمل المسلمين في تجاراتهم دون نكير، ولكن هناك بيع مساومة محرمة شرعا، وهو سوم المسلم على سوم أخيه، كأن أن يتفق المتعاقدان على بيع سلعة بثمن معين ويحصل بينهما الركون والتراضى، ثم يأتى شخص آخر في أثناء تمام الركون والرضا فيساوم البائع بثمن أعلى من الثمن المتفق عليه بين الطرفين سابقا، فهذا الصنيع لا يجوز شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام: “لا يسوم الرجل على سوم أخيه”[4]
كقوله للبائع: أشتري منك الأرض الذي رضيت بيعه لزيد بأكثر من السعر يريد شرائه منك.
ولا يجوز مثل هذا العقد حتى ولو كان على سوم غير مسلم على الصحيح.
وأما من حيث عدم وجود السكون والرضا واستقرار الثمن والمثمن بين المتبايعين فلا بأس بالسوم على السوم في هذه الصورة.
2- بيع المزايدة
هو البيع العلني للمشترين المتنافسين في زيادة سعر السلعة المعروضة، حتى ينتهى البيع إلى آخر من جاء بأعلى سعر يرتضيه البائع.
قال ابن جزي المالكي: “بيع المزايدة هو أن يُنادَى على السلعة ويزيد فيها بعضُهم على بعضٍ، حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها”[5]
وكثير من أنواع البيوع القديمة والحديثة تدور في فلك حقيقية عقد بيع المزايدة وإن اختلفت التسمية.
وقد بوب الإمام البخاري في كتابه الصحيح: “باب بيع المزايدة” ثم أورد تحته قول عطاء: ” أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم فيمن يزيد
وفيه: جابر، أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبى (ﷺ) فقال:” من يشتريه منى”؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه.[6]
وفي قول عطاء إشعار بإجماع الصحابة على جواز بيع المزايدة في المغانم، وكذا في الميراث لحديث الباب فيقاس عليهما غيرهما، وذكر المغانم والميراث في الباب يحمل على أنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ولذا أجاز بيع المزايدة أكثر أئمة الدين في المغانم والميراث وغيرهما، وتبعهم على ذلك مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بقراره رقم 73 (4/ 8) وغيرهم.
وقال ابن العربي: “لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والمواريث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك”[7]
ولإستناس بحديث أنس:” أن رسول الله ﷺ، باع حلسا وقدحا، وقال: من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي، ﷺ، من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه”[8]
قال ابن قدامة: وهذا إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة.[9]
لكن يجب أن يقيد بيع المزايدة بشرطين مهمين كما هو قول الشافعية:
الشرط الأول: أن لا يكون فيه قصد الإضرار بأحد
الشرط الثاني: إرادة الشراء الحقيقية، وإلا حرمت الزيادة لإنها من النجش.
وثمة أنواع المزاد مستجدة في ساحة الأسواق العصرية، ومنها:
“1-المزاد المقرر من القضاء: كبيع مال المفلس ونحوه مما يصدر فيه حكم قضائي.
2- المزاد الذي تطلبه بعض الجهات الحكومية والمؤسسات: لبيع ما لا تحتاجه من عقار ومنقول وغيره.”[10]
ومهما تنوعت أنواع عقود المزايدة فهي عقود جائزة على ضوء ما سبق وبالقيدين المذكورين.
- بيع المناقصة
هو عكس عقد بيع المزايدة في الصورة، لكنه في حكم بيع المزايدة على السواء.
وفي المزايد البائع هو الذى يعرض سلعته كما تقدم، لكن في بيع المناقصة المشتري هو الذى يعرض ” شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة، فيتنافس الباعة في عرض البيع بثمن أقل، ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر”[11] وقد تكون مناقصة علنية أو سرية، ولها صور متعددة التى يتناولها نفس حكم عقد بيع المزايدة.
وقد جاء في الموسوعة الكويتية قولهم: “لم نطلع على ذكر له (أي بيع المناقصة) في كتب الفقه بعد التتبع، ولكن يسري عليه ما يسري على المزايدة مع مراعاة التقابل”[12] ويسمى هذا العقد بتسمية أخرى كالعطاءات وغيرها.
الطريقة الثانية: طريقة بيوع الأمانة
بيوع الأمانة: هي البيوع التى يحدد فيها سعر السلعة الأول عند التعاقد، وهي أنواع، وأساسها:
1- بيع المرابحة، هو أصل أنواع البيوع الأمانة المسطورة في كتب الفقه العتيقة، ومعناه العام عند علماء الإسلام القدامى: هو إخبار البائع برأس المال وما يستفيد منه من الربح، حيث لو أتاح فرصة للمساومة فإنها لا تتجاوز حدود الربح، كأن يقول البائع للمشترى مثلا: اشتريت هذه السيارة بتسعة آلاف وأبيعها لك بعشرة، وإذا أراد المشترى أن يساوم في هذه الصورة فإنه يساوم فقط على الألف الذى هو ربح البائع.
ولزيادة التوضيح على صورته يحسن نقل ما قاله المالكية في شأنه، وهو: أن يعرِّف صاحب السلعة المشتري بكم اشتراها، ويأخذ منه ربحاً إما على الجملة مثل أن يقول: اشتريتها بعشرة وتربحني ديناراً أو دينارين، وإما على التفصيل وهو أن يقول: تربحني درهماً لكل دينار، أو نحوه[13]
وقد ذكر أبو يحيى السنيكي العبارات المعهودة في هذا الباب مع دلالتها:
الأولى: أن يقول بعتك بما اشتريت وربح كذا
الثانية: أن يقول بعتك بما قام عليَّ وربح كذا .
الثالثة: أن يقول بعتك برأس المال وربح كذا[14] .
فهذا البيع – بيع المرابحة- بيع مباح، لدخوله في عموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} ولدخوله في قاعدة: الأصل في المعاملات الجواز والحل، ولجريان عمل الناس عليه.
وقد قال بجوازه عامة العلماء قديما وحديثا، نظرا لمبدأ براءة الأصلية، وللآية المذكورة.
وأما بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه البنوك الإسلامية فى المعاملات المعاصرة فإنه يختلف عن بيع المرابحة المعني به في التراث الفقهي، وبيع المرابحة القديم له طرفان فقط: هما البائع بسلعته والمشتري بالثمن، خلافا لبيع المرابحة للآمر بالشراء ففي طياته ثلاثة أطراف:
الأول: هو العميل – أو الآمر بالشراء – الذى يتقدم بالطلب من البنك شراء المبيع المعين له، ثم يدفع ثمنه للمصرف بالتقسيط وفق الاتفاق بينهما
الثاني: البنك -أو نحوه- الذى يلبى طلب الشراء لعميله
الثالث: البائع.
وقد جوز العلماء المعاصرن عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا تم على أساس الوعد غير ملزم، مع تمليك المصرف السلعة في حوزته قبل بيعها على العميل.
2-بيع التولية: هو عقد من عقود الأمانة، وحقيقته: بيع السلعة بنفس ثمنها الأصلي، لا يربح فيه البائع ولا يخسر.
وسمي بيع التولية لأن فيه ” نقل جميع المبيع إلى المولى بما قام عليه”[15]
كأن يقول البائع: ولَّيتك هذه السيارة بما اشتريتها به.
وهو بيع جائز ما لا يشوبه شائب، لعموم الأدلة على جواز البيوع.
تقول الموسوعة الكويتية: “اتفق الفقهاء على أن بيع التولية جائز شرعا؛ لأن شرائط البيع مجتمعة فيه، وتترتب عليه جميع أحكامه”[16]
ويلتحق بحكم بيع التولية بيع الإشراك، هو الذي يحدد فيه البائع بعض أجزاء من السلعة للمشاركة، كأن يقول: اشتريت عمارة بمائة ألف، أشركتك في النصف أو الربع، وفي جميع الأحوال فإنه يأخذ حكم التولية في الجزء المنصوص عليه.
يقول الرافعي: “والإشراك في البعض كالتولية في الكل في الأحكام”[17]
3- بيع الوضيعة، هو البيع الذى يخسر فيه البائع بسبب تنازله عن رأس مال سلعته فيبيعها بأقل ما اشتراها، وهو أيضا من بيوع الأمانة التى الأصل فيها الجواز إذا توفرت فيه شروط البيع كما هو قول عامة أهل العلم.
وتعريفه بالمثال:” بأن يقول البائع: بعتك بمثل ما اشتريت به، أو بما قام علي مع نقصان شيء معلوم، كعشرة دراهم، أو حط درهم لكل عشرة”[18]
ويسمى هذا البيع في الكتب أيضا ببيع الحطيطة أو النقيصة، وله تطبيقات عديدة في المعاملات المعاصرة.
وجه تفضيل بيع المساومة على بيوع الأمانة
ذهب جمع من أهل العلم إلى تفضيل بيع المساومة على بيوع الأمانة، ولذا اعتبر المالكية بيع المرابحة خلاف الأولى.
قال ابن رشد الجد:” البيعُ على المكايسة والمماكسة أحبُّ إلى أهل العلم وأحسن عندهم “[19]
قال ابن قدامة: ورويت كراهته – يعنى بيع المرابحة – عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ومسروق والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار وعن إسحاق بن راهويه أنه لا يجوز لأن الثمن مجهول حال العقد فلم يجز[20]
ولأنه قد يعتري بيوع الأمانة في بعض الأحيان شوائب الغش والكذب والخيانة من قبل التجار، إذ هي بيوع مبنية على قبول صحة صدق خبر البائع في تحديد رأس المال من غير برهان، وهذا الذي أن يُجعل الخيار للمشترى متى ما ظهرت خيانة البائع.
وقال القاضي عياض:” البيوع باعتبار صورها أربعةٌ، بيعُ مساومة وهو أحسنها، وبيعُ مزايدة، وبيعُ مرابحة وهو أضيقها، وبيعُ استرسال واستمالة[21].
وقال الإمام أحمد:” والمساومة عندي أسهل من بيع المرابحة[22]
لأن المشترى يجد في بيع المساومة سعة المجال للمفاوضة والمماكسة على التراضى الحر بغض النظر عن إخبار بسعر السلعة الأول.
[1] القوانين الفقهية ص 174
[2] رواه ابن ماجة وصححه الألباني
[3] فتح الباري 4/326
[4] رواه مسلم
[5] القوانين الفقهية، ص: 175
[6] رواه البخاري
[7] فتح القدير 4/ 354
[8] رواه الترمذي (1218) وفيه كلام
[9] المغنى 6/307
[10] الفقه الميسّر 10/22
[11] الموسوعة الكويتية 9/9
[12] المصدر السابق
[13] القوانين الفقهية لابن جزي ص263
[14] أسنى المطالب في شرح روض الطالب 2/92
[15] الموسوعة الكويتية 9/49
[16] المصدر السابق 14/198
[17] فتح العزيز بشرح الوجيز 9/4
[18] المعاملات المالية أصالة ومعاصرة 3/337
[19] المقدمات الممهدات 1/ 421
[20] المغني 4/199
[21] منح الجليل شرح مختصر خليل 5/263
[22] المغني 4/141