من الشائع أن نقول عن أنفسنا باعتزاز: إننا أمة اقرأ؛ أي الأمة التي يبتدئ كتابها السماوي بالأمر بالقراءة، فأول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).
وهذه البداية للقرآن الكريم تعني بوضوحٍ وتأكيدٍ أنه كتاب يحضّ على العلم، ويحترم العقل، ويفتح للإنسان آفاقًا من الوعي والفهم بلا حدود، ويحرِّضه على ممارسة التفكير بلا قيود، وهذه لفتة عجيبة في رسالة الإسلام يجب أن نتوقف عندها بالتأمل والاعتبار، وهي أيضًا لفتة كفيلة برد الأقاويل الزائفة عن أن الإسلام يخاصم العقل، ويصادر الفكر، ثم جاءت من بعد ذلك ممارسات المسلمين واحتفاؤهم بالقراءة وبكل ما يتصل بها، لتؤكد هذا المعنى الثابت في البناء الإسلامي فكرًا وفي الحضارة الإسلامية سلوكًا.
إذن، من الشائع ومن السائغ أن نقول “إننا أمة اقرأ”، وإن كان الواقع يَبعد عن ذلك كثيرًا!! لكن من المهم أيضًا أن نلتفت لمعنى آخر مكمِّل لهذا المعنى، وهو أننا “أمة الكتاب”.. ويكفى (الكتابَ) شرفًا أن جعله الله تعالى اسمًا من أسماء كتابه العزيز، الذي يحمل رسالته الخاتمة للبشرية.. وذلك في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى في مفتتح كتابه: {الم ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2).
والكتاب ليس مجرد وسيلة لنقل العلوم والمعارف عبر الأزمان والأجيال المختلفة، وليس يهدف لتوثيق الأحداث والمعلومات فحسب؛ وإنما هو شيء أكبر من ذلك وأعمق.. ولهذا تظل (الكتابة) عملية مهمة لتوليد الأفكار ولترسيخها؛ بحيث ثمة فرقٌ كبير بين الثقافة التي تتكون عبر السماع (الثقافة الشفهية)، وبين التي تتكون من خلال الكتاب (الثقافة الكتابية).. بل يدلنا تطور الحياة البشرية على أن الأولى كانت مرحلة بدائية أولية، ثم جاءت الكتابة وما تلاها من (صناعة الكتاب) لتكون المرحلة الأكثر تطورًا وتركيبًا.
وثمة أمر لافت هنا، وهو أنه حتى العرب الذين عُرفوا بقوة الذاكرة، وبسرعة التلقي والاستيعاب، بدرجة قلَّ نظيرها عند أمم أخرى، حتى إن الشاعر منهم كان يرتجل القصيدة الطويلة في التو واللحظة ويقولها مرة واحدة، ثم تروى عنه كما قيلت، عبر أجيال متعددة، دون الحاجة لتدوينها.. حتى هؤلاء العرب، حينما تنزل عليهم الإسلام اتخذ النبي ﷺ لنفسه كُتابًا يكتبون عنه الوحي، ثم عُنِيَ الصحابةُ ومن تبعهم بتدوين السنة النبوية وتوثيقها، ولم يكتفوا بحافظتهم القوية.. فهذا تأكيد لدور الكتاب في مراكمة المعرفة وإثرائها.
وإذا انتقلنا للعصر الحديث، وما شهده من انفجار في وسائل نقل المعرفة؛ التي تجاوزت الطرق التقليدية، إلى الفضائيات و(الكتاب الإلكتروني) وإلى شبكة الإنترنت وما بها من مواقع ومنتديات وصفحات تواصل.. سنجد أن (الكتاب)- و(الكتاب الورقي) تحديدًا- ما زال متربعًا على عرش وسائل نقل المعرفة، وإن زاحمته وسائل أخرى تكون أكثر جاذبية ولفتًا للانتباه.
و”الأجيال الجديدة لازالت تفضِّل الكتب المطبوعة عن الكتب الإلكترونية. فرغم أن الإقبال على قراءة الكتب الرقمية على الهواتف الذكية يتزايد، إلا أن الكتاب الورقي مازال يحتفظ بقوته وانتشار تأثيره، بحسب ما كشفته دراسة لمركز (بيو) الأمريكي للبحث؛ إذ أوضحت الدراسة أن 65% ممن شملهم الاستطلاع مازالوا يقرؤون الكتاب الورقي، وهو المعدل نفسه الذي كشفته دراسة مماثلة سنة 2012″ (من مقال “القراءة بغض النظر عن الوسيط، ضمن ملف مجلة “الدوحة”، عدد أبريل 2018).
ومع هذه الأرقام ذات الدلالة، يهمنا أن نشير لأمر آخر لا يقل في الأهمية، وهو الاختلاف بين القارئ الإلكتروني- أو (القارئ المتَّصِل)- فيما مقابل (القارئ الورقي)؛ فـ “القارئ المسلَّح بتابلت أو بهاتف ذكي، يميل إلى الاختصار، وبشكل عام يفضّل (التلصّص) على أفكار الآخرين وآرائهم.. وشبكة الإنترنت لا تشجعنا أبدًا على التوقف، وتبقينا في حالة تيقظ مستمر. والدماغ بعد أن يتكيف على هذا الاستغراق المتكرر، يحوِّل (القارئ المتصل) إلى مفكر سطحي، غير قادر على التركيزِ لقراءة نص طويل، والربطِ المنطقي بين المعلومات التي يتلقاها على مدى ساعات طويلة؛ وهي في الأغلب عشوائية ولا تقتصر على فرع معرفي معين. وهذا يذكرنا بقول الفيلسوف والخطيب الروماني (سينيكا): (الوجود في كل مكان- كما هو الحال مع الإنترنت- يعادل عدم الوجود في أي مكان). فقط عندما يتم التركيز على جزء واحد من المعلومات، يمكن ربطه بذلك الذي سبق تثبيته في الذاكرة” (من مقال “من غوتنبرغ إلى زوكربرغ”، ضمن ملف “الدوحة” السابق).
زيادة على أن (القارئ المتصل) مهدَّد بما أصبح يعرف في الغرب بـ(العبودية الرقمية)، ويجد صعوبة جمة في تخزين الكم الهائل من المعلومات التي تهدَّد بالتلف على الدوام، مقارنةً بالقارئ التقليدي (من مقال “مسارات القارئ المتصل مجهولة مستقبلا”، ضمن الملف نفسه).
ولسنا هنا في مقام التفضيل بين الكتاب الورقي ونظيره الإلكتروني، أو القارئ التقليدي ونظيره المتصل، بقدر ما نريد تأكيد أهمية القراءة وضرورتها، أيًّا كانت الوسيلة.. المهم أن نقرأ.. ولذا، فالكتاب الإلكتروني لا يفقد صفة (الكتاب)، وإن كان الكتاب الورقي يتيح لصاحبه قدرًا أكبر من التأمل والتعمق، وينشط ذاكرته بصورة أفضل، كما يرى كثيرون.
وحسنًا ما قررته منظمة اليونسكو، في عام 1995م، من أن يكون يوم 23 أبريل من كل عام هو اليوم العالمي للكتاب.. بجانب الأيام العالمية الأخرى المتهمة بحقوق الإنسان والشباب والمرأة والطفولة وغير ذلك.. فليس الكتاب بأقل أهمية.. ولعل هذا اليوم السنوي يكون فرصة لتجديد التأكيد على أهمية الكتاب وما يتصل به.
ولا يخفى علينا أن حالة (صناعة الكتاب) في عالمنا العربي هي جزء من حالته الحضارية العامة التي لا تسرّ صديقًا، والتي ليس من صالحها أن نقارنها بنظيرتها في العالم الغربي!
في عالمنا العربي تبدو (صناعة الكتاب)- وما تعنيه من معدلات القراءة- صناعةٌ مهملة كأنها أمر هامشي يمكن الاستغناء عنه، ولا أهمية له في عملية التنمية المرجوة؛ هذه التنمية التي لا يكف المسئولون تأكيد حرصهم على تحقيقها!.. فهل يمكن تحقيق التنمية بعيدًا عن الارتقاء بصناعة الكتاب؛ بما يجعل الكتاب جزءًا أساسيًّا من حياتنا، وبما يدفع حالتنا المعرفية لمزيد من النضج والوعي؟!
وللأسف، فإن البعض، نتيجة لانخفاض مستوى الوعي أو تشوهه، قد ينفقون أموالاً كثيرة فيما يخص (عالم الأشياء)، ويتفنَّنون في الملذات والرحلات وغير ذلك.. بينما يَضنّون فيما يتصل بـ(عالم الأفكار) ويقتِّرون في النفقة عليه، إن أنفقوا..!
وضعٌ هكذا مختل، سيكون من الصعوبة معه أن نرى انعتاقًا من الأفكار الميتة والمميتة- بتعبير مالك بن نبي– وسيكون الأمل في تحقيق (نهوض معرفي) كمقدمة لما يُرجَى من نهوض في المجالات الأخرى، أملاً زائفًا أو ضعيفًا..
الكتاب طريقٌ إلى الحضارة، وينبغي أن يكون ذا أولوية في حياتنا؛ إن كنا راغبين بجدٍّ في الخروج من أزماتنا الراهنة..!