العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، أو كما قال
ﷺ، ولأنهم ورثة الأنبياء، صارت لهم مكانة مرموقة بين الناس في كل زمان ومكان، فهل كلهم ورثة أنبياء؟. في كل الأمم والحضارات كان هنالك علماء، وأقصد ها هنا علماء دين، حيث أحبار اليهود وقساوسة
النصارى وعلماء المسلمين، لكن لا أتحدث اليوم عن علماء ملل ونحل ما أنزل الله بها من سلطان، إنما عن علماء ملل الشرائع السماوية، وتحديداً علمائنا المسلمين. في عهد النبي الكريم –
ﷺ – ظهر عدد من الصحابة الكرام ممن أتاهم الله من فضله، تفرغوا للعلم أمثال
أبي هريرة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت و عبدالله بن مسعود وغيرهم، كما في الحديث الصحيح: “أرحم أمتي بأمتي
أبو بكر، وأشدهم في أمر الله
عمر، وأصدقهم حياء
عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة
أبو عبيدة بن الجراح“. ثم ظهر بعد ذلك أبناء الصحابة أمثال ابن عباس، حبر هذه الأمة، وعبدالله بن عمر، واستمر ظهور علماء في التابعين وتابع التابعين ممن ينطبق عليهم حديث “
العلماء ورثة الأنبياء“،
كالحسن البصري و
سعيد بن المسيّب وغيرهما حتى اتسعت الدولة الإسلامية، وظهرت مع اتساعها وبالتوازي الخلافات السياسية، التي شعّبت الناس وفرقتهم إلى هنا هناك، ليصل التأثير إلى طبقة العلماء أيضاً، فتباينوا وتحاسدوا وتآمروا على بعضهم البعض، واختلفوا في الآراء والمذاهب والمشارب والمقاصد والطموحات.. وهكذا استمرت فئة العلماء في التمايز والتباين، حتى بدأ مصطلح علماء السلاطين في الظهور، ليبدأ الناس حينها بتمييز العالم الرباني عن الدنيوي أو ما شابه.
الأزمات تكشف العلماء
مثلما أن الأزمات وخاصة السياسية، تكشف مشارب ومآرب غالبية الناس في أي مجتمع، وفي أي زمان ومكان، فكذلك الأمر مع العلماء، لكن ما يميزهم أنهم في الأزمات أشبه بمنارات تهتدي بهم الناس، أو بوصلة للشعوب – أو هكذا المفترض أن يكون العالم – لا أن يكون مع الآخرين، إمّعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء. في تاريخنا الإسلامي الممتد منذ عهد الصحابة، مروراً بالعهود المختلفة للدولة، وصولاً لواقعنا المُعاش، ظهرت نوعيات من العلماء صاروا منارات وقدوات تحكي الأجيال عنهم إلى يوم الناس هذا، السبب بكل اختصار ووضوح هو بقاؤهم على المنهج الذي جاء به النبي الكريم –
ﷺ – ودعوة صحابته ومن يأتي من بعدهم البقاء عليه. دخل أولئك العلماء الربانيون – إن جاز لنا التعبير في وصفهم – أزمات ومحناً شديدة مع الطبقة السياسية التي كانت تحكم في أزمنتهم، فخرجوا منها منتصرين نهاية الأمر، فأغلق التاريخ أبوابه على أولئك المستبدين من الحكام، لا يراهم الناس إلا ظلمة فجرة، فيما فتح أبوابه على مصاريعها لأولئك العلماء، يتأمل الناس أفعالهم وتحركاتهم التي لم تخالف أقوالهم. لقد لعب العلماء على مدار تاريخنا الطويل، دوراً في الانتصارات أو الانكسارات، فكلما كان علماء أي عهد أقرب إلى المنهج النبوي، كانت الأمة معززة منصورة، والعكس صحيح لا ريب فيه، وحين يدور حديثنا عن العلماء ودورهم المؤثر في أي انتكاسة أو انتفاضة، فلابد أن يرد اسم سلطان العلماء،
العز بن عبدالسلام ، الذي كان من أولئك العلماء الذين اقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا مؤلفاتهم وتصنيفاتهم، على رغم جهده وغزارة علمه في جانب التأليف، لكن ذلك لم يكن ليشغله عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام عند الخطأ، والجهاد ضد أعداء الأمة يومها من الصليبيين ومن ثم المغول. لا ننسى كذلك في سياق الحديث عن العلماء الربانيين، الإمام أحمد بن حنبل وثباته في أزمة خلق القرآن، التي ابتدعها المأمون، وثبات تلامذته ابن تيمية و
ابن قيم الجوزية ، فقد ضرب أولئك الأفذاذ مثلاً في الثبات على الحق والدفاع عنه والدعوة إليه، رغم كل الإغراءات الدنيوية التي كانت تُقدم لهم، حتى هابتهم الدنيا بمن فيها.
حين تغري الدنيا العلماء
اليوم تمر الأمة بظروف وأحوال لا تختلف كثيراً عن زمن العز بن عبدالسلام، الأمة اليوم كما كانت في تلك الفترة، مبعثرة بين الشرق والغرب، ومتناحرة سياسياً، حتى وصل التناحر إلى ميدان العلماء، لترى اليوم من اصطلح على تسميتهم بعلماء السلاطين، يظهرون من جديد وبازدياد ملحوظ، وصاروا جيوشاً تدور في أفلاك الزعماء والحكام، يبيعون دينهم بدنياهم ودنيا غيرهم. قدرات هذه الفئة من “العلماء” في ضبط ورسم الفتاوى المرغوبة من الزعيم أو الحاكم، عجيبة دقيقة. فلكل فتوى ثمنها. مالاً كان أم وجاهة، أم منزلة، أم غير ذلك من أثمان!، ولهذا استغرب الشيخ محمد الغزالي من تلك النوعية من العلماء المشتغلين بالعلم الديني الذين كما قال عنهم: “قاربوا مرحلة الشيخوخة وألفوا كتباً في الفروع، وأثاروا معارك طاحنة في هذه الميادين.. ومع ذلك، فإن أحداً منهم لم يخط حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية أو الشيوعية.. إنّ وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشدُ تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم.. بأي فكر يحيا أولئك”. ليت مشكلة علماء السلاطين في أنفسهم، لهان الأمر، لكن المشكلة وبسبب سياسة المنافع المتبادلة بينهم وبين السلطات الحاكمة، بعد فساد قلوب الطرفين، صار أولئك “العلماء” في ارتقاء وتقريب مستمر نحو تلك السلطات وأصحاب القرار حتى أمسى نفوذهم في ازدياد كما ثرواتهم أو دنياهم، وصلاحياتهم تتسع كذلك، وميادين الإعلام تهش وتبش لهم، حتى صار تأثيرهم على الشعوب كبيرا، على اعتبار أن السواد الأعظم من الشعوب، جاهل بكثير من أمور دينه وكذلك دنياه، فتحول بالتالي أولئك العلماء إلى ما يشبه بوصلة يتم السير على هداهم ورؤاهم!. ومن هنا تجد أعدادهم في ازدياد ملحوظ، فيما العلماء الربانيون مغيبون عن العامة، ومحظورون عن ميادين التواصل مع الناس، وحملات تشويههم مستمرة.
خلاصة الحديث
واقع علمائنا اليوم لا يجب أن يغرقنا في بحار اليأس، فمثلما انتشر وظهر علماء السلاطين على مدار تاريخنا إلى يوم الناس هذا، فلا شيء يمنع ظهور عشرات العز بن عبدالسلام، ومئات الحسن البصري وآلاف
ابن تيمية وابن قيم الجوزية وآخرين كُثر، كانوا يصدعون بالحق لا يخافون في الله لومة لائم. إن صلاح هذه الأمة ونهضتها مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وهذا أمر مثبت بالتجارب.. إن سقوط البعض منهم، بغض النظر عن أعدادهم، ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل لآخرين، فإن أمة ظهر فيها مثل العز بن عبد السلام، وكان عاملاً مؤثراً في نجاتها من خطر وجودي تمثل في وباء المغول، قادرة على أن تنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها، وإن سوء حال الأمة اليوم لا يجب أن يمنعنا من
التفاؤل بغد أفضل وأجمل، لأن الله دوماً بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.