لا ننوي في هذا المقال التعرض لمسألة حكم الاحتفاء والاحتفال بالمولد النبوي من الناحية الفقهية فقد كفينا ذلك إذ ألفت فيه كتب، وحررت فيه فتاوى قديمة وحديثة بما يغني عن تجديد الخوض فيه.
ولد النبي ﷺ في شهر ربيع الأول، في يوم اثنين منه قطعا، في الثامن، أو العاشر أو الثاني عشر… من عام الفيل.
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ * وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
يَـومٌ يَـتـيهُ عَلى الزَمانِ صَباحُهُ * وَمَـسـاؤُهُ بِـمُـحَـمَّـدٍ وَضّاءُ
يـا مَن لَهُ الأَخلاقُ ما تَهوى العُلا * مِـنـهـا وَمـا يَـتَعَشَّقُ الكُبَراءُ
زانَـتـكَ في الخُلُقِ العَظيمِ شَمائِلٌ * يُـغـرى بِـهِـنَّ وَيـولَعُ الكُرَماءُ
فَـإِذا سَـخَوتَ بَلَغتَ بِالجودِ المَدى* وَفَـعَـلـتَ مـا لا تَـفعَلُ الأَنواءُ
وَإِذا رَحِــمـتَ فَـأَنـتَ أُمٌّ أَو أَبٌ * هَـذانِ فـي الـدُنيا هُما الرُحَماءُ
وبهذه المناسبة -مناسبة ذكرى مولد النبيﷺ- نود أن نورد شيئا من ثناء غير المسلمين عليه، ومدحهم له، واعترافهم برسالته، ممن تملكهم الإعجاب به والمحبة له وإن لم يسلموا له ولم يتبعوا ما جاء به ، مع أن القارئ ربما يحلف يمينه لا يستثني أن ما كتبوه ونطقوا به لا يصدر إلا عن مسلم ذاق حلاوة الإيمان.
عيد البرية عنوان قصيدة لشاعر مسيحي اسمه رشيد سليم الخوري يمدح بها النبي ﷺ يقول فيها:
عِـيـدُ الـبَـرِيَّـةِ عِيـدُ الـمَوْلِـدِ الـنَّبَـوِيّ* فِي الـمَـشْرِقَيْنِ لَهُ وَالـمَغْرِبَيْنِ دَوِيّ
عِـيدُ الـنَّبِيّ ابنِ عَـبْدِ اللهِ مَنْ طلعَتْ * شَـمْـسُ الهِـدَايَةِ مِنْ قُـرْآنِهِ الـعلوَيّ
بَدَا مِنَ الـقَـفْرِ نُورَاً لِـلْـوَرَى وَهُـدَىً* يَا لِـلْـتَمَدُّنِ عَــمَّ الـكَـوْنَ مِــنْ بَدَوِيّ
يَـا فَاتِـحَ الأَرْضِ مَيْدَانَـاً لِــدَوْلَـــــتِـهِ* صَارَتْ بِـلادُكَ مَـيْـدَانَـاً لِكُـلِّ قَوِيّ
يَـا حَـبَّذَا عَهْــد بَـغْـدَادٍ وَأَنْدَلُـــــسٍ *عَــهْــدٌ بِــرُوحِـي أُفَدِّي عَـوْدَهُ وَذَوِيّ
مَـنْ كَانَ فِي ريْـبَةٍ مِـنْ ضَخْمِ دَوْلَتِهِ * فَـلْيَتْلُ مَا فِي تَوَارِيخِ الشُّعُوبِ رُوِي
فَـإنْ ذَكَرْتُـمْ رَسُـولَ اللهِ تكـرِمَةً * فَــبَـلِّـغُـوهُ سَـلامَ الــشَّــاعِـرِ القَــرَوِيّ
ولو قائل قال إن هذا الشعر لا يقوله إلا مسلم خالط الإيمان بشاشة قلبه، فإن الشاعر يجيب في هذه القصيدة عن ذلك بما لا يدع مجالا للشك فيقول:
يَا قَوْمُ هَذا مَـسِـيحِـيٌّ يُذَكِّـرُكُـمْ * لا يُـنْهِضُ الـشَّرْقَ إلاّ حبُّنَا الأخَـوِيّ
ولا غرابة في هذا فقد يسلم لسان المرء ولا يسلم قلبه وقد قال النبي ﷺ في أمية ابن أبي الصلت الثقفي: “كاد يُسْلِمُ في شعره”. صحيح مسلم: (225) من حديث الشريد بن عمرو.
وفي البخاري حديث رقم: (3341) عن أبي هريرة مرفوعاً: “وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم”.
وأمية قد أدرك الإسلام ورثى من قتل من الكفار في بدر، ولم يختلف أصحاب الأخبار أنه مات كافراً، ومن شأنه أنه كان يخبر بأن نبيا يبعث قد أظل زمانه ويؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج رسول الله ﷺ لم يؤمن به حسدا له، حتى مات.
ومن شعره قوله:
فقد جاءَ ما لا ريبَ فيه من الهدى … وليس يرد الحقّ إلاَّ مفندُ
فكن خائفاً للموت والبعث بعده … ولا تكُ فيمن غرَّه اليوم أوْ غدُ
وقد ذكر عمرو بن الشريد عن أبيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَهُ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ قَالَ: فَأَنْشَدَتهُ مِائَةَ قَافِيَةٍ، فَلَمْ أُنْشِدْهُ شَيْئًا إِلَّا قَالَ: «إِيهِ، إِيهِ» حَتَّى إِذَا اسْتَفْرَغْتُ مِنْ مِائَةِ قَافِيَةٍ، قَالَ: «كَادَ أَنْ يُسْلِمَ». وفي رواية: “آمن شعره وكفر قلبه”، أو “آمن لسانه وكفر قلبه”، أي آمن لسانه وشعره بالله، ولكنه هو كفر برسوله، ولم يؤمن بما جاء به نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك أبو طالب عم النبي ﷺ فقد أبى الإسلام واتباع الرسالة، وإن صدق بما جاء به الرسول ﷺ، وقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك، ولكن أذُّبُّ عنك ما حييت ثم أنشد:
وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمـــــــعِهِم ** حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
فَاِصدَع بِأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ * وَاِبشِر بِذاكَ وَقَرَّ مِنهُ عُيونا
وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِـــــحٌ * وَلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ ثَمَّ أَمينا
وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمــــــــتُ بِأَنَّهُ * مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا
لولا الملامة أو حــــــــذار مسبّةٍ * لوجدتني سمـــحاً بذاك يقينا
وأعجب من ذلك أن تقرأ ما سطرته الكاتبة الإيطالية “لوريا فيتشا فليرى” في كتابها محاسن الإسلام حيث تقول: في بلد قفر بواد غير ذي زرع .. منعزل عن الإنسانية المتمدنة تفجر ينبوع ماء سلسبيل عذب منعش بين قوم من الهمج، جبابرة غلاظ القلوب لا يخضعون لسلطان ولا يتقيدون بقيد.
ذلك الينبوع هو دين الإسلام الذي تدفق بغزارة واتخذ سبيله في الأرض سربا…ولم يلبث الناس أن تذوقوا هذا الشراب العجيب وشفوا من أمراضهم الاجتماعية واتحد المختلفون منهم والمتخاصمون، وانطفأت نيران الحقد والكراهية المشبوبة في صدورهم… لم يعرف التاريخ حادثا مماثلا لهذا الحادث الخطير؛ لأن السرعة العظيمة التي أتم بها الإسلام فتوحاته كان لها الأثر في حياته. إذ أنه بعد أن كان عقيدة نفر قليل من المتحمسين أصبح دينا لعدة ملايين من الناس.
وليت شعري كيف تأتي لهؤلاء المجاهدين غير المدربين ان ينتصروا على شعوب يفوقونهم مدنية وثروة، ويزيدون عليهم دربة ومراسا للحرب… وكيف أمكن هذا الدين أن يوطد في نفوس أولئك المهتدين الحديثي الإيمان أمتن الأسس، وكيف تسنى له أن يحتفظ بحيويته العظيمة التي لم تعرف مثلها ديانة أخرى من قبل حتى بعد ثلاثة عشر قرنا خلت بعد حياة مؤسسه، … لعمري إن هذا كله مما يبعث في الإنسان الشيء الكثير من الدهشة والذهول…
أخذ الناس الذين دهشوا لهذا الانقلاب الاجتماعي الديني السياسي يتساءلون عن سببه الأول، ولكنَّ الكثيرين منهم كانوا لا يبصرون أو تعمدوا إغماضَ عيونِهم، فظلوا يتخبطون طويلاً في مجاهل الغلط والشطط، ولم يدركوا أنَّ القوة الإلهية هي التي أعطت الإشارة الأولى لهذه الحركة المباركة الواسعة النِّطاق، ولم يشاؤوا أن يصدقوا أن الحكمة الإلهية هي التي اقتضت أن يكون محمدٌ خاتَمَ الأنبياء والمرسلين، وسجلت له إلى الآن رسالة عامة إلى الناس أجمعين، بغير تمييز بين جنس وجنس، أو بين بلد وبلد…”.
إن العجب ليتملك المرء وهو يقرأ هذه السطور ويتمعن في هذه الشهادة والإقرار ومع ذلك لا يؤمن كاتبها ولا ينهل من هذا المعين الذي وصف.
يقول الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي:” من خلال هذه الفصول قدمت المؤلفة شهادات موضوعية تمثل قراءة متجرّدة للإسلام وسيرة نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام وذلك في إطار ما اعتبرناه شهادات أدلى بها المنصفون من الباحثين والدارسين الغربيين في نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام…”.
وأمثال لوريا كثير ومنهم: نصري السلهب اللبناني المسيحي الذي يقول في كتابه لقاء المسيحية والإسلام ص 121:” الإسلام ليس بحاجة إلى قلمنا، مهما بلغ قلمنا من البلاغة. ولكن قلمنا بحاجة إلى الإسلام، إلى ما ينطوي عليه من ثروة روحية وأخلاقية، إلى قرآنه الرائع الذي بوسعنا أن نتعلم منه الكثير”.
والمستشرق الدكتور مايكل هارت من أولئك تملكهم الإعجاب بمحمد ﷺ وقد عبر عن ذلك من خلال كتابه الشهير ”المائة الأعظم تأثيرا في التاريخ” والذي ترجمه إلى العربية الكاتب أنيس منصور تحت عنوان ”الخالدون مائة أعظمهم محمد” ﷺ. وقد قال هارت: ”إن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي”.
وقد جمع الدكتور عماد الدين خليل كثيرا من أقوال المستشرقين في الثناء على الإسلام والاعتراف بعظمة القرآن وقدسيته في وريقات بعنوان ” قالوا عن الإسلام” وكثير من هؤلاء أسلم لما عرف الحق وبعضهم لم يؤمن رغم اعترافه بأن ما جاء به محمد ﷺ حق لا باطل فيه وصدق لا ريب معه.