يمر الإنسان بمراحل متعاقبة، ولا يصل إلى مرحلة النضج العقلي إلا بعد الكثير من التجارب، فيكون جنينًا ثم طفلاً ثم شابًا ثم شيخًا، وكل مرحلة لها سمات وخصائص، وتأخذ مما قبلها وتؤهل لما بعدها. وهكذا الأمر أيضًا في قُوى الإنسان الحسية والنفسية والعقلية. فالعقل ليس خارج هذه المراحل، وذلك التحول والانتقال، فله مرحلة ميلاد، ثم طفولة، ثم فتوة، ثم شيخوخة. 

غير أن هذه المراحل بالنسبة للعقل، ليست مرتبط بالضرورة بمراحل الإنسان العمرية. بمعنى أننا قد نرى شابًا في عمره، لكن عقله مازال في مرحلة الطفولة، وربما لم يولد بعد! أو نراه قد بلغ نضجه كأتم ما يكون. وهذا يرجع إلى أن نمو العقل لا يقترن بالضرورة بنمو الجسد، ويتأثر بظروف النشأة والبيئة، التي قد لا تساعد على النمو والنضج، بل قد لا تلتف أصلاً إلى حاجات العقل، بسبب انشغالها بحاجات الجسد! 

و”العقل” الذي نقصده هنا، ودون الدخول في تعريفات متخصصة، هو تلك المَلَكة التي بها يميِّز الإنسان الحقَّ من الباطل، والخير من الشر، والنافع من الضار([1][1]).  

فهذا العقل، أو الملكة، تبدأ في النمو، وتنضج مع ما يكتسبه الإنسان من خبرات في الحياة، ومن معارف ومهارات، ثم تضعف شيئًا فشيئًا، حتى لا يستطيع المرء أن يتصور بعض المسائل، أو يحكم على بعض القضايا في دورة تشبه دورة الجسد، مثلما يصير الإنسان في شيخوخته خائر القوى كأنه طفل يحتاج إلى من يعتمد عليه في قضاء بعض شئونه! 

وقد صوّر القرآن الكريم هذه الحالة من التغير، في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (غافر: 67). وقوله أيضًا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (النحل: 70). 

قال القشيري: “خَلق الإنسانَ في أحسن تركيب، وأملح ترتيب، في الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، والنور والضياء، والفهم والذكاء، ورزقه من العقل والتفكر، والعلم والتبصر، وفنون المناقب التي خصّ بها من الرأي والتدبير، ثم في آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودًا، ويرى فى كل يوم ألمًا جديدًا”([2][2])

وبناءً على ذلك، يمكن أن نرى مرحلتين أساسيتين من مراحل تكوّن العقل، هما: مرحلة “الطفولة العقلية”([3][3])، ومرحلة “النضج العقلي”. 

ففي مرحلة “الطفولة العقلية”- والتي ليست مرتبطة، على مستوى الفرد بطفولته العمرية، كما أشرنا- نرى: التصور الساذج للأمور، الحكم بناء على الانطباعات لا الأدلة والشواهد. المسارعة إلى إبداء الرأي وعدم التأني، الاستهانة بالحقائق، المبالغة في التقدير، المزاجية في الخصام والصداقة، إلى آخر تلك الصفات التي تدل على أن المرء لم يستكمل بناءه العقليَّ بعدُ، ولم يصل للنضج الفكري المأمول، ولم تتراكم لديه الخبرات والمهارات التي تجعله فاعلاً في الحياة، ومتزنًا في تصرفاته، وعلى قدر المسئولية والحدث. 

أما في مرحلة “النضج العقلي”، أو “الرُّشد العقلي”، أو “الفُتوّة العقلية”، فيمكن أن نلاحظ أنها تتصف بعدة علامات أو صفات، نقف مع ستة منها بشيء من الإيجاز: 

الاعتبار بالتاريخ 

أول ما تهمنا ملاحظته في علامات “النضج العقلي”، هو الاعتبار بالتاريخ، ذلك أن الإنسان ليس منفصلاً عن ماضيه، ولا يمكن أن يتشكل حاضره ومستقبله بمعزل عنه، والعاقل من أفاد من ماضيه، بما فيه من أخطاء ونجاحات، فيبني على النجاح ويتجنب الخطأ، وفي الحديث الشريف: “لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين” (متفق عليه). 

أما من لم يصل للنضج، فإنه قد يكرر الخطأ ذاته لمرات ومرات! ولا يستفيد من ماضيه، وبالتالي لا يحسن في حاضره ولا في مستقبله: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126). 

الاحتكام إلى الأدلة والشواهد

العاقل من يبني أحكامه وتصوراته على أدلة قاطعة، أو شواهد متكررة، فلا ينطلق من الظن- وإن كان لا يتجاهله تمامًا- ولا يجري وراء الأوهام تاركًا الحقائق، أو ينساق خلف انطباعاته ومزاجيته. 

لأن عدم الاحتكام إلى الأدلة الواضحة، يوقع المرء في التجاوز بحق الآخرين، فيسيء الظن بهم، أو يستحل أموالهم، أو يعتدي على خصوصياتهم.. 

وقد يأخذ أحدهم مسارًا، أو يُصدر حكمًا، فإذا سألته عن حيثيات حكمه، وجدت ظنًّا أو وهمًا أو انطباعًا، ولم تجد دليلاً محققًا، أو حتى قرائن متعددة! وقد عاب القرآن الكريم على الكافرين قولهم في الملائكة بغير علم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَىٰ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 27، 28). 

وكم أفسد غياب الدليل من علاقات، وأوقع الناس في مشكلات، وجعل الأوهامَ تحل محل الحقائق، والخطواتِ تتجه إلى غير الوجهة الصحيحة! 

عدم المبالغة في التقدير 

إذا ذهب الإنسان بعيدًا عن الدليل، فإنه يفتقد المعيار الذي يَزِنُ به الأمور، ويضعها في نصابها الصحيح، ولهذا فإنه يبالغ في التقدير، ويكون رهنًا لحالته النفسية، أو العوامل المحيطة به، ولا ينطلق من الحقائق، التي تتيح له رؤية منضبطة. 

بينما “النضج العقلي” يجعل صاحبه يحتاط في الحكم، ويقدِّر كل أمر بما يناسبه، آخِذًا في الاعتبار كل عامل من العوامل، مع مراعاة وزنه النسبي، بحيث لا يأخذ عاملٌ أكبر ولا أصغر مما يستحق. 

وهذا الأمر مهم جدًّا إذا أردنا تحليل حالة تراجع الأمة الإسلامية، فهل هذه الحالة ترجع لعامل واحد فقط، أم لعدة لعوامل؟ وهل “الخارج/ الغرب” له الدور الحاسم، أم “الداخل/ القابلية للاستعمار”؟ 

وأيضًا: هل الغرب كتلة صماء، أم نميِّز فيه بين تيارات فكرية، وأخرى سياسية، وثالثة شعبية تجهل عنا أكثر مما تدرك؟ ونراعي أنّ في كل تيار هناك منصفون وغلاة! 

عدم الاستهانة بالأمور 

وخاصة عند النظر في التحديات، أو الأعداء! فالعاقل لا يستهين بأمر، ولا يستخف بالخصم، وإنما يقدّر الأمور بأوزانها من غير تهوين ولا تهويل، بل يحتاط دون إحجام أو تردد، حتى يكون على بصيرة من نفسه، ومما يواجهه، ولا يغريه ما يجد من نفسه من قوة، عما يملكه الآخرون أيضًا من قوة! 

إن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيَّد من الله تعالى، لم يستهن بالأعداء حين واجههم، وإنما أخذ بالأسباب، وبذل غاية الوسع، فأرسل العيون، وضلّل متعقِّبيه في الهجرة، وغيَّر منزله في بدر، وحَفَرَ الخندق، كل ذلك، انطلاقًا من تقدير قوة الخصم وعدم الاستهانة بها. 

وللأسف، قد يظن البعض أن الاستهانة بالخصم علامة على الثقة بالنفس، بينما هي في الحقيقة علامة على خداع النفس! وعلى الجهل بما لدى الآخرين من قوة ربما تفوق ما يملكه هذا المستهين! 

الاعتراف بالأخطاء 

الخطأ من طبيعة الإنسان، فردًا أو مجتمعًا، فالكمال لله تعالى وحده، والعصمة لأنبيائه ورسله، لكن العاقل من يبادر بالتوبة، ويعترف بالتقصير، ويسارع في التصحيح، أما غير العاقل فيتمادى في الخطأ، بل يكابر أنْ لا خطأ، مما يراكم النتائج السلبية، ويزيد الطين بلّة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء: 64). 

إن الرجوع للحق لم يكن أبدًا مَنقصة، إلا عند من لم يتحقق لديهم النضج العقلي، فيفضّلون التمادي في الخطأ على الاعتراف بالتقصير والعودة إلى الحق! يهربون من اللوم إلى مزيد من الأخطاء! 

الاستعداد للمستقبل 

لا ينبغي أن ينشغل الإنسان بحاضره ويغفل عن مستقبله، بل عليه أن يمدّ البصر خارج حدود الزمان والمكان، فهذا أدعى للرؤية الثاقبة، والخطوات الراشدة. وكلما كان المستقبل حاضرًا في التفكير والتخطيط، كانت الرؤية أوضح، والأرض أثبت، والأخطاء أقل. 

إن غير العاقل هو من يحيا يومه باستغراق، وينهمك في لحظته بذوبان، حتى ليفضّل المعصية على الطاعة، والدنيا على الآخرة، ولسانُ حاله إن لم يكن لسان مقاله أيضًا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (المؤمنون: 37)!! 

أما صاحب العقل الناضج فيعيش يومه غيرَ غافلٍ عن غده، ويَسعد بلحظته غير مُستغرَق فيها، ويتزوّد للآتي من بعيد، فلا يفاجَأ بما لم يكن في الحسبان، ولا يُؤخَذ بما لم يستعد له! 

هذه أهم صفات أو علامات مرحلة “النضج العقلي”، التي ينبغي أن نسعى في تحصيلها، على مستوى الفرد والمجتمع. 


([1]) راجع: “المعجم الفلسفي”، مجمع اللغة بالقاهرة، ص: 120. 

([2]) تفسير القشيري، 2/ 307. 

([3]) أفدتُ مصطلح (الطفولة العقلية) من كتابات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. ثم وقعت على مقال للشيخ محمد رشيد رضا، رحمه الله، يستخدم فيه مصطلح (طفولية الأمّة) لوصف حال الأمة حين التدهور والانحطاط.. وأبان أن حالها يشبه حال “الطفل” الذي يتأبّى على العلاج، ويتسلّى بالتوافه، وينشغل عما يجب الانشغال به!