انتهى موسم من مواسم الخير، وها نحن نودع أيامًا مباركة كانت مليئة بالأعمال الصالحة، كما ينتهي العمر سريعًا. لكن رغم انقضاء هذه الأيام، فإن أبواب الجنة ما زالت مفتوحة، والعمل الصالح لا يتوقف بمرور الزمن. فما دام في القلب نبض، فالسبيل إلى الجنة لا زال ممكنًا، بل يمكن أن يستمر حتى بعد الموت بعمل يُورّث أجرًا لا ينقطع. ومن أعظم الأعمال التي تقربنا من الجنة وتُبقي رصيدنا من الحسنات جاريًا: محبة الخير للغير. هذه العبادة القلبية العظيمة، التي لا يتحدث عنها الكثير، تُصلح القلوب وتبني المجتمعات، وهي من دلائل الإيمان الصادق كما علمنا رسول الله .

الجنة: سلعة الله الغالية

والجنة تستحق من المسلم الكثير والكثير فهي سلعة الله الغالية وفيها يقول رسول الله (قَالَ اللَّهُ تعالى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ، ‌مَا ‌لَا ‌عَيْنٌ ‌رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ). فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. هذا مثال من بين مئات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتناول وصف الجنة وما فيها من نعيم دائم لا ينقطع.

كثير من الناس يظن أن الطريق إلى الجنة يبدأ وينتهي بالعبادات التي هي من أركان  الإسلام، ولا ينكر أحد منزلة هذه العبادات، لكن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الجسد حق، والعبادات منها ما يتصل بالبدن ومنها ما يتصل بالقلب. 

حديث نبوي عظيم: معيار الإيمان الحقيقي

ومن العبادات التي تصلح بها المجتمعات وتوصل إلى الجنة عبادة محبة الخير للغير، قَالَ رَسُولُ اللهِ : “يَا يَزِيدَ بْنَ أَسَدٍ، ‌أَتُحِبُّ ‌الْجَنَّةَ؟”. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: “فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ”[1] فأنت تحب لنفسك الرفعة والعلو والسلامة من ألسنة الناس ؛ فإذا علموا عنك ما يسوء كتموه وإذا علموا خيرا نشروه ، وأن يلتمسوا لك المعاذير إذا أخطأت أو قصرت.

وتحب أن تسلم من عيونهم فلا ينظروا إليك نظرة فيها حسد أو احتقار، وتحب أن تسلم من أيديهم فلا يصيبوك بأذى في بدنك أو مالك أو أهلك،وتحب إذا اشتريت شيئا أن يصدقك البائع ولا يخدعك فيبيعه بالثمن المناسب وإن كان فيه عيب بينه لك.

وإذا قدمت لأحد خدمة تحب أن تحصل على الأجر المناسب بلا بخس لما بذلته من جهود، وتحب إذا حدث لك أمر تجهله أن تجد المستشار المؤتمن الذي  يشير عليك بالخير ويقدم لك النصيحة التي تنفعك وتجنبك الوقوع في المخاطر والخسائر، وتحب إذا وقعت في مكروه أن يجتمع الناس حولك ليدفعوا عنك ما استطاعوا ويواسوك بأموالهم وألسنتهم وعواطفهم.

الأخوّة في الإسلام: من هم إخوتنا؟

وإذا منحك الله تعالى نعمة تحب للناس أن يفرحوا لفرحك وألا تمتد أيديهم أو أعينهم بسوء لهذه النعمة ولصاحبها.وإذا تحاكمت إلى شخص او هيئة أن يكون الحكم بالعدل دون ميل او مجاملة فهل تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟؟

من هو الأخ الذي يقصده النبي ، هل هو أخي في النسب؟ أو شريكي في العمل؟ أو جاري في البيت أو الوطن؟ أو المسلم أينما كان على اختلاف الألسنة والألوان، بين الله تعالى  الأخ الذي يجب أن نحب له مثلما نحب لأنفسنا فقال سبحانه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]  وإن كان بعضهم دون بعض في الإيمان والعمل الصالح ، حتى وإن كان أحدهم ذا ذنب قد عرف به ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 9-10]  فقد جعلهما الله تعالى رغم ما ارتكبته إحدى الطائفتين من جرم القتال بغير حق للطائفة الأخرى أخوين لنا الظالم منهما والمظلوم  فالدين يجمعنا على بساط المحبة والأخوة ومهما وجد مما يعكر الصفو فإن ظلال المحبة تسعنا.

ثلاث درجات من الأخوّة

والعلاقة بين الأخوة على مستويات عدة؛ مستوى المحبة  فتحب لأخيك مثلما تحب لنفسك، ومستوى الإعطاء فتعطي لأخيك مثلما تعطي لنفسك، ومستوى الإيثار فتعطي لأخيك أفضل مما  تعطي لنفسك.

 وقد حققت الأنصار رضوان الله عليهم هذه المستويات الثلاثة حين جاءهم المهاجرون لا يحملون معهم إلا زاد المسافر الذي قد نفذ كله أو معظمه في الطريق من مكة إلى المدينة ، ولا يملكون إلا الثياب التي تسترهم وهم بحاجة إلى طعام وكساء ومسكن وهي الحاجات الأساسية التي لا يستغني عنها إنسان في أي مكان، فاستقبلوهم بالترحاب بل تسابقوا إلى ضيافتهم فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة[2]، وذلك بعد أن آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، ولا سبيل لنا للنجاة من الأزمات إلا بهذه المشاعر الطيبة النابعة من الإيمان المنجية من المهالك المحيطة بنا من كل اتجاه .

ومن صور الأخوة الصادقة والمحبة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب على صفحات من نور ما حدث بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم أجمعين، عرض سعد رضي الله عنه على عبد الرحمن أن يعطيه نصف ماله وأن ينظر عبد الرحمن إلى زوجتي سعد فمن أعجبته منهما طلقها له فإذا انقضت عدتها تزوجها عبد الرحمن ، قال عبد الرحمن رضي الله عنه لأخيه سعد : ‌بَارَكَ ‌اللَّهُ ‌لَكَ ‌فِي ‌أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ[3] لذا مدحهم الله تعالى بقوله ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] 

مكانة محبة الخير للغير بين العبادات

إن محبة الخير للناس يجب أن توضع في موضعها من الأعمال التي يقدمها العبد لربه ، وذلك بعد أن يعلم قول رسول الله : «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ‌مَا ‌يُحِبُّ ‌لِنَفْسِهِ»[4]. علينا أن نعلم أنه كلما زاد رصيد محبة الخير للغير في قلوبنا كلما زاد الإيمان وأشرق على حياتنا وكلما نقص رصيدنا من محبة الخير للغير كلما تضرر الإيمان في قلوبنا.

والذي يكره الخير للناس إما أنه:

لا يعجبه قسمة الله تعالى للأرزاق فهو يرى أن فلانا قد أعطاه الله تعالى مائة ألف بينما هو لا يستحق أكثر من ألف واحد بل لا يستحق شيئا منها، هو يريد أن يعيد تقسيم الأرزاق مرة أخرى ولو اتبع الحق هواه ما أذن لغيره أن يتنسم نسيم الحياة ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإسراء: 100]. 

أو أنه غافل عن سعة فضل الله فهو يتصور أن الله تعالى إذا أعطى الخلق ووسع عليهم فإنما يأخذ من نصيبه ليعطيهم، وهذا جاهل بربه فما عند الله لا ينفد بكثرة الإنفاق و الله تعالى لا يعجز أن يعطي لغيره مثلما أعطاه من غير أن ينقص ذلك من نصيبه شيئا،” ‌يَدُ ‌اللَّهِ ‌مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا[تنقصها] نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ[تفيض بالعطاء] اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ[5] وإذا أحب المسلمون الخير بعضهم لبعض ، أحسن كل منهم إلى الآخر وكف أذاه عنه فتزداد قوتهم ويكثر الخير بينهم ويتجهون إلى البناء والتعمير وحماية أنفسهم من كيد أعدائهم الذين يتربصون بهم.

الأم تزرع محبة الخير في الأبناء

كانت إحدى النساء تعلم أبنائها أن يحب بعضهم بعضا، فإذا أعطت واحدا من أبنائها شيئا قالت له: هذا لك وهذا لأختك وعودته على ذلك، فكان إذا أعطته ما يخصه سألها: أين نصيب أختي؟ فتعطيه وذات مرة أعطته شيئا واحدا فقال لها: وأين نصيب أختي؟ قالت له: اقسمه بينك وبين أختك، علمتهما أن يتقاسما العطاء والفرح والحزن.

محبة الخير والسعة

وهذا محمد بن يزيد النحوي يَقُولُ: أَتَيْتُ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ وَهُوَ عَلَى طَنْفَسَةٍ، فَأَوْسَعَ لِي، فَكَرِهْتُ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لا ‌يَضِيقُ ‌سَمُّ ‌الْخِيَاطِ عَلَى مُتَحَابَّيْنِ، وَلا تَتَّسِعُ الدُّنْيَا عَلَى مُتَبَاغِضَيْنِ[6].

خاتمة

محبة الخير للغير ليست خيارًا، بل من صميم الإيمان ومنهج حياة في الإسلام. ومن أراد الجنة، فليبدأ بزرع الخير في قلبه وفي محيطه، فبذلك يسمو إيمانه، ويصل إلى رضا الله وسعادة الدارين.