ينشغل الناس بدنياهم طلبا للقوت والسلامة، ويغرقون في ذلك إلى آذانهم حتى لتشعر أن كل شخص يعيش في جزيرة منعزلة لا يشعر بغيره، قد يتعاطف معه لحظة أو أكثر ثم يعود إلى الدوامة التي خرج منها. لكن الأحداث الجارية تكشف عن رباط خفي وعاطفة قوية تبدو على السطح، تجتاح كل مشاغلنا بأنفسنا وهمومنا، لنكتشف أننا نرتبط بأهلنا مهما تباعدت الديار وبدا أن الصلات بيننا وبينهم قد تقطعت.. ومن هنا تقوي الشدائد ما ضعف من روابط الأخوة والمحبة والرحمة والواحدة التي تجمع الأمة.
إذا عدنا إلى العبادات في الإسلام وجدناها تقوي الصلات بين المسلمين وتؤكد على الوحدة بينهم؛ وحدة الشعور والهدف والمصير، ففي الصلوات نناجي ربنا أثناء الوقوف بين يديه سبحانه فنقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] إنني في مقام الذلة والافتقار أقول لربي : “أعبدك وأستعين بك” ومعلوم أن النون للجمع أو للتعظيم، فهل نعظم أنفسنا ونحن بين يدي ربنا ضعافا طالبين للعفو والعون منه سبحانه؟؟
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى النُّونِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ فَالدَّاعِي وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْظِيمِ فَلَا تُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ؟
وَقَدْ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْعِبَادِ وَالْمُصَلِّي فَرْدٌ مِنْهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إِمَامَهُمْ، فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا، وَتَوَسَّطَ لَهُمْ بِخَيْرٍ).
إن المصلي يستشعر أنه فرد في أمة وأن كل من يصلي لله رب العالمين ويستقبل القبلة أخ له، وكما استشعر الأخوة بينه وبين المصلين في مشارق الأرض ومغاربها في بداية الصلاة وكرر ذلك في كل ركعة، يبقى معه هذا الاستشعار في ختام الصلاة فيقول في التشهد:” السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين” إنه يسلم على كل عبد صالح أيا كان مكانه وموقعه على ظهر الأرض أداء لحقوق الأخوة وتأكيدا على هذه الرابطة.
وتأتي أقوال النبي ﷺ لتؤكد هذا المعنى، ومنها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” فكما أن الجسد السليم تقوم فيه الأعصاب بعملها من تحقيق التواصل بين أعضائه، فكذلك المسلمون جسد واحد تنتقل من خلال صلاتهم التي تقويها العبادات المشاعر، فإذا أصاب بعضهم الحزن أو الفرح شعروا جميعا بمثل ما يشعر به وتسارعوا إلى مشاركته وتثبيته ودفع ما يكره.
فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن المسلمين جسد واحد ولم يتوقفوا عند الفهم بل كان العمل المثمر، يأتي قوم إلى النبي ﷺ تبدوا عليهم آثار الفقر الشديد ، يتأثر النبي ﷺ ويبدو على وجهه آثار الغضب والحزن، فقد كان ﷺ بالمؤمنين رؤوفا رحيما، تأثر تأثرا شديدا بما ظهر على ضيوف المدينة من فقر شديد ظهر على ثيابهم وأبدانهم، ثم ظهر السرور على وجهه الشريف عندما رأى تتابع المسلمين في تقديم المساعدات لهؤلاء المنكوبين.
ولندع جرير رضي الله عنه ينقل لنا وقائع هذه الحادثة التي تعبر بصدق عن ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنين حين يصيب بعضهم البأساء والضراء.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن جرير قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ[ثيابهم مقطوعة]، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ [تغير] وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ} [الحشر: 18] «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ – حَتَّى قَالَ – وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ [قطعة ذهب مطلية بالفضة]
وإننا لنرى من خلال هذا الحديث الشريف عدة مشاهد:
الأول: لجوء المحتاجين إلى من يظنون فيهم الخير؛ ثقة برابطة الإيمان التي تعلو على كل الروابط.
والثاني: الاستجابة لتذكير النبي ﷺ بأخوة أهل المدينة وطالبي المساعدة.
الثالث: اعتبار ما يقدم من دعم للمحتاجين مما يعد للغد دفعا للبلاء عن أنفسنا ومن نحب واستجلابا لرحمات الله تعالى.
بمثل هذه المشاعر التي تجيش في القلب وتجد لها رصيدا على أرض الواقع تقوى الأمم ويعجز عدوها عن النيل منها.
ولعل من حكمة الله تعالى أن تبدوا المنحة في ظلال المحنة، فتظهر الروابط القوية بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في الأزمات، عندما يتألم جزء من البدن الإسلامي أو يحقق نجاحا وهذه الروابط القوية تحتاج دائما إلى ما يغذيها ويؤكدها ،من مثل:
1- متابعة الأخبار من مصادر موثوقة لا تهون من الانتصارات والنجاحات ولا تهول فيما يصيبهم من ألم وبأس.
2- نقل تجاوبنا معهم ؛من خلال وسائل الاتصال، والحملات التي تطلقها جمعيات النفع العام والمثقفين والمؤثرين في مجتمعاتهم.
3- شرح معاناتهم للعالم، مستندين دوما للحقيقة والبعد عن التهويل الذي يفقدنا المصداقية.
4- مخاطبة أحرار العالم الذين تخلوا عن التعصب والصورة الذهنية السلبية،أولئك المنصفين الباحثين عن الحقيقة وهؤلاء سيكونون خط دفاع مهم عن أصحاب القضايا العادلة، وسيشكلون دعما كبيرا من خلال معرفتهم بمجتمعاتهم واللغة التي يفهمونها، ومن ثم نكون قد أضفنا مناصرين جدد .
هناك دوما من يقف في الصف الأول وهذه الوقفة تكلفه كثيرا لكن أجرها كذلك كبير، لا أقول لن ينساه التاريخ فكم نسى التاريخ من أبطال
حسبهم أن الله تعالى يعلم ما في قلوبهم من صدق ويقين وما قدموا من خير وبر وكيف كانت الدنيا هينة عليهم
إننا حينما نقف مع إخواننا في ساحات العز والكرامة، فإننا نضيف لأنفسنا موقفا مشرفا وفي ذات الوقت ندافع عن أنفسنا، فإذا تم اختراق الصفوف الأولى لا قدر الله فإن الخطر سيأتينا يوما ما.