للحياة في الحضارة الإسلامية وجوهٌ أخرى خلافَ ما هو شائع؛ فلم يكن المسلمون فقط أهل حرب ونِزال رِكاب ومسجد ومدرسة وكِتاب، ودولة مترامية الأطراف ممطرة بالخراج مفعمة بالقوة زاهرة بالعمران، بل عرف المسلمون كذلك الهزل اللطيف واللعب النظيف، وضروبا من الرياضات البدنية والذهنية النابضة بالإمتاع والانتفاع.إنه جانب من التاريخ المغفْلَ يخلخل الصورة المنمَّطة لتاريخ المسلمين، الذي يراد اختزاله في صور مجتزَأة جائرة ساهمت للأسف الدراما ومناهج التاريخ الحديثة المستنبَتة في تكريسها وتركيزها في الأذهان؛ فغابت تفاصيل المرح واللعب من تلك الدراما، وبَهَتَتْ تفاصيل حياة المسلم اليومية الإنسانية العادية. لقد كان المسلمون يلعبون ويتسلَّوْن وفق قواعد منضبطة للعب الهادف المحترف؛ فكان النبي ﷺ من عظماء مصارعي العرب، وفازت ناقته في معظم سباقات الهجن وغُلِبت تارة، وكان أئمة من التابعين من أمهر لاعبي الشطرنج في التاريخ، وعشق علماء وأمراء السباحة والكرة والصيد وألعاب القوى. وفي هذا المقال؛ سندخل بكم عالم الرياضة في الحضارة الإسلامية لنستكشف ما وصلت إليه من مستوى فني محترِف تنوُّعاً وانضباطاً وتشجيعاً وانتشارا بين كافة فئات المجتمع.
ميرث سابق
عرف العرب في جاهليتهم أنواعا كثيرة من الألعاب الجماعية كانوا يمارسونها منذ مرحلة الطفولة الأولى وحتى ما بعد البلوغ، وتذكر المعاجم العربية أسماء العشرات من هذه الألعاب؛ فقد عقَد الإمام اللغوي ابنُ سِيدَهْ الأندلسي (ت 458هـ/1067م) باباً في كتابه ‘المخصَّص‘ سمّاه: “أسماء عامة اللهو والملاهي”، وأدرج فيه مبحثا عن “اللعِب” فذكر فيه من أسماء الألعاب 42 لعبة. ثم جاء بعده ابن منظور (ت 711هـ/1311م) فزاد عليه -في ‘لسان العرب‘- ألعابا عديدة شرح كيفية لعب بعضها.
وفي حديثه عن المجتمع المكي تحديدا؛ خصَّص المؤرخ الفاكهي (ت 272هـ/885م) – في كتابه أخبار مكة- فصلا كان عنوانه: “ذكْرُ ما كان عليه أهل مكة يلعبون به في الجاهلية والإسلام ثم تركوه بعد ذلك”؛ فذكر فيه أن عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) قدِم مكة فرأى [لعبة] ‘الكُرَّكْ‘ يُلعب بهــا، فقال: لولا أن رسول الله ﷺ أقرَّك ما أقررتُك! وقال المكيون: هو لعب قديم كان أهل مكة يلعبون به، ولم يزل حتى كانت سنة عشر ومئتين (210هـ/825م)”.
ويضيف الفاكهي مبينا طبيعة هذه اللعبة وما كانت تلقاه من جماهيرية: “كان أهل مكة يلعبون به في كل عيد، وكان لكل حارة من حارات مكة ‘كُرَّكْ‘ يُعرف بهم، يجمعون له ويلعبون في حارة، ويذهب الناس فينظرون إليه في تلك المواضع..، فأقاموا على ذلك ثم تركوه زمانا طويلا لا يلعبون به حتى كان في سنة اثنتين وخمسين مئتين (252هـ/866م)..، ثم تركوه إلى اليوم”!! والناظرُ في المعاجم يغلب على ظنّه أن هذه اللعبة هي نفسها المُسمَّاة بـ‘الكُرَّجْ‘ وهي فارسية معرّبة، وهو تمثالُ خشبٍ “يُتَّخَذ مثلَ المُهْر يُلعَب عليه”؛ وفقاً لابن منظور في ‘لسان العرب‘.
ومن ألعاب الذكاء التي كانت معروفة عند العرب لعبة “القِرْق” التي ذكرها أبو عُبيدٍ الهروي (ت 401هـ/1011م) في ‘كتاب الغريبين في القرآن والحديث‘؛ فقال إنه ورد “في حديث أبي هريرة: «أنه (النبي ﷺ) كان ربما يراهم يلعبون بالقِرْق فلا ينهاهم»..، وإنما هو خطٌّ مربَّعٌ في وسطه خط مربع في وسطه خط مربع، ثم يخط من كل زاوية من الخط الأول إلى الخط الثاني، وبين كل زاويتين خط فتصير أربعة وعشرين” خطًّا. وكانت تُلعب بالحصى وشبهها توضع فوق هذه الخطوط، والناسُ يلعبونها إلى اليوم وتُسمّى ببلاد الشام “دريس”.
وكان من ألعاب العرب الشائعة بينهم المصارعة؛ ومن أشهر ما ورد فيها قصة مصارعة النبي ﷺ لابن رُكَانة القرشي بمكة، التي رواها -في ‘البداية والنهاية‘- الإمامُ ابن كثير (ت 774هـ/1372م) “بإسناد جيد عن ابن عباس (ت 68هـ/688م)”، وخلاصتها “أن يزيد بن ركانة صارع النبيَّ.. فصرعه النبيُّ.. ثلاث مرات..، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد، ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك”!!
ضبط وترسيخ
ومن هنا فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن الألعاب الرياضية في تاريخ الإسلام قديمةٌ قِدَمَ رسالته، فبداياتُها تعودُ إلى زمن النبيّ ﷺ حين أقرّ منها ما كان سائدا وممارَسا بصورٍ وتفاصيل بالغة الترتيب والتعقيد، ومن خلال رصدها يمكن القول إن الألعاب في المدينة النبويّة -أولى عواصم دولة الإسلام- كانت على نوعين: نوعٌ احتفاليّ/كرنفاليّ، وآخرُ له طابعٌ رياضيّ تنافسيّ، وقد يجتمع النوعان على صعيد واحد.
أما الاحتفاليّ فقد اشتُهر من أمثلته حديثُ أم المؤمنين عائشة الذي أخرجه البخاريّ (ت 256هـ/870م) في صحيحه، قالت: “لقد رأيتُ رسول الله ﷺ يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد -ورسول الله ﷺ يسترني بردائه- أنظر إلى لعبهم”، وجاء في بعض الروايات أنهم كانوا “يلعبون بحرابهم.
ويبدو أن ذلك كان عادةً متأصلة في مجتمع الأنصار بالمدينة؛ فقد أخرج أبو داود (ت 273هـ/886م) عن أنس بن مالك (ت 93هـ/712م) من خبر احتفالاتهم بمقدم النبي ﷺ عليهم مهاجرا من مكة أنه “لما قدم رسول الله ﷺ المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحاً لقدومه”. ويؤكد ذلك ما أورده الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- من أنه عند مقدمه ﷺ مهاجرا “كان بالمدينة حبشٌ يلعبون بالحراب فلعبوا بين يديه..، وما فرح الأنصار.. بشيء كفرحهم بقدومه”!
والمتبادر إلى الأذهان أن اللعب بالحراب يكون مضاربةً أو محاكاةً للقتال، كما قال ابن المنيّر (ت 683هـ/1284م) فيما نقله عنه الكرمانيّ (ت 786هـ/1384م) في شرحه لصحيح البخاريّ: “سمّاه لعبًا وإن كان أصله التدريب على الحرب والاستعداد للعدوّ، وهو من الجِدِّ لما فيه من شَبَه اللَّعِب لكونه (= اللاعب) يقصد إلى الطعن ولا يفعله، ويوهم بذلك قِرْنَه ولو كان أباه أو ابنه”. غير أن الكرمانيّ نفسه وصف الحبشة بأنهم كانوا “يرقصون”، ويؤيد الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- ذلك برواية تقول: “والحبشة في المسجد يلعبون بحرابهم ويَزْفِنون (= يرقصون)”.
وقد استمدّ شُرّاح هذا الحديث منه أحكامًا فقهية ومعاني ظلت متصلة بواقع الناس بما فيه عصرنا اليوم، مثل حكم مشاهدة الألعاب الرياضية؛ فقد ذهب ابن بطّال القرطبي (ت 449هـ/1058م) -في شرحه لصحيح البخاري- إلى “جواز النظر إلى اللهو المباح” بناءً على هذا الحديث، ورأى أن اللعب بالحراب “سُنَّة نبوية، ليكون ذلك عُدّة للقاء العدو وليتدرب الناس فيه. وقد يُعدّ هذا أصلًا للاستعراض العسكريّ بالسلاح، وبالحركات الرياضية الشاقة كحمل الأثقال ونحوه.
توظيف متعدد
ويبدو أن اللعب احتفالًا صار مهنةً اشتغل بها بعضُ الناس؛ إذ روى ابن أبي شيبة (ت 235هـ/848م) -في ‘المصنَّف‘- أن ابن عباس “حين خَتَنَ بنيه دعا اللاعبين [وفي رواية: اللعّابين] فأعطاهم أربعة دراهم، أو قال: ثلاثة”. ثم ذكر أصحاب التواريخ فيما بعدُ تقريب بعض الخلفاء والسلاطين لهؤلاء اللّعابين واحتفاءهم بهم واستخدامهم لهم في الاحتفالات الرسمية مع الجنود النظاميين، كما فعل الخليفة العباسي ببغداد في استعراضه العسكري أمام مبعوث التتار أوائل القرن السابع/الثالث عشر الميلادي، حيث خرج “خلق يلعبون بالنفط ويرمون بالبُنْدقِ (كرات صغيرة) الزجاجِ فيه النفطُ، فامتلأت البرية بالنيران”؛ وفقا للذهبي.
ومن الألعاب الاحتفالية ما صوره بدقة بالغة الرحالة ابن جبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في رحلته- عن احتفالات أهل مكة بموسم “العمرة الرجبية”؛ فقال إنهم خرجوا “في احتفال لم يُسمع بمثله انحشد له أهل مكة عن بَكرة أبيهم، فخرجوا على مراتبهم قبيلةً قبيلة وحارةً حارة، شاكِينَ (متسلحين) في الأسلحة فرسانا ورجالةً.. على ترتيب عجيب، فالفرسان منهم يخرجون بخيلهم ويلعبون بالأسلحة عليها، والرجالة يتواثبون ويتثاقفون (يتناورون) بالأسلحة في أيديهم حِرابا وسيوفا وحَجَفاً (جمع حَجَفَة: تُرْسٌ جِلْدي)، وهم يُظهرون التطاعن بعضهم لبعض والتضارب بالسيوف والمدافعة بالحَجَف التي يَسْتَجِنُّون (يتترَّسون) بها..، وكانوا يرمون بالحراب إلى الهواء ويبادرون إليها لَقْفاً بأيديهم وهي قد تصوّبت أسنَّتُها (شفراتها) على رؤوسهم وهم في زحام..، وربما رمى بعضهم بالسيوف في الهواء فيتلقونها قبضاً على قوائمها كأنها لم تُفارق أيديهم”!!
وكثيرا ما كانت الألعاب ضمن أنشطة الاحتفالات الرسمية بالنصر في معركة حربية ما؛ كما حدث في سنة 647هـ/1249م عندما انتصر أمراء الشام الأيوبيون على أبناء عمومتهم في مصر، فدخلوا البلاد وسط احتفالات باهرة “وشقّوا القاهرة وهم يلعبون بالرماح بين القصرين على خيولهم”؛ طبقا للمؤرخ ابن الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1435م) في ‘كنز الدرر‘.
ومن النماذج المتأخرة زمنيا لذلك ما يذكره الحلاق البديري (ت بعد 1175هـ/1762م) -في ‘حوادث دمشق اليومية‘- من أنه في سنة 1156هـ/1744م “شرع والي دمشق الشام سليمان باشا ابن العظم (ت 1156هـ/1744م) في [إقامة] فرحٍ لأجل ختان ولده..، وجمع فيه سائر الملاعب.. واجتمع فيه الأعيان والأكابر..، وأطلق [لهم] الحرية لأجل الملاعب يلعبون بما شاؤوا..، ولا زالوا على هذا الحال سبعة أيام بلياليها..، وعُمِل موكبٌ.. فيه الملاعب الغريبة من تمثيل شجعان العرب وغير ذلك”.
ومن لعب المسلمين قديما ما كان ترفيهًا محضًا، وهذا ما كان يشتركُ فيه الناسُ كلّهم فلا يأنفُ منه حتى فقهاؤهم وكبراؤهم؛ بل إن اهتمام السلاطين مثلا بالألعاب واللاعبين كان من لوازم الملك التي ينصح بها كتاب الآداب السلطانية، ففي كتاب ‘التاج‘ المنسوب إلى الجاحظ (ت 255هـ/869م) أنه “لندماء المَلك وبطانته خِلالٌ (= خصال) يساوون فيها المَلِك ضرورةً، ليس فيها نقصٌ على المَلِك ولا ضَعَة في المُلْك، منها: اللعب بالكرة، وطلب الصيد، والرمي في الأغراض (الأهداف)، واللعب بالشِّطرنج، وما أشبه ذلك”.
شمول مجتمعي
وأما العلماء؛ فمن المواقف التي رصدتها كتب التراجم لألعابهم ما رواه ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1392م) -في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘- من أن أحد الزهاد الحنابلة يُسمَّى أبا منصور عبد العزيز بن ثابت البغدادي (ت 596هـ/1200م) “كان لطيفاً في صحبته، خرجنا نزور قبر الإمام أحمد (بن حنبل ت 241هـ/855م)، ثم عدلنا إلى الشط فنزل الفقهاء يسْبحون في الشط، فقالوا للشيخ أبي منصور: انزل معنا، فنزع ثوبه ونزل يسبح معهم، ولعبوا في الماء فعمل مثلهم، فقال له بعض الفقهاء: أين الشيخ محمد النَّعال (ت بعد 596هـ/1200م) يبصرك؟! فقال: يا مسكين! الحقُّ تعالى يبصرنا! فطاب بعض الجماعة بقوله”.
وكان للأطفال لُعَبُهم التي بها يفرحون في الساحات والطرقات ليلا ونهارا، فكثيرا ما نجد في المعاجم تفسيرا لمفردة ما بأنها “لعبة للصبيان”؛ وقد ورد -في ‘صحيح مسلم‘- أن حادثة شق صدر النبي ﷺ وقعت له صغيرا “وهو يلعب مع الغلمان”. كما ذكر الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أن أبا هريرة (ت 59هـ/680م) كان صاحب ملاطفات للأطفال بالمدينة النبوية، ولذلك “ربما أتى الصبيان -وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب- فلا يشعرون حتى يُلقي نفسَه بينهم، ويضرب برجليْه فيفزع الصبيان فيفرون”!
وكما كان للأولاد ألعابهم؛ فقد كان للصبايا ألعاب في هيئة دُمى عرائس يسميها العرب “البنات”، وهي “تماثيل من عاج” كما فسّرها ابن سِيدَهْ؛ وقال ابن منظور: “البناتُ: التَّماثيلُ التي تلعب بها الجَواري”. وقد ورد في ‘صحيح البخاري‘ أن “عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنتُ ألعب بـ‘البنات‘ عند النبي ﷺ، وكان لي صواحب يلعبن معي”.
ومن طريف ألعاب البنات في الحواضر الكبرى دُمية “الدُّوباركه” التي تشبه ما يُعرف اليوم بدُمية “باربي” وإن كانت بحجم أكبر، وقد ذكرها القاضي المحسِّن التنوخي (ت 384هـ/995م) -في ‘نشوار المحاضرة‘- فقال: “الدوباركه: كلمة أعجمية، وهي اسم للُعَب على قَدْر الصبيان يُحِلّها أهلُ بغداد في سطوحهم ليالي [عيد] ‘النيروز المعتضدي‘ (= بداية تقويم السنة المالية للدولة البويهية)، ويلعبون بها ويُخرجونها في زي حسن من فاخر الثياب والحُلِيّ، ويُجْلونها كما يُفعل بالعرائس، وتخفق بين يديها الطبول والزمور”!!
منذ العهد النبويّ كان للألعاب الرياضيّة ذات الطابع التنافسيّ حظٌّ كبيرٌ من الاهتمام الشعبي و”العناية الرسمية”. ورغم أن الشريعة الإسلامية سدّت أبواب المقامرات المُتلفة للأموال في غير نفع يعود على المجتمع، إلا أنها استثنت من السباق ما يمكنُ أن يُعين على القوة والفروسية وإعداد أفراد المجتمع إعدادا بدنيا يمنحهم القوة والنشاط، كالرمي وسباق الخيل والإبل؛ فقد روى أبو داود والترمذي (ت 279هـ/892م) والنَّسائي (ت 303هـ/915م) وغيرهم من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: “لا سَبَقَ (جائزة الفوز) إلا في نَصْل (مباراة الرماية)، أو خُفٍّ (سباق الإبل)، أو حافِر (سباق الخيل)”.
وكان النبيُّ ﷺ يرعى هذا النوع من المسابقات ويحضرُه مشرفًا ومشاركًا ومشجّعًا؛ ولذا جاء في ‘صحيح البخاريّ‘ من حديث ابن عمر “أن رسول الله ﷺ سابق بين الخيل التي أُضمِرت (أعدّت للسباق والقتال) من الحفياء وأمَدُها ثنية الوداع (المسافة بين الموضعيْن 10 كم تقريبا)، وسابق بين الخيل التي لم تُضمر من الثنيّة إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها. وأما الرمايةُ فكانت محببّة إلى النبيّ ﷺ؛ فقد روى البخاري من حديث سلمة بن الأكوع (ت 74هـ/693م) أنه قال: “مَرَّ النبي ﷺ على نفَر من أسلم يَنتضلون، فقال النبي ﷺ: ارْموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا!
وأما سباق الإبل؛ فلطالما شاركت فيه ناقةُ النبيّ ﷺ فكانت تفوزُ دائمًا إلا مرّة واحدة؛ كما روى البخاريّ في صحيحه من حديث أنس بن مالك أنه قال: “كان للنبي ﷺ ناقة تسمى العَضْباء [وفي بعض الروايات: القَصْواء]، لا تُسبَق، فجاء أعرابي على قَعود فسَبَقَها، فشقَّ ذلك على المسلمين حتى عرفه [النبيّ ﷺ في وجوههم]، فقال: “حقٌّ على الله ألا يرْتفع شيء من الدنيا إلا وضَعَه”!
قواعد حاكمة
من تلك السوابق النبوية؛ استقرَّ لدى أهل العلم أنهم “يجوِّزون اللعبَ.. [بكل ما] فيه تشحيذُ الذهن وتعليمٌ بمخادعات الحرب وطرق الاحتراز عن مكائد الأعداء، فحكمه حكم الملاعب المباحة كالمسابقة بالخيل ورمي السهام ونحو ذلك”؛ وفقا لما لخصه في ذلك العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342هـ/1924م) في ‘مختصر التحفة الاثني عشرية‘. ولذا اهتمت كتب الفقه الإسلامي ببيان أحكام رياضات السباق والرماية وقواعد رصد جوائزها والفوز بها.
ولا شكّ أن الإشراف النبويّ على تلك السباقات أنتج ضوابط يمكن أن نعدّها أصلًا لما يسمّيه الرياضيون اليوم “قواعد اللعب النظيف”؛ فمن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي والنسائيّ من أن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ”، زَادَ [في رواية]: “فِي الرِّهَانِ”. وقد فسَّر ذلك الإمامُ مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) فقال في ‘الموطّأ‘: “أَمَّا الْجَلَبُ فَأَنْ يَتَخَلَّفَ الْفَرَسُ فِي التَسَّابِقِ، فَيُحَرَّكَ وَرَاءَهُ الشَّيْءُ يُسْتَحَثُّ بِهِ فيَسَبِقُ؛ فَهَذَا الْجَلَبُ. وَأَمَّا الْجَنَبُ فَإِنَّهُ يُجْنَبُ مَعَ الْفَرَسِ الَّذِي يُسَابَقُ بِهِ فَرَساً، حَتَّى إِذَا دَنَا تَحَوَّلَ رَاكِبُهُ عَلَى الْفَرَسِ الْمَجْنُوبِ وَأَخَذَ السَّبَقَ (جائزة السباق)”!
وفي قواعد الرماية التنافسية نجد الإمام الشافعيّ (ت 204هـ/820م) يفتي قائلًا: “ولا يجوزُ [أخذ] السَّبَق حتى يعرف كل واحد من المتناضلين (المتسابقين في الرماية) من يرمي معه وعليه، بأن يكون حاضرًا يراه أو غائبًا يعرفه”. وقد أفاض الشافعيّ في “قواعد اللعب النظيف” هذه في كتابه المسمَّى ‘الأم‘، وذكر بخصوصها فتاوى كثيرة.
أما الأديب الجاحظ فيضع لنا -في كتاب ‘التاج‘- قواعد واضحة وعادلة للعب النظيف، مقررا أنه يستوي في الالتزام بها الحاكم والمحكوم؛ فيقول إنه “من الحق على المَلِك ألا يمنع مُلاعِبَه ما يجب له من طلب النَّصَفَة (العدل)..، ومن حق المُلاعِب له المشاحَّةُ والمطالبة والمساواة والممانعة، وتركُ الإغضاءِ، والأخذُ من الحق بأقصى حدوده؛ غير أن ذلك لا يكون معه بَذاء (إساءة) ولا كلامُ رَفَثٍ (فُحْش) ولا معارضة بما يزيل حقَّ الملك، ولا صياح يعلو كلامه، ولا نخيرٌ ولا قذفٌ (سَبٌّ)، ولا ما هو خارج عن ميزان العدل” في اللعب.
ومما يتصل بقواعد اللعب المنضبط الحديثُ عن التحكيم في الألعاب والحُكَّام الذين يتولون رعاية تطبيق هذه القواعد بأمانة على المتنافسين؛ ويبدو أن ذلك كان معمولا به عند أسلافنا على الأقل في بعض الألعاب، حتى إنهم خصصوا له أحيانا وظيفة أطلقوا عليها مصطلحا قريبا من لفظ “التحكيم” الذي نعرفه اليوم، فسمَّوْها “الحُكومة في الملاعب”، ولقبوا صاحبها بـ”الحَكَم”!
وقد حفظت لنا كتب التراجم اسم أحد من تولوا هذه الوظيفة، وهو الشاعر محمد بن العباس بن أبي الفضل (ت بعد 610هـ/1212م) المعروف بـ”أبو عبد الله الموصلي الحَكَم”. فقد جاء في ‘قلائد الجمان‘ لكمال الدين ابن الشعار الموصلي (ت 654هـ/1256م) أن أبا عبد الله الموصلي هذا “تولى.. ‘الحُكومة في الملاعب‘.. كصنعة المثاقفة والصراع.. وإليه الحُكم في ذلك”.
تشجيع منوّع
كان التشجيع ودَور الجمهور في صناعة الفوز حاضرا منذ فجر الإسلام أيضًا، وأولُ ما نذكره في ذلك قصة تشجيع النبيّ ﷺ لفريقٍ ضدّ فريق في الرماية، فقد جاء في حديث سلمة بن الأكوع السابق أن ﷺ، قال: “ارموا، وأنا مع بني فلان (يشجعهم)! قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله ﷺ: «ما لكم لا ترمون؟!»، قالوا: كيف نرمي وأنتَ معهم؟! قال النبي ﷺ: «ارموا فأنا معكم كلكم»! فهنا نرى أن تشجيع النبيّ ﷺ -في قدْره الشريف وأبوّته للجميع- لفريق معيّن مَنَع الفريق المنافس له من أن يواصل اللعب، وحينها ألزم ﷺ نفسَه الحيادَ حرصًا على مشاعر الفريق الآخر.
وإذا كان فريقا المباراة التي حضرها النبي ﷺ قد تشكَّلا بناءً على معيار النَّسَب؛ فإن التاريخ الإسلاميّ شهد -بعد اتساع الأقطار وتمصير الأمصار- تنافس فِرَق الألعاب وفق انتمائها إلى البلدان، أي على الأصل نفسه الذي تتعامل به الهيئات الرياضية المعاصرة. ومن نماذج ذلك ما ذكره الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘أعيان العصر‘- من تنافس الأميرين ناصر الدين بن الجوكندار (ت بعد 715هـ/1315م) وعلاء الدين قَطْلِيجا (ت 720هـ/1320م).
قال الإمام الصفدي: “كنا نتفرج عليهما، ويقول الناس: هذا طبجي مصر (ناصر الدين) وهذا طبجي دمشق. وكان الأمير ناصر الدين أرشق على ظهر الفَرس وأسرع حركة، والأمير علاء الدين قَطْلِيجا إذا تناول الكرة بِصَوْلَجانه (مِضْرَبه) ما يحتاج معه إلا ضربة واحدة وقد بلَّغها المدى (أحرز الهدف)”!! هذا رغم أن علاء الدين عُرف برشاقته الرياضية البالغة، فقد كان “يسوق الفرس ويأخذ نصف السَّفَرْجَلَة من غُصنها ويدع النصف مكانه وهو في أقوى مشوار الفرس، وهو أمر مُعْجِز لغيره”.
ويبقى تشجيع الرياضيين بناءً على انتسابهم الطائفي أغربَ أنواع التشجيع المرصودة تاريخيا؛ ومن نماذجه الدالّة ما يحكيه القاضي المحسِّن التنوخي من أن السلطان البويهي بالعراق مُعِزّ الدولة (ت 356هـ/967م) كان شديد العناية ببعض الرياضات كالعَدْو والمصارعة والسباحة، فأنفق فيها الأموال ونظّم لها الفرق ونشرها بين الناس. لكن رياضة العدْو تحديدا استولت على جُلّ عنايته ورعايته؛ لأنه “احتاج إلى السُّعاة (العدَّائين) ليجعلهم فُيوجاً (رُسُلًا) -بينه وبين أخيه ركن الدولة (ت 366هـ/997م)- إلى الرَّيِّ (طهران اليوم)، فيقطعون تلك المسافة البعيدة في المدة القريبة، وأعطى على جوْدة السَّعْي الرغائبَ (الجوائز الكبيرة)، فحرص أحداثُ (فتيان) بغداد.. على ذلك”!
وكان من نتائج هذا السباق المحموم شعبيا والمدعوم رسميا أنَّ الناس “انهمكوا فيه وأسلموا أولادهم إليه؛ فنشأ ركابيان (عدّاءان) لمعز الدولة: يُعرَف أحدُهما بـ‘مرْعوش‘، والآخر بـ‘فضْل‘، يسعى كل واحد منهما نيفا وثلاثين فرسخا (200 كم تقريبا) في يوم من طلوع الشمس إلى غروبها..، وقد رتّب [معز الدولة] على كل فرسخ من الطريق قوما يحضون عليهم، فصاروا أئمة السعاة ببغداد، وانتسب السُّعاة إليهم وتعصب الناس لهم”؛ طبقا للتنوخي.
ويحدثنا أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) عن عظيم انشغال الناس بتشجيع هذين العداءيْن؛ فيقول في ‘الإمتاع والمؤانسة‘: “انظر إلى فضلٍ ومرعوش.. كيف لهج الناس بهما وبالتعصب لهما، حتى صار جميع من ببغداد إما مرعوشياً وإما فضلياً”!! حتى إن قاضي القضاة حينها دخل إحدى مناطق بغداد “فتعلق بعض هؤلاء المجّان بلجام بغلته، وقال: أيها القاضي، عرِّفنا: أنت مرعوشي أم فضلي”؟! أما ابن الأثير فقد أوضح الصورة أكثر بتنبيهه على أن هذا التشجيع كان يُخفي وراءه نزعة طائفية؛ فقال إن العدّاءيْن “كان أحدُهما ساعيَ السُّنّة (= فضل)، والآخر ساعي الشيعة (مرعوش)”!!
غرام وانقسام
وإذا كان المتسابقون من الرجال يتأثرون بالجمهور ويأبهون له، فما من شيء يعدلُ عندهم تشجيع النساء، خاصّة إذا كان فيهنّ محبوبةٌ يُراد الفوزُ بإعجابها قبل الفوز بالسباق؛ فهذا الإمام ابن قتيبة الدينوريّ (ت 276هـ/892م) يذكر -في ‘الشعر والشعراء‘- قصة جرت بين الشاعرين العاشقين الشهيرين توْبة بن الحُمَيِّر (ت 85هـ/705م)، وجَميل بن مَعْمَر (ت 83هـ/703م).
يقول ابن قتيبة: “كان توْبة رحل إلى الشأم فمرّ ببني عُذْرَة، فرأته بُثينة فجعلت تنظر إليه فشقّ ذلك على جميل، وذلك قبل أن يُظْهَر (يُكتشَف) على حبّه لها، فقال له جميل: مَنْ أنتَ؟ قال: أنا توبة بن الحميّر، قال: فهل لك في الصّراع؟ قال: ذلك إليك، فنبذتْ إليه بُثينة مِلْحَفةً مُوَرَّسة (مصبوغة بالوَرْسِ) فاتّزر بها، ثم صارعه فصرعه جميل، ثم قال له: هل لك في النّضال؟ قال: نعم، فناضله فنَضَله (غلبه) جميل، ثم قال له: هل لك في السّباق؟ قال: نعم فسابقه فسَبَقه جميل، فقال له: توبة: يا هذا، إنّك إنّما تفعل هذا بريح (قوة تشجيع) هذه الجالسة! ولكن اهبط بنا إلى الوادي، فهبطا إلى الوادي فصرعه توبة وسبقه ونضله”! ففاز جميل حين لعب على أرضه وأمام جمهوره المتمثل في محبوبته بثينة، ثم لما فقد أرضَه وجمهوره غُلب وانهزم!!
وحيثما ابتدأ الاصطفاف الجماهيري تشجيعا للاعبين فإنه ينتهي دائما إلى التعصب الرياضيّ والهوس التشجيعي؛ ولذا يذكر الجَبَرتي (ت 1237هـ/1825م) -في تاريخه ‘عجائب الآثار‘- مفسِّرا أصل انقسام الجنود المصرية -بداية العصر العثمانيّ- إلى “فقارية” و”قاسمية”، أن السلطان العثماني سليم الأول (ت 926هـ/1520م) أمر العساكر أن “ينقسموا بأجمعهم قسمين: قسم يكون رئيسهم [الأمير] ذا الفقار (ت بعد 922هـ/1517م) والثاني أخوه [الأمير] قاسم الكرار (ت بعد 922هـ/1517م). وأضاف إلى ذي الفقار أكثر فرسان العثمانيين وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين، وميّز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب، وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والرِّكاب”.
ويصف الجبرتي جوَّ المباريات الساخن بين الفريقين؛ فيقول إن السلطان “أمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين، فأذعنوا بالانقياد وعلوْا على ظهور الجياد، وساروا بالخيل وانحدروا كالسَّيْل.. متسابقين ورَمَحوا متلاحقين، وتناوبوا في النِّزال واندفعوا كالجبال، وساقوا في الفِجَاج (الطُّرُق) وأثاروا العَجَاج (الغُبار)، ولعِبوا بالرماح وتقابلوا بالصِّفاح (السيوف العِراض)، وارتفعت الأصوات وكثرت الصيحات..، وقرُب أن يقع القتل والقتال، فنُودِي فيهم عند ذلك بالانفصال”!!
وكان من ثمرات هذا اللعب الساخن أن ظهر في أرض الكنانة فريقا “أهلي” و”زمالك” قبل عصرهما بنحو خمسة قرون، وكان لهم من المشجعين المتعصبين وألوان التعبير عن هذا التشجيع ما يفوق ما نراه لهما في زمننا؛ إذ يخبرنا الجبرتي قائلا: “فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذه المَلْعَبة حزبين، واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقبلون فيه!! حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات، ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسَّم ونما وأهْرِيقت (سُفِكَت) فيه الدِّما! فكم خربت بلاد وقُتِلتْ أمجاد، وهُدِمت دُور وأحرِقت قصور..، ولم يزل الحال على ذلك حتى استهل القرن الثاني عشر”!!
ساحرة مستديرة
أما الكرة فقد كانت أشهر الألعاب في التاريخ الإسلامي وأحظاها باهتمام الخاصة والعامة كما هو شأنها في حياة الناس اليوم. وكانت تُلعب على الخيول ويُسمّى مِضْربُها الذي تُضربُ به “الصولجان”، وهو أيضا “الجوكان”. ويقول أبو منصور الأزهري (ت 370هـ/981م) -في معجم ‘تهذيب اللغة‘- محددا معنى هذه الآلة: “الصولجان: عصا يُعطَف طَرَفُها، يُضرَب بها الكرةُ [من] على الدواب، فأما العصا التي اعوجَّ طرفها خِلْقَةً في شجرتها فهي مِحْجَنٌ..، والصولجانُ.. [لفظة] مُعرَّبةٌ” عن اللغة الفارسية.
أما العلامة ابن الأمشاطيّ (ت 902هـ/1497م) فقد أمدَّنا -في شرحه لكتاب ‘الموجَز في الطب‘ لابن النفيس (ت 687هـ/1288م) ونقلنا كلامه عن كتاب ‘لعب العرب‘ للعلامة أحمد تيمور باشا (ت 1348هـ/1930م)- بما يفيدنا أن مفردة “الصولجان” أصبحت تُطلق على لعبة الكرة نفسها ولم تعد تعني مجرد المضرب؛ فقال شارحا هذه اللعبة: “والصولجان عندنا عبارة عن اللعب بالكرة التي يلعبُها الفُرسان، وهي كرةٌ كبيرةٌ تُلقى على الأرض ويأتيها الفارسُ راكبًا ويضربُها بقضيب في رأسه قطعة خشب نحو شِبْر، فإذا ضربها أسرع الفُرسان نحوها يقصدون ضربها، فمن سبق منهم إلى إصابتها بالقضيب الذي في يده كانت الغلبة له”.
أما الكرة نفسها فكانت تدعوها العامة “الطاب” وفقا للأمشاطي؛ ولا يزال الناس في الشام -حتى الآن- يُسمُّون الكُرةَ “طابة”! ويتضحُ من شرح ابن الأمشاطيّ أن هذه اللعبة أصلٌ لما يُعرف اليوم بـ”لعبة بولو”. ويبدو أن هذه اللعبة كان منصوحًا بها طبيًّا في القديم؛ فقد ذكر ابن أبي أصَيْبِعة (ت 668هـ/1269م) -في ‘عيون الأنباء في أخبار الأطباء‘- أن جالينوس (ت 216م) كتب كتابًا سمّاه: ‘كتاب الرياضة بالكرة الصَّغِيرَة‘؛ ثم قال إن “هَذَا الْكتاب مقَالَة وَاحِدَة صَغِيرَة يَحْمَد (= يمدح) فِيهَا [جالينوس] الرياضةَ بالكرة الصَّغِيرَة واللعب بالصولجان، ويقدمه على جَمِيع أَصْنَاف الرياضة”!
أما ابن النفيس فعزا إليه تيمور باشا –‘في لعب العرب‘- قولَه في كتابه ‘الموجَز في الطب‘: “واللعبُ بالصولجان رياضةٌ للنفس والبدن، لما يلزمه من الفرح بالغلبة والغضب بالانقهار”. ويبدو من كلام المؤرخين أن العرب أخذوا هذه اللعبة عن الفُرس، إذ ذكر غير واحد منهم أنها كانت تُلعب بين يديْ ملك الفرس أرْدَشِير بن بابك (ت 242م).
وكانت الكُرة اللعبة المفضّلة لدى الخلفاء والملوك والأمراء؛ فقد جاء في ‘كنوز الذهب‘ لسبط ابن العجمي (ت 884هـ/1479م) أن أول خليفةٍ لعب الكُرة هو هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، وورث عنه حُبَّها ابنُه محمد الأمين (ت 198هـ/814م) حتى إن الاهتمام بها كان على رأس أولوياته في الحكم، حسب الإمام السيوطي (ت 911هـ/1506م) الذي يقول -في ‘تاريخ الخلفاء‘- إن الأمين “أولَ ما بُويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدانٍ جوارَ قصرِ المنصور للعب بالكرة.
بوابة للصعود
ومن الأمراء الذين شُغفوا بها مؤسس الدولة الطولونية بمصر الأمير أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م)، وبقي الشغفُ بها في مصر بعده قرونًا متطاولة؛ فحين أورد المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أخبارَ هذا الأمير قال: “وجعل ابن طولون قصرًا كبيرًا فيه ميدانُه الذي يلعب فيه بالكرة، وسمَّى القصرَ كلّه ‘الميدان‘”.
أما أشهرُ من لعبها من الأمراء والقادة بعد العهود الأولى؛ فلعلّه السلطان نور الدين محمود زنكي الشهيد (ت 569هـ/1173م) الذي كان بها شغوفًا وعليها حريصًا؛ فقد قال مؤرخ دولته أبو شامة المقدسي (ت 665هـ/1266م) -في ‘كتاب تاريخ الروضتين‘- إن نور الدين لم يُرَ “على ظهر الفرس أحسنَ منه، كأنه خُلق عليه لا يتحرك ولا يتزلزل، وكان من أحسن الناس لعبا بالكرة وأقدرهم عليها، لم يُرَ جوكانه (مِضْربه) يعلو على رأسه، وكان ربما ضرب الكرة ويجري الفرس ويتناولها بيده من الهواء، ويرميها إلى آخر الميدان، وكانت يده لا تُرى والجوكان فيها، بل تكون في كُمِّ قَبائه (جُبَّته) استهانة باللعب”!!
وعلى بالغ اهتمام هذا السلطان العظيم بالكرة؛ فإنها لم تكن تشغله عن عبادته أو جهاده ولا عن تدبير سلطته ومصالح رعيته، بل كان يراها جزءًا من نشاطه الجهاديّ وتدريبًا للخيل على الكَرِّ والفَرِّ. فقد ذكر الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه “كان كثير الصيام وله أوراد في الليل والنهار، كثير اللعب بالكرة؛ فكتب إليه بعض الصالحين يُنْكر عليه ويقول: تُتْعِب الخيلَ في غير فائدة! فكتب إليه بخطه: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثَغْر [أمام الفرنجة الصليبيين]، فربما وقع الصوت [بهجوم من العدو]، فتكون الخيل قد أدمنتْ على سرعة الانعطاف بالكر والفر”!!
ومن عجبٍ أن تعرف أن قُرب صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) من نور الدين -في بداية دخوله السلطة- كان من أهم أسبابه براعتُه هو الآخر في لعب الكرة؛ فالإمام ابن كثير يخبرنا بأن نور الدين قرّب صلاح الدين “وجعله من خواصِّه لا يفارقه حضراً ولا سَفَراً، لأنه كان حسن الشَّكْل حسن اللعب بالكرة”!
بعد هذا كلّه قد لا يُستغرَبُ إن عُرف أن وفاة نور الدين كانت عقب مشاحنةٍ كرويّة؛ فقد ذكر ابن كثير أنه ذات يوم “لعب بالكرة.. فحصل له غيظٌ من بعض الأمراء -ولم يكن ذلك من سجيته- فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيّز سوءِ المزاجِ واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه”، واعتزل الناس إلى أن تُوفّي بعد مدة يسيرة!!
وكان بعضُ الملوك قد جعل أيامًا بعينها للعب الكُرة بمواعيد ثابتة كالسلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) الذي برع فيها؛ فابن تَغْري بَرْدي يفيدنا بأنّه “أنشأ الميدان تحت قلعة الجبل، وأجرى له المياه وغرس فيه النخل والأشجار، ولعب فيه بالكرة في كلّ يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصّكيّة (= حاشية السلطان) وأولاد الملوك. وكان الملك الناصر يجيد لعب الكرة إلى الغاية بحيث إنه كان لا يدانيه فيها أحد في زمانه”!!
ملهاة أميرية
ولئن كان نور الدين قد اتخذ لعب الكرة تمرينًا على الفروسيّة واستعدادا لقتال الأعداء من الصليبيين؛ فإن أمراء آخرين رأوا فيها تسليةً محضة في أوقات الفراغ من الشواغل، فقد كان الأمير المملوكي علاء الدين الصالحي (ت 690هـ/1291م) “أحدَ الأمراء الكبار..، [ومع ذلك] كان يلعب مع أولاد صفد الكرة في الميدان على رجليه، أو.. يلعبون وهم قدامه”؛ كما يقول الصفدي في ‘الوافي بالوفيات‘.
بل إن بعضهم كان يتخذ منها وسيلة لإلهاء النفس عن الفكر في طول نهار الصوم برمضان؛ يقول المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) في ‘وفيات الأعيان‘: “رأيت الكامل والأشرف (الأيوبييْن توفيا سنة 635هـ/1237م) وكانا يركبان معاً ويلعبان بالكرة في الميدان الأخضر الكبير كلَّ يوم، وكان [الزمن] شهر رمضان، فكانا يقصدان بذلك تعبير (تقضية) النهار لأجل الصوم”!
ومن اهتمام الأمراء بالألعاب عموما ما يرويه المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي عن السلطان المملوكي المظفَّر حاجي (ت 748هـ/1347م) أنه كان أيام حكمه يخالط “أرباب الملاعيب من الصراع (= المصارعة) والثقاف (= المناورة بالسيوف)..، وجرْي السُّعاة (رياضة العَدْو)، ونِطاح الكِبَاش، ومُناقرة الدُّيوك..، ونودي بإطلاق اللعب بذلك بالقاهرة ومصر”.
لقد كان لعبُ الكرة خطيرًا، وكثيرًا ما أودى بحياة اللاعبين؛ ومن قصص ذلك ما رواه ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1301م) في ‘مفرّج الكروب‘، فقد روى خبر وفاة نجم الدين أيوب (ت 568هـ/1172م) والد السلطان صلاح الدين، ثم قال: “كان [نجم الدين] مولعا باللعب بالكرة وشدة الركض، فكان كلُّ من رآه على هذه الصفة يقضي (يقدّر) أنه لا يموت إلا من وقوعه عن ظهر الفرس”، وكذلك كان الأمر!
وفي كتب التاريخ كثيرٌ من أخبار وفيات الأمراء والقادة سقوطًا عن ظهور الخيل أثناء لعب الكُرة، مثل الملك السعيد بركة (ت 678هـ/1279م) ابن الملك الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م) الذي “كان سبب موته أنه لعب بالكرة في ميدان الكرة، فتَقَنْطَر (ألقاه على جنبه) به فرسُه فحصل له بسبب ذلك حمى شديدة، وبقي كذلك أياماً يسيرة وتوفي”؛ حسب رواية ‘المختصر في تاريخ البشر‘ للملك الأيوبي أبي الفداء (ت 732هـ/1332م).
وقد تحصل الوفاة بسبب سقوط الفرس فوق اللاعب نفسه في الميدان كما جرى ليَلْبُغا الصالحيّ (ت 747هـ/1346م) أحد أمراء الكامل شعبان ابن الناصر قلاوون (ت 747هـ/1346م)؛ فابن شاهين المَلَطي (ت 920هـ/1515م) يحدثنا -في ‘نيل الأمل‘- أنه في أحد الأيام “لعِب السلطانُ [الكاملُ] بالكرة في الميدان على أمرائه، فاصطدم يلبغا الصالحي مع آخر وسقطا معا عن فرسيْهما، ووقَع فرسُ يلبغا على صدره فانقطع نُخاعه ومات لوقته”!
لطف وعنف
ورغم عُسر لعبة الكرة وقوتها وخطورتها فإنّ التاريخ الإسلاميّ لم يخلُ من كُرةٍ نسائيّة؛ وفقا لما يفيدنا به المؤرخ ابنُ تَغْري بَرْدي الذي روى من أخبار سلطان مصر المملوكي الصالح إسماعيل ابن الناصر قلاوون (ت 746هـ/1345م) أنه كانت “تركب حظاياه [من النساء] الخيولَ العربية ويتسابقن، ويركبن تارة بالكامليّات الحرير ويلعبن بالكرة، وكانت لهنّ في المواسم والأعياد وأوقات النُّزهة أمورٌ من هذا النّموذج”!!
ويحدثنا ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) عن قِدَم الألعاب النسائية الحركية التي تعود ممارستها -في الأقل على مستوى المحاكاة- إلى العهود الأولى لدولة العباسيين؛ فيقول -في ‘المقدمة‘- إنه في أيامهم “اتُّخِذتْ آلاتٌ أخرى للرقص تسمّى بـ‘الكُرَّج‘، وهي تماثيل خيل مُسْرَجة من الخشب معلَّقة بأطراف أقبية (عباءات) يلبسها النسوان، ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرُّون ويفرّون ويتثاقفون، وأمثال ذلك من اللعب المعدّ للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو. وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها”.
أما الأطفال فقد اشتهر لعبهم بالكرة، وأخبار ذلك في كتب التاريخ والتراجم كثيرة؛ ومن أطرف قصص ذلك ما ذكره الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- قائلا: “وقال القاضي عبد الصمد في «تاريخه»: سمعت محمد بن عوف (ت 272هـ/885م) يقول: كنت ألعب في الكنيسة بالكرة وأنا حَدَثٌ (= مراهق)، فدخلت الكرةُ إلى المسجد فوقعت بالقرب من المعافى بن عمران -يعني الحمصي (ت بعد 200هـ/815م)- فدخلتُ لآخذها، فقال: ابنُ مَنْ أنتَ؟ قلتُ: ابن عوف! قال: أمَا إنّ أباك كان من إخواننا وكان ممن يكتب معنا العلم، والذي يُشْبِهُك (= يليق بك) أن تتبع ما كان عليه والدُكَ! فصرتُ إلى أمي فأخبرتُها، فقالت: صدق يا بني! فألبستني ثوبا وإزارا، ثم جئت إليه ومعي مِحْبَرة ووَرَق”!!
وإذا كانت الكرة لعبةً محتاجةً إلى القوة والبأس ومنطويةً على شيء من الخطورة؛ فإنّ بعض الألعاب كان العُنف غالبًا عليها وجزءًا من متعة سادية غلبت على منظميها، مثل لعبة كان يُقال لها “اللبخة” نسبة ربما إلى خشب “اللبخ”، وهي اللعبة الشعبية التي تسمى اليوم في مصر “التحطيب”.
وقد ذكرها ابن تغري بردي ضمن أحداث سنة 746هـ/1345م محددا لنا تاريخ نشأة اللعب بها؛ فقال إن السلطان الكامل شعبان (ت 747هـ/1346م) توجّه إلى منطقة “سرياقوس وأحضر الأوباش فلعبوا قدّامه باللّبخة، وهي عِصِيٌّ كِبارٌ حدَثَ اللعب بها في هذه الأيام، ولمّا لعبوا بها بين يديه قَتل رجلٌ رفيقَه، فخلع (كرّم) السلطان على بعضهم وأنعم على كبيرهم بخُبز (راتب) في الحلقة (العساكر)، واستمرّ السلطان يلعب بالكرة في كلّ يوم وأعرض عن تدبير الأمور، فتمرّدت المماليك وأخذوا حُرُمَ الناسِ وقطعوا الطريق”!!
وقريبا من تلك الألعاب العنيفة ما يُعرف اليوم برياضات القوى وحمل الأثقال، وقد كان لها حضور في تراثنا حتى في أوساط الأمراء والمسؤولين الكبار، مثل الأمير علم الدين سنجر الحلبي (ت 692هـ/1293م) الذي كان يمارس هذه الألعاب يوميا بعد انتهاء عمله الحكومي!! إذ يخبرنا الإمام بدر الدين العيني (ت 855هـ/1451م) -في ‘عقد الجمان‘- أن هذا الأمير “كان من أكابر الأمراء.. وتسلْطنَ بالشام..، وقيل: إنه كان.. إذا نزل من الخدمة (= العمل الرسمي) إلى بيته لا ينزل عن فرسه حتى يقدَّم له قنطارته محشوَّة برصاص فيلعب بها وهو راكب، ثم يأتي إلى فرْدة تِبْنٍ فيطعنها ويشيلها من الأرض، ثم ينزل ويأخذ عمودا حديدا زنته قنطار (40 كلغ تقريبا) فيلف به يمينا ويسارا”!!
اقرأ أيضا :
الرياضة في تاريخ المسلمين
رياضات ذهنية
لم تقتصر الألعاب في الحضارة الإسلامية على أنواعها المعتمد على القوة البدنية، بل إنها عرفت كذلك صنوفا من الرياضات الذهنية تأتي في مقدمتها لعبة الشطرنج التي أخذها المسلمون عن غيرهم؛ فقد تحدث الجاحظ -في ‘الرسائل‘- عن ثقافات الهند فقال إن “لهم الشطرنج، وهي أشرف لعبة وأكثرها تدبيرا وفطنة”!! ويرى المؤرخ ابن خلكان أن الشطرنج اختراع هندي، فيقول إن اسم “الذي وضعه: صصه بن داهر الهندي، واسم الملك الذي وضعه له: شِهْرام”!
وقد اهتم المسلمون -منذ القرن الأول- بلعبة الشطرنج حتى شمل ذلك علماءهم وصلحاءهم ناهيك بخلفائهم وعامتهم؛ ويكفي هنا أن نعلم أن أول نواة للنوادي الثقافية في الحضارة الإسلامية كانت في دار لاصقة بالحرم المكي نهاية القرن الأول، وكان ضمن أدوات الترفيه فيها ألعاب بينها الشطرنج!
وعن ذلك يحدثنا المؤرخ القرشي الزبير بن بكار (ت 256هـ/870م) -في كتابه ‘جمهرة نسب قريش وأخبارها‘- فيقول إن عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي “اتّخذ بيتا فيه شترنجات (شطرنجات) ونَرْدات (لعبة الطاولة) وقِرْقات (جمع قِرْق: لعبة طاولة مذكورة آنفا)، ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتادا فمن جاءه علّق ثيابه على وتد منها، ثم جرّ دفتراً فقرأه، أو بعض ما يُلعب به فيلعب مع بعضهم”!!
بل إن بعض أئمة التابعين بلغوا من مهارتهم في الشطرنج أن أحدهم “كان يلعب بها استدبارا”، بمعنى أنه يُوَلِّي ظهرَه لطاولتها ومنافسه في اللعب بها ثم يعطي أوامره بنقل قطعه على رقعتها دون أن ينظر إليها!! ويفسر لنا ذلك الإمامُ المحدِّث البيهقي (ت 458هـ/1067م) فيروي -في ‘معرفة السنن والآثار‘- بسنده قائلا: “سمعت الشافعي يقول: لعب سعيد بن جُبير (ت 95هـ/714م) بالشطرنج من وراء ظهره فيقول: «بأيش دفع كذا؟» قال: بكذا، قال: «ادفع بكذا»..!! أخبرنا الشافعي قال: كان محمد بن سيرين (ت 110هـ/729م) وهشام بن عروة (ت 146هـ/763م) يلعبان بالشطرنج استدبارا..، وروينا عن الشَّعْبي (ت 106هـ/725م) أنه كان يلعب به”!!
وبعد العصر الأول؛ تعمق المسلمون في ممارسة لعبة الشطرنج حتى برع فيها بعضهم إلى درجة أنه صار يُضرب به المثل فيها، بل ونُسب إليه اختراعها من الأصل! فالمؤرخ ابن خلكان يقول -في ترجمته للأديب أبي بكر الصولي (ت 330هـ/942م)- إنه “كان أوحدَ [أهل] وقته في لعب الشطرنج، لم يكن في عصره مثله في معرفته! والناس إلى الآن يضربون به المثل في ذلك فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه [بها]: فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي!! ورأيتُ خلقا كثيرا يعتقدون أن الصولي المذكور هو الذي وضع الشطرنج، وهو غلط”!!
وممن مَهر في لعبتها أيضا الطبيب الأندلسي أبو بكر بن أبي الحسن الزهري الإشبيلي (ت نحو 620هـ/1223م)؛ فقد وصفه ابن أبي أصَيْبِعة -في ‘عيون الأنباء‘- بأنه “كان في مبدأ أمره محبا للشطرنج كثير اللعب به، وجاد لعبُه في الشطرنج جدا حتى صار يوصف به..، فكانوا يقولون: أبو بكر الزهري الشطرنجي”! ومن الطريف أن هذا اللقب -المحبب إلى كثير من محترفي هذه اللعبة العقلية- كان يُغضب الزهري هذا، فترك الشطرنج واستعاض عنها بتعلم الطب قائلا لنفسه: “لا بد أن أشتغل عن هذا بشيء غيره من العلم لأُنْعَتَ به ويزول عني وصف الشطرنج”!!
فِرَق منزلية
ومن أهل العلم من كان يوفر الشطرنج لمرتادي بيته من طلاب العلم وغيرهم فيلعبونها في حضرته خلال أوقات الفراغ؛ فقد ذكر ابن الأثير -في ‘الكامل‘- أن فخر الدين مبارك شاه بن الحسن المَرْوَرُّوذي (ت 602هـ/1205م) “كان حسن الشعر بالفارسية والعربية..، وكان له دارُ ضيافةٍ فيها كتب وشطرنج، فالعلماء يطالعون الكتب، والجهال يلعبون بالشطرنج”!
ومثله في ذلك العلامة بهاء الدين ابن النحاس الحلبي (ت 698هـ/1300م)، الذي ترجم له ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) -في ‘مسالك الأبصار‘- فوصفه بأنه “شيخ العربية بالديار المصرية..، لم يزل عنده في بيته من الطلبة ومن أصحابه مَنْ يأكل عنده..، ويدخل الداخل عليه فيجد في بيته: هنا أناس يلعبون بالشطرنج، وهنا أناس يطالعون، وكلُّ واحد في شأنه لا يُنْكِرُ أحدٌ على أحد شيئا، ولا يزال رضيًّا حتى يكون وقت الاشتغال (= التدريس) فيتنكَّر”!!
بل إن بعضهم كانوا يلعبونها ضمن فرق متنافسة تتداول استضافتها بالدَّوْر في منازل أعضائها؛ ومن هؤلاء العلامة محمد بن محمد بن محمد الكناني السمنودي الشافعي (ت 879هـ/1474م) الذي يفيدنا الإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) -في ‘الضوء اللامع‘- بأنه كان من أهل “المشي على قانون كبار المباشِرين (= مسؤولي الدولة) والإدمان للعب الشطرنج، بحيث كان وقتا مع جماعة يقسمون أيامهم فيه؛ فعند فلان يوم كذا واليوم الذي يليه عند آخر وهكذا”!!
ويبدو أن صاحبنا السمنودي هذا لم يكن -رغم مكانته العلمية والوظيفية- ممن يتّسمون بالروح الرياضي فيلتزمون بقواعد اللعب النظيف المتقدم ذكرها عند الجاحظ؛ ولذلك كانت “تصدر منه حين لعبه غالبا كلماتٌ يَخرج فيها عن الحد، ولا يَعرف حينئذ كبيرا ولا صغيرا، وكلما زاد فيها زاد جلساؤه من مقتضياتها”!!
ولم تكن منافسات الشطرنج بعيدة عن ظاهرة المشجعين وإن ظل مشجعوها من علية القوم باعتبارها لعبة نخبوية، وفي مقدمة هؤلاء يأتي الخلفاء والأمراء؛ إذ روى ابن خلّكان في ترجمته للصولي -المتقدم ذكْرُه- أنه دخل على الخليفة العباسي المُكْتفي (ت 295هـ/908م) “وقد كان ذُكِر له تخرُّجه في اللعب بالشطرنج، وكان الماوردي اللاعب (بالشطرنج) متقدِّما عنده (= الخليفة المكتفي) متمكنا من قلبه معجبا به للعِبه؛ فلما لعبا جميعا بحضرة المكتفي حمَل المكتفيَّ حُسْنُ رأيه في الماوردي.. على نصرته وتشجيعه وتنبيهه، حتى أدهش ذلك الصوليَّ في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما وجمع له الصولي متانته.. غلبَه غلْباً لا يكاد [معه] يردّ عليه شيئا، وتبيّن حسنُ لعب الصولي للمكتفي، فعَدَل عن هواه ونصرة الماوردي”!!
تفنُّن ورهان
وكما كان الرهانُ في سباق الخيل والإبل والنضال بالسهام شائعًا بين المسلمين كما أسلفنا؛ فقد حضر الرهان أيضا في مسابقات ألعاب أخرى كالشطرنج رغم منع العلماء له شرعا؛ فهذا أبو الحسن الشابُشْتي (ت 388هـ/999م) يروي في كتابه ‘الديارات‘: “قال أبو العيناء (ت 283هـ/896م): دخلتُ على أبي أحمد عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر (ت 300هـ/913م)، وكان يوما صائفاً وقوم بين يديه يلعبون بالشطرنج؛ فقال: يا أبا عبد الله..، في أي الحزبين تحب أن تكون؟ قلت: في حزب الأمير.. فإنه أعلى وأبهى، فغُلبنا! فقال أبو أحمد: يا أبا عبد الله، قد غُلبنا! وقد أصابك بقسطك عشرون رطلًا (= 10 كم تقريبا) ثلجاً”!!
وقد كانت للشطرنج أشكال وأحجام مختلفة؛ فالمؤرخ المسعوديّ (ت 346هـ/957م) يذكر -في ‘مروج الذهب‘- أن “الشطرنج [عند الهنود] ذو صور وأشكال على صور الحيوان من الناطقين وغيرهم، كل قطعة من الشطرنج كالشبر في عرض ذلك بل أكثر”!
ولعل هذا الشطرنج الهندي الضخم كان مُلْهِمًا للسلطان الأوزبكي الشهير تيمور لَنْكْ (ت 807هـ/1405م) في اتخاذه شطرنجا عملاقا تميز به؛ إذ يروي ابن تَغْري بَرْدي -في ‘المنهل الصافي‘- أنه “كان يلازم اللعب بالشطرنج، ثم علت همته عن الملاعب (= اللعب) بالشطرنج الصغير المتداول بين الناس، [فـ]ـصار يلعب بالشطرنج الكبير، ورقعته عشرة في إحدى عشرة وتزيد قطعه على الصغير بأشياء”!!
كما تفنن الناس قديما في أنواع من الألعاب -سوى ما فصلنا الحديث فيه- ما زالت حاضرة حتى اليوم، فكان منهم “حُواةٌ” محترفون في ملاعبة الحيات لتسلية العامة مقابل دراهم يقدمونها لهم؛ فسبط ابن الجوزي يروي -في ‘مرآة الزمان‘- أن الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ/941م) قال: قدمتُ مع أبي إلى الشام، فدخلنا مدينة فرأينا [فيها] رجلا قائما بيده حية يلعب بها ويقول: من يعطيني درهما حتى أبلعها؟ فالتفتَ إليَّ أبي وقال: احفظْ دراهمَك يا بُنَيّ، فمِن أجلها تُبْلَعُ الحيّاتُ”! وحين ذكر المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في المواعظ والاعتبار‘- ميدان “رحبة باب اللوق” بالقاهرة قال إن “بها تجتمع.. أربابُ الملاعب والحرف كالمشعبذين والمخايلين والحُواة”!!
ومن ألعابهم الشائعة صيد الحمام وأنواع الطيور، حتى إن بعض الخلفاء وعلية القوم عُرف بولعه بذلك مثل الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/715م) الذي كان “مُغْرًى بحُبِّ الحمام يلعب بها”؛ وفقا لسبط ابن الجوزي. وكذلك الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 334هـ/946م) الذي يخبرنا أبو الحسن الهمذاني (ت 521هـ/1127م) -في ‘تكملة تاريخ الطبري‘- بأنه “كان يلعب قبل الخلافة بالطيور ويرمي بالبندق ويخرج الى البساتين للفرجة واللعب”!!