تميز التاريخ الثقافي الإسلامي بظهور ما يسمى بالأسر العلمية، وهي ظاهرة ممتدة عبر العصور وعبر الأمصار الإسلامية، وهناك عشرات الأمثلة ومنها الأسرة الرشدية في الأندلس التي ظهر خلالها ابن رشد الفقيه وحفيده ابن رشد الفيلسوف، وفي المشرق ظهرت الأسرة السبكية وذاع من بين أفرادها الشيخ تقي الدين السبكي وولده التاج السبكي، وفيما يلي نقدم بعضا من الأسر العلمية المعروفة ونقدم لبعض رجالاتها وإنتاجهم، وجاء اختيارها وفق معيارين: المعاصرة والتنوع الجغرافي.
الأسرة التيمورية
هي واحدة من الأسر العريقة التي أسهمت في التاريخ الثقافي المصري الحديث، وتعود أصولها إلى كردستان العراق، ومنها نزح السيد محمد تيمور كاشف إلى الدولة العثمانية وأقام بها زمنا ودخل في خدمة الجيش العثماني ثم أرسل إلى مصر مع الجنود العثمانيين الذين أرسلوا عقب نزوح الحملة الفرنسية، وكان صديقا مقربا من محمد علي الذي ولاه بضع مناصب إدارية عليا جعله مديرا لبعض مدن وأقاليم القطر المصري، وأما ولده إسماعيل تيمور فقد تأدب في صغره بعلوم العربية والإسلام وأتقن العربية والفارسية والتركية، وكان ميالا إلى الأدب والإنشاء ولذلك اختير في ديوان المعية السنية ثم عين رئيسا للجمعية الحقانية الثانية التي عهد إليها سن القوانين والتشريعات في أواخر عهد محمد علي، ثم عين عضوا في مجلس الأحكام في عهد خلفائه، وكان إسماعيل ميالا للعزلة ومطالعة الكتب ونظم الشعر، وقد خلف حين وفاته ثلاثة أبناء: ابن واحد هو (أحمد تيمور باشا)، وابنتان كبراهما السيدة عائشة التيمورية، ولعب تيمور وشقيقته الكبرى عائشة دورا بارزا في الحياة الثقافية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ولدت عائشة التيمورية عام 1852 بمدينة القاهرة من والدة جركسية الأصل، وبدأت الأسرة في تعليمها الفنون النسوية مثل الحياكة والتطريز لكنها كانت ميالة إلى التعلم ولما آنس فيها والدها هذا الميل أحضر لها بعض المدرسين الذين حفظت على أيديهم القرآن الكريم كاملا، كما درست الفقه والنحو والصرف واللغة الفارسية، وبعدها تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية ودواوين الشعر، ثم بدأت تكتب بعض ما تجود به قريحتها حتى كتبت ثلاث دواوين شعرية نظمتها بالعربية والفارسية والتركية، ولها رسالة قصيرة بعنوان (مرآة التأمل في الأمور) ناقشت فيه حقوق الرجال على النساء من خلال آية القوامة وقدمت تفسيرا لا يخرج عن التأويل الإسلامي لكنه يصطدم بالأفكار والممارسات الاجتماعية في عصرها.
أما الشقيق الأصغر أحمد تيمور باشا فقد ولد عام 1871، وبدأ التعلم وهو صغير في داره حيث تعلم مبادئ العربية والتركية والفرنسية والفارسية ثم التحق بالمدرسة ودرس العلوم الحديثة، ولما تخرج لم يشأ الالتحاق بعمل حكومي وتاقت نفسه إلى التوسع في الدراسة الأدبية والتاريخية ودرس على يد نخبة من أفاضل عصره كالشيخ حسن الطويل وحسين المرصفي، وكان مولعا باقتناء الكتب منذ نعومة أظفاره وجمع منها خزانة عظيمة حتى عدت ثالث خزانة بمصر بعد دار الكتب الخديوية والمكتبة الأزهرية، وفيها مخطوطات ونفائس لا توجد فيهما، وصنف الأستاذ تيمورعددا من الكتب الفريدة في موضوعها مثل: خيال الظل والتماثيل المصورة عند العرب، لعب العرب، أعلام المهندسين في الإسلام.
ومن أفراد العائلة الأديبان محمد تيمور ومحمود تيمور ابني أحمد تيمور باشا وهما من رواد الفن القصصي في مصر، وفي جميع أعمالهما حرصا على إيجاد فن يعبر عن الأخلاق ويرسم صورة دقيقة للبيئة المصرية، وعلى هذا يمكن القول إن الأسرة التيمورية جمعت بين الالتزام بالقيم الإٍسلامية وبين الآداب والفنون لا سيما الفن التمثيلي، كما كان لها نصيب في إحياء التراث العربي من خلال مكتبتها التي أودعت دار الكتب المصرية وأفاد من نوادرها آلاف الدارسين.
الأسرة الآلوسية
وهي واحدة من الأسر العلمية المشهورة في بغداد، وتعود جذورها التاريخية إلى الدوحة النبوية المباركة أما أصولها الجغرافية فهي تعود إلى جزيرة ألوس الواقعة وسط الفرات، وكانت هجرتهم إليها من بغداد واستقرارهم فيها بعد أن دهم هولاكو بغداد، ومن أفاضلها في العصر الحديث السيد شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي الذي ولد عام 1217 هـ وقرأ العلوم على والده وغيره، واستجاز علماء كثيرين؛ كالشيخ علي البغدادي، والشيخ علاء الدين الموصلي، ومحدث الشام الشيخ عبد الرحمن الكزبري، ومفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف، ولم يبلغ الثالثة عشرة من عمره حتى نبغ في عدة علوم، ثم أخذ يشتغل بالتدريس والتأليف، فتخرج عليه كثير من الفضلاء، وقصده الطلبة من كل مكان واستجازه كثير من ذوي العلم والأدب، وما لبث أن تولى المدرسة المرجانية وأوقافها، وقُلد سنة ١٢٤٨ﻫ منصب مفتي الحنفية، وقد قصد اسطنبول في عهد السلطان عبد المجيد (1839- 1861م) وعرض عليه تفسيره للقرآن الكريم، فنال إعجاب السلطان ومنحه وسام شرف، وقد أودع تفصيل رحلته، ذهاباً وإياباً في ثلاثة كتب هي: نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ونشوة المدام في العود إلى دار السلام، وغرائب الاغتراب، ومن مصنفاته الذائعة: “تفسير روح المعاني” الذي طبع للمرة الأولى في مطبعة بولاق في ثمانية مجلدات و “الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية ” وهي ذب عن أصحاب النبي ﷺ.
ومن أفاضل الأسرة أبو البركات نعمان الآلوسي ولد عام 1252 ه، وهو نجل السيد محمود الآلوسي، أخذ العلم عن والده وتلاميذه النجباء، تولى في شبابه بعض المناصب العلمية وسافر إلى بيت الله الحرام والآستانة ومصر وله بضع مصنفات منها: حاشية على القطر أكمل بها حاشية والده، ومنها “جلاء العينين، في المحاكمة بين الأحمدين” والمقصود بالأحمدين أحمد بن تيمية، وأحمد بن حجر الهيتمي.
ومنها الأستاذ محمود شكري الألوسي علامة عصره، ولد في بغداد عام 1271ه، وهو حفيد المفسر أبو الثناء الألوسي، توفي والده وهو صغير وكفله عمه نعمان الألوسي وحفظ القرآن وهو لم يزل في الثامنة وتلقى العلم عن مشايخ عصره، وكانت له حلقة في جامع الإمام الأعظم وتخرج على يديه عدد من الأدباء والعلماء العراقيين، وكان الآلوسي منفتحا على المستجدات في عصره، لذا ساهم في تأسيس جريدة الزوراء، كما كانت له مساهمات صحفية في المنار والزهراء والمقتبس والمجمع العلمي بدمشق، وحين وفاته رثاه رشيد رضا واصفا إياه بأنه ” ناصر السنة، قامع البدعة، علامة المنقول ودراكة المعقول، دائرة المعارف الإسلامية”، ولا غرو فقد ترك ما يربو عن الخمسين مصنفا من أشهرها “غاية الأماني في الرد على الألباني”، و” بلوغ الأرب في أحوال العرب” و “تاريخ بغداد” و” ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة”.
وتميل الأسرة الآلوسية نحو التصوف، فالشيخ شهاب الدين أخذ العهد على الطريقة النقشبندية، وتفسير روح المعاني مشبع بالمصطلحات الصوفية، وكذلك الشيخ محمود شكري الآلوسي كان متصوفا، وبالجملة فقد خدمت الأسرة الآلوسية العلوم الإسلامية كافة (التفسير، الفقه، التصوف، اللغة) وأفلحت في الجمع بين الحقيقة والشريعة.
الأسرة العاشورية
ومن بغداد في الشرق إلى تونس في غرب العالم الإسلامي تبرز أسرة بن عاشور التونسية بوصفها رائدة العلم الشرعي في الديار التونسية بفضل مدرستها العريقة التي أسست خلال العهد العثماني ورجالاتها، تعود جذورها إلى الأدارسة الأشراف الذين هاجروا بعد نكبة الأندلس وسكنوا جنوب المتوسط، ومن أبرز رجالاتها في العصر الحديث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الجد ولد عام 1231هـ، والتحق بالزيتونة وتلقى العلم بها على أيدي الأشياخ محمد بيرم الثالث وإبراهيم الرياحي ومحمد معاوية وغيرهم، وعين قاضيا للمالكية بتونس ثم مفتي تونس، وبفضل ثرائه الواسع ونسبه الشريف صاهر الوزير التونسي محمد بوعتور، كما كانت له مصنفات كحاشية القطر لابن هشام، وشرح بردة البوصيري.
ومن أحفاده الشيخ الطاهر بن عاشور صاحب تفسير (التحرير والتنوير)، ولد عام 1296ه، وتلقى تعليمه في الزيتونة، والتقى الشيخ محمد عبده عندما زار تونس قبيل وفاته بعامين، وارتقى المناصب الدينية حيث عين قاضيا مالكيا ثم مفتيا ثم شيخا للإسلام وأصبح أول شيخ للزيتونة في العهد الجمهوري، وعرف عنه صلاته العلمية بالمشرق العربي حيث تواصل مع مجمع اللغة العربية بالقاهرة وكتب له بضع بحوث، كما نشر في المجمع العلمي بدمشق، وقد خلف مصنفات ذائعة أهمها تفسير “التحرير والتنوير”، و”مقاصد الشريعة الإسلامية” و “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام”.
ومن رجالات الأسرة الشيخ الفاضل نجل الطاهر بن عاشور، الذي تعلم بالزيتونة وصار مدرسا بها لأربعة عقود، كما كان قاضيا للقضاة ورئيسا للمحكمة الشرعية ثم مفتيا للديار التونسية، ومن مؤلفاته “التفسير ورجاله” و”أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي”، و” الحركة الأدبية والفكرية بتونس.
ومما يسترعي الانتباه في تاريخ الأسرة العاشورية أن التعمق في علوم الشرع واللغة العربية لم يحل دون الانفتاح على ثقافة الغرب وتيارات العصر، فقد كان الشيخ طاهر عارفا بالفرنسية وكذلك ابنه الفاضل وأحفادهما، كما كانت الأسرة حريصة على مد جذور التواصل مع المؤسسات الثقافية في الشرق، وهي خصيصة أخرى تميزها عن الأسر التونسية.
وفي الأخير نخلص بنتيجتين: أولاهما أن الأسر العلمية ظاهرة فريدة عرفها التاريخ الثقافي العربي، إذ لا نعلم نظيرا لها في الحضارات الأخرى، وثانيهما أن التقاليد العلمية تنتقل داخل الأسرة من جيل إلى جيل وينتج عن ذلك تراكم معرفي في مجال بعينه يؤتي ثمره عبر الأجيال، فمثلا نجد بعض الأسر تبرز في المجال الأدبي شعرا ونثرا كما هو الحال في الأسرة التيمورية، وبعضها الآخر يجمع بين الشريعة والتصوف كما هو الحال لدى الأسرة الآلوسية، والبعض الأخير ينفتح على معارف الغرب كما هو الحال لدى الأسرة العاشورية.