• في رمضان.. الروح أقدر على العيش مع القرآن وتدبره
• ليكن هدفنا التفاعل الجاد مع القرآن وصولاً إلى الاهتداء والعمل به
• تراثنا عرف “التفسير الموضوعي”.. من خلال “علم المناسبات”
• تحديد وحدة موضوعية للسورة يفيد في الترجيح بين الآراء
رمضان هو شهر القرآن الكريم.. فيه بدأ نزوله، وفي أيامه ولياليه تستحب تلاوته ومدارسته.. ومن المهم أن تتجاوز علاقتنا بالقرآن، خاصة في هذا الشهر الفضيل، التلاوةَ باللسان إلى التدبر والفهم، وصولاً إلى العمل والتطبيق.. و”التفسير الموضوعي” هو أحد أهم الأدوات المعينة على تدبر القرآن الكريم، واستكشاف معانيه المبثوثة في مواضع شتى.. وهو فرعٌ عن علم التفسير بدأ الاهتمام به مؤخرًا، وإن كانت له جذور في تراثنا..
حول “التفسير الموضوعي” وتاريخه وأهميته، جاء هذا الحوار مع الباحث المصري عماد محمد المختار المهدي، إمام وخطيب المركز الإسلامي بمدينة بيليفيلد- ألمانيا، والحاصل على ماجستير الدراسات الإسلامية باللغة الألمانية من جامعة الأزهر، بعنوان: (مصطلح الكفر في القرآن الكريم، معانيه وإطلاقاته).. وهو له اهتمام أكاديمي بالتفسير الموضوعي، وقام بترجمة كتابين للدكتور زغلول النجار إلى الألمانية، هما: (قضية الخلق)، و(الرد على كتاب أبي آدم). كما ترجم كتبًا من الألمانية إلى العربية وبالعكس، مثل: (محمد نبي بعد عيسى)، و(الرؤية الإسلامية لمواجهة مرض الإيدز).. فإلى الحوار:
“رمضان” و”القرآن”.. تجمعهما علاقة وطيدة.. كيف ترون هذه العلاقة؟
العلاقة بين القرآن ورمضان علاقة لا تخطئها العين، ليس فقط في أن بدء نزول القرآن على محمد ﷺ كان في رمضان، لكنها تتمثل في أشياء أخرى كثيرة منها: أن الله خلق الإنسان من جسد وروح، وإذا كان الجسد قد خُلق من التراب ويتغذى مما يخرج من التراب مباشرة كالنبات أو غير مباشرة كالأنعام التي تأكل النبات، وعندما يحدث الموت- بصفته افتراق الجسد عن الروح، وليس فناءً مطلقًا- يعود الجسد إلى التراب الذي جاء منه.. فإن الروح التي جاءت من عند ربها تتغذى من الغذاء الذي يأتي من عند ربها وهو القرآن والذكر، وعند موتها تعود إلى خالقها.
ويأتي رمضان ليقلل من غذاء الجسد وشهواته، التي طغت على الروح طوال العام؛ ليتيح للروح أن تتغذى من القرآن، فتصبح الروح أقدر على العيش مع القرآن وتدبره كما قال ربنا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
جدلية “القراءة والتدبر” في العلاقة مع القرآن.. كيف نتوازن فيها، بحيث لا تقف علاقتنا بالقرآن عند حدود اللسان؟
الحقيقة أن المسلمين في رمضان، بل في غير رمضان، يعانون في فهمهم للقرآن وكونه هدى من رب العالمين، ويقتصرون على تفاعلهم مع هذا الكتاب العزيز على مجرد القراءة، ويصبح الهم لدى كثير من المسلمين هو ختم القرآن، قراءة في رمضان مرة أو أكثر.
وليت كثيرًا ممن يفعلون هذا يحرصون على إتقان التلاوة الصحيحة، بل تجد الكثيرين وخاصة من العرب لا همَّ لهم إلا إنهاء القراءة، حتى ولو كان ينصب الفاعل ويرفع المفعول.. في حين أنك تجد جزءًا غير قليل من غير العرب مثلًا يبذلون جهودًا جبارة في تعلم قراءة القرآن الصحيحة؛ فيفوقون العرب حتى في مجال القراءة فقط، وذلك في أوقات قياسية.
ثم يأتي مجال التدبر الذي يكون فيه الجانب الأكبر من التقصير؛ فيظن الكثيرون أن التدبر معناه أن تسأل عما هو غير موجود في القرآن، فتواجه بأسئلة وألغاز في القرآن لم يذكرها ربنا عز وجل.. ولو كان في ذكرها فائدة لذكرها ربنا، لكنك تجد حرصًا ليس بالقليل من قطاع عريض من المسلمين على البحث عما غمض أو ما اختلف في تفسيره أو تأويله، ويظنون بهذا الانشغال أنهم يتدبرون القرآن. وهنا دائمًا أذكر قوله تعالى في سورة الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}.
ولا أرى حرجًا كبيرًا في أن ينشغل المتخصص أو غير المتخصص ببعض الآراء التي ذكرت في تفسير أو تأويل معنى من القرآن، لكني أرى أنه من الخطر أن ينشغل المسلم العادي بمثل هذا انشغالًا كبيرًا، أو أن يقصر اهتمامه بتدبر القرآن على ما غمض أو ما لم يُذكر في كتاب الله، من أمثلة: من الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؟ ومن هو الملك الذي حاج إبراهيم في ربه؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي لا نرى حرجًا في الاطلاع على الآراء فيها في كتب التفسير، دون أن تشغلنا عن الهدف الأساسي؛ وهو التفاعل الجاد مع القرآن الكريم لنهتدي به، لنصل إلى الهدف الرئيسي، وهو العمل به مقتدين بنبينا الذي كان قرآنًا يمشي على الأرض.
لكم اهتمام بـ”التفسير الموضوعي”.. ما المراد بهذا النوع من التفاسير؟
للتفسير الموضوعي معنيان: أحدهما تتبع الموضوع الواحد في طول القرآن وعرضه، والخروج من خلال هذا التتبع بتعريف دقيق وتحديد لهذا الموضوع من خلال سياقاته المختلفة.
والثاني: البحث في موضوع السورة القرآنية؛ أي الموضوع العام الذي ينتظم السورة من أولها لآخرها. وقد نسميه “الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية”.
هل عرف تراثنا “التفسير الموضوعي”؟
هذه الطريقة ليست مبحثًا جديدًا في تفسير كتاب الله عز وجل- كما قد يُـتصوّر- بل هو بناء وضع قواعده الأقدمون، وما زال يتتابع عليه المهتمون به حتى رفعوا قواعده وشيدوه.
وقد يعبر عن هذا العلم في كثير من كتب علوم القرآن بـ “علم المناسبات”؛ حتى إنه أصبح علمًا في حد ذاته له رجاله.. أو قد يطلق عليه النظم الفني، أو التناسب القرآني، أو تناسب الآيات والسور.
وأول من تكلم في هذا الموضوع- من حيث التناسب بين السور- هو الإمام محمد إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري (توفي 318هـ)، غير أنه لم يصنف فيه بل كان يتكلم فيه في دروسه.
ويشير كثير من علماء التفسير إلى أن أول من صنف في هذا العلم- من حيث التناسب بين السور- هو ابن الزبير الغرناطي المقرئ المحدث النحوي (توفي 708هـ) في كتابه (البرهان في تناسب سور القرآن)، حيث ذكر فيه مناسبة كل سورة لما قبلها، ثم جاء الإمام البقاعي (توفي 885هـ) وصنف في هذا العلم- من حيث التناسب بين السور والآيات- كتابيه (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور)، وتفسيره المسمى (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)، ومختصره الذي اختصره بنفسه وسماه: (دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم).. وإن كان البقاعي أول من صنف تفسيرًا كاملاً بهذا المنهج فأكمله بل واختصره أيضًا، ثم كتب السيوطي (توفي 911هـ): (تناسق الدرر في تناسب السور)، لخصه من كتابه (أسرار التنـزيل المسمى قطف الأزهار في كشف الأسرار)؛ وحرص فيه على استكناه نكات التناسب بين السور بعضها ببعض، والآيات بعضها ببعض، بل الآية الواحدة أحيانًا ووجه الربط بين أجزائها، كما يبين وجه الفرق بين استعمال لفظ معين في موضع.
ما أهم الكتابات المعاصرة في “التفسير الموضوعي”؟
كتب الدكتور محمود محمد حجازي كتابه (الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم) بعد أن فرغ من تفسيره الذي سماه (التفسير الواضح)، ولم يقتصر في هذا الكتاب على دراسة الوحدة الموضوعية للسورة في القرآن، بل تعداه إلى التفسير الموضوعي الذي يُـعنى بدراسة الموضوع الواحد في طول القرآن وعرضه، وغلب على أسلوبه الأسلوب الأدبي البلاغي، وأخذ سورة المائدة نموذجًا ولم يضع قواعد تتبع في غيرها، وأشار إلى أهمية الربط بين الموضوع العام للسورة وبين مكملات الموضوع في السور الأخرى؛ ليتحقق الربط بين سور القرآن وليكتمل الموضوع الواحد مع اكتمال موضوع السورة الواحدة فيتعاضدان.
ومما كُتب في هذا الموضوع من الدراسات التطبيقية، تفسير (في ظلال القرآن)؛ الذي تحدث فيه سيد قطب عن (شخصية السورة)، وقدم لكل سورة من سور القرآن عن موضوعها العام الذي تتناوله، وإن غلب عليه الأسلوب الأدبي ولم يَخلُ من بعض المبالغات.
ومن أهم الدراسات التطبيقية في هذا الموضوع كتاب (الأساس في التفسير) للشيخ سعيد حوى، الذي وضع نظرية للوحدة الموضوعية “وتتبعها من خلال التفسير والتي تقوم على اعتبار أن سورة الفاتحة جامعة لمقاصد القرآن، وقد فصلت سورة البقرة ما أُجمل في سورة الفاتحة، ثم جاءت سور القرآن بعد سورة البقرة لتفصل في معان واردة في بعض آيات سورة البقرة”، وأن هذه النظرية لم يسبق أحد من العلماء أن تكلم عنها، وقد جاء هذا في دراسة ماجستير لأحمد محمد الشرقاوي، تحت عنوان: (نظرية الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم من خلال كتاب الأساس في التفسير) بكلية أصول الدين بالمنصورة، كما ذكر فيها أن هذه الطريقة في التفسير لا تخلو من التكلف.
وهناك (الموسوعة القرآنية.. خصائص السور) لجعفر شرف الدين وتقديم د.عبد العزيز بن عثمان التويجري، و(مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور) للمؤلف: عادل بن محمد أبو العلاء، ومؤلفات كثيرة أخرى تحاول استخراج مواضيع السور القرآنية.
وللشيخ محمد الغزالي كتاب ضخم: (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم).. وقد كان رحمه الله أحد المهتمين بهذا الفن، وكان يرى أن المستقبل لهذا النوع من الدراسات.
إذا كان “التفسير الموضوعي” يقصد به: تتبع الموضوع الواحد في القرآن.. وإبراز وحدة موضوعية للسورة الواحدة.. والأمر الأول سهل وميسور، فكيف نستعين على الأمر الثاني؟
دراسة الوحدة الموضوعية للسورة يسهم فيه ما يلي:
– وقت نزول السورة: وهل هي مكية أم مدنية، وإذا توفرت معلومات أكثر عن ظروف الوقت الذي أنزلت فيه إذا لم يكن اسم السورة يدل على ذلك.
– ثم اسم السورة: إن كان واضحًا لا خلاف فيه، بحيث إن سورًا مثل (يس، ق، ص) لا تسهم في دراسة الموضوع، لأنها لم يُتفق على معناها.
– ثم اللفظ والمعنى الأكثر تكرارًا في السورة.
– والقصة التي لم ترد في سورة أخرى، أو الجانب من القصة الذي لم يرد إلا في هذه السورة.
– والأسلوب اللغوي الغالب على السورة.
– وأسباب النزول الصحيحة.
ما أهمية “التفسير الموضوعي” في تدبر القرآن الكريم ومعرفة مقاصده الكلية ومعانيه الأساسية؟
تكمن أهمية هذه الدراسة في الاستفادة من منهج المحاور الخاصة لكل سورة في إيضاح المعاني التي تتناولها كل سورة، ومحاولة وضع منهج يتبع في تدبر القرآن.. كما تكمن أهميتها في رد الشبهات التي أثارها بعض المستشرقين مدعين عدم اتساق الفقرات في سور القرآن، أو عدم مقدرتهم على إيجاد العلاقة بين فقرات السورة المختلفة.
ولهذه الدراسة أهمية في إثبات إعجاز النص القرآني في نَظْمه واتساقه كمال الاتساق، على الرغم من نزوله على مدى ثلاث وعشرين سنة على النبي ﷺ.. ليس فيه آية تصلح مكان آية، أو يصلح أن توضع موضعها؛ بحيث إذا قرأت القرآن فلن تميز الآيات المكية داخل السورة المدنية ولا المدنية داخل السورة المكية إلا بعد بحث، وحتى بعد البحث لا تجد تنافرًا بين آية وسياقها أو بينها وبين السورة التي هي فيها، ولا بينها وبين موضوعها، الذي ينتظم فقرات السورة المختلفة.
كما أننا نتعلم من القرآن سبل المعالجة للقضايا من أكثر من جانب؛ حيث تطرح السورة قضية ما وتضرب أمثلة إيجابية تتخذ قدوة مثلًا في هذه القضية، ثم تطرح نماذج من الذين فشلوا في التعامل مع القضية، وتعلق على القصة بما ينبه إلى المغزى والعبرة.
هل تحديد وحدة موضوعية للسورة، يفيد في الترجيح بين الآراء الواردة في المعاني التفصيلية لآياتها؟
نعم، والمثال على ذلك: في سورة الأعراف وقع خلاف بين آراء المفسرين حول “أصحاب الأعراف” من هم، وتعددت الآراء دون مرجح لرأي على آخر مع ضعف روايات الأحاديث التي وردت في الموضوع.. وكذلك في مصير “الفئة الثالثة” من “أصحاب السبت” الذين قالوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}.
وعندما نتأمل في سورة الأعراف نجد المواضيع والخطوط التالية تنتظمها: الاستكبار والتكذيب بالرسل، مقابل إيجابية الأنبياء والمرسلين والمصلحين في الدعوة إلى الله؛ فالأولون هم أصحاب النار بتكذيبهم للآيات البينات واستكبارهم، والآخرون هم “من اتقى وأصلح” هم أصحاب الجنة. وعندما نتأمل الحوار بينهما ثم حوار أصحاب الأعراف ومعرفتهم للفريقين مما يشعر بأنهم كانوا معاصرين ومدركين للصراع بين الحق والباطل، فمن الممكن أن نقول إن هؤلاء هم السلبيون ممن آمنوا لكنهم لم يريدوا التبليغ والإنذار.. وهي نفسها الفئة التي سكت عنها القرآن في قصة أصحاب السبت: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فلم يذكرهم هنا.. فهم سكتوا فسكت الله عنهم، أو أنهم هم المؤمنون المستكبرون، حيث قال النبي “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، فمنعهم الكبر من دخول الجنة ومنعتهم الشهادة من دخول النار، وخاصة أن السورة هنا تحدثت عن فتنة الملبس والإسراف فيها، وفي الحديث ظن الرجل الذي سأل النبي ﷺ أنّ من الكبر أن يكون ثوبه حسنًا وشعره حسنًا، فنفى النبي ﷺ ذلك وقال: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”. فهناك من هو مسلم لكنه قد يتكبر على بعض أمور الدين ويحتقر الناصحين.. أو قد يكونون هم من لم تبلغهم الدعوة بلاغًا كاملاً يحملهم على الإيمان بها؛ لأن السورة أكدت على البلاغ الذي قام به الأنبياء تجاه قومهم، وكان بلاغًا واضحًا أقام الحجة عليهم.
هل “التفسير الموضوعي” له أدوات أو شروط خاصة، بجانب ما يتعلق بعلم التفسير عمومًا؟
من الأدوات المهمة بجانب ما ذكرته آنفًا، البحث عن أصول معاني الألفاظ والمصطلحات القرآنية: من أين اشتقت، وكيف، وما العلاقة بين المعنى المادي الأصلي والمعنى المجازي المعنوي.
فالمساواة مثلاً بين الغي والضلال، معنى لم يرده القرآن.. ولو تأملنا المواضع التي ذكر فيها الغي وأصل اشتقاق هذا المعنى، لعرفنا دقة القرآن في التعبير عن المعاني؛ لأنه كتاب رب العالمين الخاتم.