خاض علم المقاصد معركة ضارية حتى يثبت كونه علما مستقلا عن علم الأصول، وإن اشتركا في بعض المباحث والمفاهيم والوظائف، لكنهما علمان مستقلان، ينتميان إلى حقل واحد، مع التمييز والاستقلال بينهما، والذي مر عبر مراحل علمية وتاريخية كبرى.

وليس أدل على المغايرة بين العلمين اشتمال علم الأصول على كثير من المباحث الظنية، أو يكاد يكون مبنيا على الظن في كثير من مباحثه حتى داخل الأصل الواحد الذي يكون متفقا عليه، وهذا بدءا من أعلى السقف في الأصول، وهو القرآن الكريم الذي لا خلاف في حجيته من حيث كونه كلام الله تعالى المنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، المبدوء بالفاتحة، المختوم بسورة الناس، وهو أصل الأصول، فإليه ترجع جميع الأصول الأخرى، لكن إذا نظرنا إلى مباحث القرآن الداخلية، وجدنا اختلافا بين الفقهاء فيها. ومن أمثلة ذلك: جواز التعبد بالقرآن بغير لغة العرب؟ وهل البسملة في الفاتحة آية أم جيء بها للاستفتاح؟ وهل القراءة الشاذة حجة أم لا؟ وكذلك بعض التفاصيل فيما يتعلق بالأحرف والقراءات وغيرها.

ثم السنة التي هي المرتبة الثانية بعد القرآن، والتي تعد مع القرآن أصلا مكملا، فمباحث الاختلاف فيها كثيرة، ومن أهمها: شروط العمل بالحديث عند الأئمة الأربعة خاصة؟ وهل إذا كان الحديث صحيحا؛ صح العمل به، أم هناك احترازات أخرى؟ وما حجية حديث الآحاد في الاعتقاد؟ وما حجية الحديث المرسل؟ وما حجية الحديث الضعيف؟ وهل يجوز رواية الحديث بالمعنى أم لا؟ والاختلاف بين العلماء في قواعد التصحيح والتضعيف، بل لو نظرنا إلى التصحيح والتضعيف في مئات بل ألوف الأحاديث لوجدنا اختلاف المحدثين فيها  بين مصحح ومحسن ومضعف، ناهيك عن بقية الأدلة الأخرى، كالإجماع والقياس وهي مع القرآن والسنة الأدلة المتفق عليها عند جمهور الفقهاء، والأمر أشد اختلافا في الأدلة المسماة (المختلفة فيها)، فهي مختلف في حجيتها – كما يزعم- من حيث الأصل.

أما المقاصد، فتمتاز بالقطعية في غالبها، كما يقول الإمام ابن العربي المالكي: ” ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه”.  أحكام القرآن لابن العربي-4/123

بل أوصل الشاطبي وغيره الاتفاق على المقاصد الكبرى إلى أنها محل اتفاق بين جميع الملل والعقول، فقال:” اتفقت الأمة بل سائر الملل،على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: وهي الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد.. “. الموافقات-1/38

بل يجعل الشاطبي ( الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد، فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حفظ المكلف ومصالحه؛ لأن الله غني عن الحظوظ، منزه عن الأغراض) الموافقات للشاطبي-1/148

وهو المعنى الذي سبقه إليه العز بن عبد السلام حيث قال: ” فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو أحدهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما؛ فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال”. قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام-1/17

وقد استقرت المقاصد، واستوت على عودها علما قائما بذاته، له مؤلفات ومتخصصون وأقسام خاصة به، إلا أن المرحلة التي نعيش فيها تشهد حيفا وجورا في حق علم المقاصد يراد به الانتصار لها دون ترو، وذلك من طرفين متناقضين:

الطرف الأول: طرف خارج دائرة التخصص من غير العلماء، من بعض المفكرين الذين ينتمون إلى الفكر العلماني أو غيره، فيرون أن الدين إنما هو المصلحة المطلقة، وأن الإنسان هو من يحدد مصالحه، ولا عبرة بالنصوص الجزئية من الكتاب والسنة في أي مسألة، مستندين إلى قول الإمام الطوفي:” إنما وجدت المصلحة فثم شرع الله”، مع عدم تفسير القاعدة والمقصود منها تحديدا، ومن الذي يحدد المصلحة، وما ضوابط إعمالها.

الطرف الثاني: من بعض ممن تخصص في علم المقاصد من المعاصرين الذين يرون المقاصد حاكمة على الدين، حاكمة على الكتاب والسنة! وهو ما يدعو إلى دخول مرحلة جديدة في علم المقاصد ننادي بها، وهو مرحلة ( ضبط المقاصد)، أو ( تقعيد المقاصد)، فخريطة المقاصد بحاجة إلى تجديد؛ من جهة رد المقاصد إلى أصلها، ومعرفة موقعها من خريطة علوم الدين والشريعة، وبيان وظائفها وحدودها، وألا تتناول بين إفراط أو تفريط، بل يجب ردها إلى أصولها المعتبرة؛ إذ كل دعوة إلى تضخيم الأمر فوق طاقته وحده، إنما هو هدم له لا يخدمه، ففي الوقت الذي يحذر فيه فريق من المقاصد ويرون أنها تمييع للدين، ومحاولة للخروج على النصوص، يجيء فريق آخر يساعده – وهو في الأصل يناقضه من موقفه من المقاصد- بقوله: إن المقاصد حاكمة على الدين، حاكمة على الكتاب والسنة، والحق أن المقاصد خادمة للكتاب والسنة، مفسرة لهما، فهي من أدوات فهم النص من جهة، ومن جهة أخرى، يتوصل إليها من فهم النص أيضا.

وإن كان جل المقاصد قطعية أو قريبة من القطع، إلا أن المدقق في اجتهاد العلماء في المقاصد ليجد أن من المقاصد ما هو ظني، بل ما هو موهوم أحيانا.

وما كان القصد في شيء إلا زانه وحفظه، وما خرج القصد من شيء إلا شانه وأفسده.