جود الأبوين في حياة الإنسان عامة وفي حياة الطفل خاصة نعمة كبيرة؛ وفي طيات تلك النعمة نعم فيها؛ ففي وجود الأبوين الدفء الاجتماعي، والحنان العاطفي، والرعاية، والتربية، والقيام بحق الطفل بحب وإخلاص وتجرد دون انتظار، فرحلة الوالدين مع أبنائهم هي رحلة العطاء بلا حدود، وكما روي في الحديث القدسي:” وألقيت محبتك في قلب أبويك فلا يشبعان حتى تشبع ولا يرقدان حتى ترقد”، وعلى هذا، فعاطفة الأبوة في الآباء، وعاطفة الأمومة في الأمهات عاطفة فطرية وليست كسبية.
ولا يظن ظان أن عطاء الوالدين لا يقابله عطاء من الأطفال، فلولا الأطفال ما كان الأب أبا، ولا الأم أما، فالأبناء منحوننا مثلما نمنحهم.
وإن كانت رعاية الوالدين غاية في الأهمية، فإن الله تعالى قد يحرم البعض من تلك الرعاية فينشأ يتيما، لكن رعاية الله تعالى – بلا شك- أفضل من رعاية البشر، وقد قال الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه: 39]، ويبدو أن موسى – عليه السلام- نشأ يتيما، فظاهر القرآن لم يذكر والده، بل ذكر أمه، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص: 7].
وكذلك نشأ رسولنا محمد ﷺ يتيما، فقد مات أبوه وهو لا يزال جنينا في بطن أمه، وهي مازالت شابة في ريعان شبابها، فنشأ محمد ﷺ في بيت أبيه، وعاش مع أمه، وقد حرم نعمة الوالد؛ ليكون في رعاية رب العالمين؛ ليصنع على عين الله تعالى لا على عين أبيه.
ولم تحفل لنا كتب السيرة عن الأحداث التي عاشها النبي ﷺ مع أمه حتى ماتت وهو لا يزال صغيرا لم يبلغ الحلم، إلا شذرات صغيرة، كتعلمه السباحة ولعبه أحيانا مع بعض الأطفال من سنه، وعلى هذا، فإن محمدا ﷺ نشأ في طفولته الطبيعية، ولسنا بحاجة إلى أن نحفل سيرته بقصص غير واقعية، فقد نشأ بعيدا عن أمه وبيئته، كعادة أطفال قريش، حيث عاش مع حليمة السعدية من بني سعد، حيث الصحراء والمرعى، وكان يخرج مع أخيه من الرضاع؛ ليرعى معه الغنم، إلا أنه كان – ﷺ- طفلا مباركا، يدرك ذلك كل من كان حوله من الأسرة التي كان في رعايتها..
وفي نشأة الرسول محمد ﷺ معالم ذات أهمية في نشأة الأطفال، حيث يراعى أن ينشأ الأطفال في بيئة صحية، بعيدة عن الأوبئة والأمراض، لأن ذلك له أثر في النشأة الصحية، وبنيان الطفل، بل ومستقبله الصحي.
كما يستحب أن ينشأ الأطفال في بيئة فصيحة، يجيد أهلها اللغة الأم في أرقى درجاتها، ذلك أن الحديث باللغة درجات متفاوتة، فمازال حتى الآن في بعض دول أوربا مثلا يفتخرون بمن يتعلم اللغة الفرنسية القديمة، لأنها لغة أدبية راقية، بخلاف اللغة اليومية، والحديث باللغة الأدبية من المفاخر التي يشار إليها بالبنان.
على أن التربية في بيئة لغوية راقية له أثر كبير في تنشئة الأطفال، فاللغة هي وسيلة التواصل مع الآخرين، كما أنها وسيلة التعبير عن الاحتياجات، ومن جانب آخر، فإن للغة دورا كبيرا في التربية على الذوق ورهافة الحس، وقد قال الشافعي:” ومن تعلم اللغة رق طبعه”، وهذا يعني أنه حين ننشئ أطفالنا في بيئة لغوية راقية، فإنهم لا يصابون بما يصاب به أطفالنا اليوم من الانفعالات والتشجنات وسوء الأخلاق، وإخراج ألفاظ نابية، بل حين ينشأ الطفل في بيئة لغوية؛ فإن ذلك له تأثير كبير جدا على سلوكه وطبعه وتعامله مع الناس، وما أحوجنا اليوم أن يخرج أبناؤها وقد تربوا على رقة الطبع وحسن السلوك وسلامة الصدر.
وكلما نشأ الأطفال في بيئة صحراوية أو بيئة زراعية كلما كانت نشأتهم أفضل حال ممن ينشأ في بيئة صناعية، فإن النظر إلى السماء بعلوها وصفائها ليريح النفس وينشئ الإنسان على السكون واتساع الأفق، وإكسابه مهارات التفكير والإبداع، وهكذا نشأ محمد ﷺ في طفولته، فهو ابن البيئة الصحراوية، ولهذا يحكى عن أحد المخرجين أنه كان يصور فيلما في صحراء الجزائر، فلما انتهى من تصويره بقي مدة أطول، وظل يتجول في صحراء الجزائر، وبعدها قال: الآن عرفت لماذا كانت معظم الرسل تخرج من الصحراء.. إنها التربية على الفطرة والنقاء…
ورغم أن النبي ﷺ حرم نعمة الوالد، والمعروف أن الأنبياء يتصفون بالكمال، فإن الله تعالى عوض النبي ﷺ بذلك، حيث جعل رعايته في والده، والعادة أن تربية الجد للولد أفضل من تربية والده له، فقد كان جده عبد المطلب يقربه من مجلسه، ويقعده في مكان لا يجلس فيه أعمامه، فلربما كان جده يفعل ذلك معه؛ تعويضا له عن فقد والده، خاصة أن والده كان أصغر أبناء جده، وهو شعور حزين، أن يفقد الولد ويبقى الحفيد..
على أن عبد المطلب كان يرى في وجه حفيده علامات النبوغ والنجاة، ويتطلع أن يكون حفيده اليتيم سيدا في قومه، وقد حفظت أشعار عن عبد المطلب يقولها في حفيده محمد، وقد كان العلاقة حميمة بينه وبين حفيده، كيف لا، وهو الذي سماه محمدا، وهو اسم لم يكن مشتهرا بين العرب، بل لم يتسم به إلا نفر قليل ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة، إلا أن السيادة الدينية التي كان يحظى بها عبد المطلب من رعاية الكعبة والبيت الحرام، كان يرجو أن تكون في حفيده، ولذا لما سئل عن تسميته محمدا، قال: أرجو أن يكون محمودا في السماء والأرض..
وإنه لشعور ما أكثر فقدنا له، أن نرجو لأبنائنا أن يكون قادة في الدين، فغالب الناس حتى المتدينين منهم لا يرجون لأبنائهم أن يسلكوا مسلكهم الدعوي والديني، بل الغالب يتطلع أن يكون لأبنائه منصبا اجتماعيا ومهنيا يعلو شأنهم في الحياة الدنيا، وما أعظم دعاء نبي الله زكريا عليه السلام، فإنه ما ابتغى الولد لذات الولد، وهو الذي حرم منه سنوات، بل ابتغى أن يكون وليا يحمل هم الرسالة والدعوة من بعده، كما نص القرآن على ذلك بقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } [آل عمران: 38]، ويبدو أن هذا الأمر من سمات الصالحين، فنحن نجده في امرأة صالحة نشأت وعاشت في بيت صالح، وهي امرأة عمران، فقد نذرت جنينها الذي رزقت إياه بعد طول منع أن يكون خادما للمسجد الأقصى، ونص القرآن على ذلك الموقف الرائع من المرأة الصالحة، فقال: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [آل عمران: 35]، إنها تنذر ولدها لله تعالى، وتدعوه أن يتقبله منها، فهل نذر بعضنا أولاده لله تعالى؟!
إن التاريخ يعيد نفسه، وإن الأسر الصالحة تتسم بنفس السمات رغم تباعد الأزمان وحتى العقائد، فذاك عبد المطلب يأمل أن يكون حفيده صاحب شأن في الزعامة الدينية، كما رجا زكريا ربه أن يرزقه من يحمل النبوة والدعوة بعده..
ثم يفقد محمد ﷺ في صباه جده الحنون، فيزداد حزنا على حزن، ليتعود تحمل المشاق والصعاب، وليكون قدوة في الصبر على الابتلاء منذ صغر، فقد حرم أباه الذي لم يره، ثم يفقد أمه وهو في السادسة من عمره، ثم يفقد جده وهو لا يزال فتى يافعا، على أن جده قد اختار له عمه أبا طالب، وإن كان كثير العيال، لكنه شخص رؤم، يظهر عليه حنان الأبوة، فلا شك أنه سيعوض ابن أخيه اليتيم، وإن كان محمد ﷺ فقد أمه، فقد راعته فاطمة زوجة عمه، فنشأ في بيت عمه، وتعلم منذ ريعان شبابه التجارة وخبر كثيرا من الحياة، وقد كان عمه أبو طالب حريصا أن ينشأ ابن أخيه اليتيم تنشئة الرجال، فكان يصحبه معه في التجارة، فعمله مهاراتها، بل رشحه لسيدة عظيمة صاحبة جاه ومال في قريش، وهي السيدة خديجة، حتى يعمل ابن أخيه الشاب ويتكسب، حتى يتأهل لحياة جديدة، وكان عمه هو الذي اتفق مع خديجة على عمل ابن أخيه محمد ﷺ معها، وزكاه عندها، بل حدد معها أجرة العمل قبل أن يعرف الرسول ﷺ ذلك، ثم كلمه في العمل مع خديجة لأنها ستعطيه أجرا أفضل..
وبهذا، فقد قدم أبو طالب لابن أخيه الشاب خدمة جليلة من التربية والرعاية في سن صعبة، وعلمه من دروب الحياة والتجارة ما يجعله أهلا ليشق طريقه في الحياة باستقلال، بل هيأ له وظيفة يتكسب بها…
وقد ضرب النبي ﷺ المثل للفتيان والشباب في التربية الجادة، واكتساب المهارات التي تجعل الفرد منتجا في مجتمعه، لا أن ينتظر إنفاق أبيه له وهو كبير السن، وإن كان التعليم ذا أهمية بالغة في حياة الإنسان، فإن كسب المهارات المهنية التي تؤهل الشاب أن يكون صاحب مال وصنعة لهي أبلغ أهمية، وإن هذا الفصل بين العمل والتعليم لهو من الأمور التي تحتاج إلى مراجعة في حياتنا، فتأهيل الشباب لسوق العمل وكدهم وسعيهم لا يشترط أن يكون بعد التخرج الجامعي، ولا يعني هذا تفريطهم في تعليمهم، ولا انشغالهم بالعمل والكسب عن التعليم، فقد يعمل أعمالا صغيرة، في أوقات قليلة، أو يعمل بدون ارتباط بوقت معين، فيجمع بين الكسب والتعليم، حتى يتأهل للحياة الاجتماعية.
لقد كانت طفولة النبي ﷺ وصباه وشبابه مثلا يحتذى به، مثلا في التربية والأخلاق، كما كان مثلا في الجد والاجتهاد، وليعطي المثل للشباب أنهم مهما نشأوا في بيئات فقيرة، فذلك ليس بمانع أن يكون صاحب مجد، بل ربما كانت الظروف القاسية بيئة جيدة للتحدي وتحقيق الذات، وفي رسولنا ﷺ قبل نبوته القدوة والمثل في ذلك.