في أحد الحدائق العامة وجدت سائحا يدعو الناس لمشاهدة سرك متنقل وبينما يروج لفقرات السرك المختلفة إذا به يقول حاثا مستمعيه على الإسراع بالدخول:” لا تفكر لو فكرت ستتعب” وتداعى إلى ذهني وأنا أكتب هذه الكلمات مقولة تعيسة “من عاش بالحكمة مات بالحسرة” فتساءلت بيني وبين نفسي متى يتعب الإنسان من التفكير ومتى يكون في الفكر راحة؟ ومتى تكون الحكمة سببا للحسرة والحمق سبب للحياة السعيدة؟ وتذكرت سؤالا كنت أطرحه قديما أمازح به البعض من المستريح الذكي أم الغبي؟! وفيما نشاهد من وقائع وأحداث يتجدد سؤالي ويلح بقوة ما ذكره داعية الترفيه هذا.

فكرت في أناس أعملوا عقولهم وكاد التفكير يطيح بهم ، منهم موظف هُدد بالفصل من عمله إن لم ينجز مهمة ما، وكان الوقت ضيقا لا يراه كافيا لإنجاز ما طلب منه، فجلس في بيته مطرقا رأسه يفكر في مستقبله الذي يتسرب منه ،وذلك من قُبيل الظهر حتى  فوجئ بالظلام يلف المكان من حوله، أضاء الأنوار وإذا بالساعة التاسعة ليلا.

ومالي  أذهب بعيدا وقد فكرت في مسألة علمية حرمتني من راحة النوم لمدة أسبوع كامل، وكلما تداولت الحديث فيها مع صديق تكشف لي من الإشكالات ما يباعد بيني وبين الراحة ويدفعني دفعا إلى تحقيق الكلام فيها، لكن بعد هذا العناء شعرت بسعادة تمسح كل هذه المعاناة عندما اتضح لي ما كان خافيا واكتملت الصورة أمام ناظري، وأين هي المتعة التي يحصل صاحبها عليها بلا ثمن؟!.

التفكير الذي يمثل عند البعض عناء وبلاء ،يجعل صاحبه يحتفظ بالأسئلة لسنوات وسنوات لا تزول من عقله حتى يجد لها إجابة في ثنايا كتاب أو خلال حديث عالم أو عامي فتكون سعادته بها كالحبيب الذي لقى حبيبه بعد طول غياب.

من بين الأهداف التي جاء من أجلها الإسلام الحفاظ على العقل لكي يؤدي مهمته التي خلقها الله لأجلها وهي التفكير ولكي يتمكن من التعامل مع رسالات الله تعالى للإنسانية تدبرا وعملا.

القرآن والتفكير

ونجد القرآن يقدم هدايته لقوم يعقلون ولأولي الألباب ولقوم يسمعون وللمتوسمين ولأولي النهى وللعالمين ،ويحصر التذكر في أولي الألباب فهل تَفكُر أولي الألباب في آيات الله في الأنفس والآفاق متعب أم مريح؟؟

تذكرت سورة ق وهي تبني يقين العبد في الله تعالى وفي قدرته جل جلاله وقد جاء فيها {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } [ق: 6 – 11]

النظرة المطلوبة ليست نظرة الحالم أو الهائم على وجهه ، بل هي النظرة التي يجتمع فيها البصر والبصيرة وهي التي تورث الإيمان وتجدد اليقين ،كم هي العلوم التي تلزمنا لكي نحقق النظر المطلوب في السماء والبحث في بنيانها وزينتها وكيف نزين بناياننا بما يعود علينا بالفائدة والبهجة؟؟

كم هي العلوم التي تلزمنا لكي ندقق النظر في الأرض ومساحتها والجبال التي تُثبِّتها والنباتات التي تسر الناظرين ونستخلص منها غذائنا وكسائنا ودوائنا؟؟

كم هي العلوم التي تلزمنا لكي نمعن النظر في الماء النازل من السماء وكيفية المحافظة عليه حتى نستخدمه في استنبات الجنات وحب الحصيد.

قراءة هذه الآيات ترتب علينا تحصيل هذه العلوم والانتفاع بها في ديننا ودنيانا

في زمن الهزيمة النفسية تكثر المطالبة بعدم التفكير:

أولا: من النفس التي كلما نظرت إلى ما حولها وجدت البؤس والتعاسة والأبواب المغلقة.

وثانيا: ممن حولك ليبحث الإنسان عن مهرب في السرك – كما كان يدعو الداعي- أو في المغيبات العقلية سواء كانت ثقافية تأخذ الإنسان إلى عالم الأوهام  أو مخدرات تذهب العقل.

قسمة الخلاق

ومع تقديرنا للتفاوت في الإدراك والفهم إلا أننا نوقن أن العقل الإنساني قابل للتعلم تعلم العلوم وتعلم قواعد التفكير ولا زال ذوو الاحتياجات العقلية الخاصة يبهروننا بما أودع الله فيهم من قدرات وما منحهم من مواهب تحتاج إلى اكتشاف وتنمية.

ولازالت الأمثال التي خرجت من أفواه أناس لم يتلقوا أي قدر من التعليم النظامي تبهرنا وتبهر من بعدنا في الكشف  عن الطبيعة الإنسانية  ،قالت الأم وهي تعلم ولدها :”حبيبك له حبيب” كانت تقول له ذلك وهي ترشده إلى كتمان سره عن الناس، فإذا أخبر به أحد أخلص أصدقائه وأكتمهم للسر فلهذا الصديق صديق وَفِيّ كتوم – في نظره – وسيخبره ويستكتمه  ولا يزال الواحد من هؤلاء يُخبر ويستكتم حتى يفشو الأمر، كم توفر علينا هذه الحكمة من متاعب ومآسي عندما نفكر فيها ونعمل بها؟؟.

كيف نرفع مستوى تفكير العامة ليجدو مخرجا – بل مخارج – من همومهم اليومية بدلا من أن تمر أعمارهم سدى دون أن ينعموا بحياة مادية وعقلية ونفسية وروحية.

يحدث هذا عندما يتعاون إمام المسجد ومدرس المراحل المختلفة للتعليم والكاتب الصحفي ومقدم البرامج الإذاعية والتلفزيونية وأصحاب الخبرة والتجربة من كبار السن وصغاره في تكوين الإنسان المفكر الذي يحسن التعامل مع أزماته الحياتية والنفسية، يتعاون الجميع في بناء صرح الفكر لبنة لبنة يحدوهم الأمل في إخراج جيل عَصِيّ على الهزيمة موقن بمعونة الله مستشرف للمستقبل مستفيد من أخطاء الماضي، لو تكاتفنا في هذا السبيل رأينا الغد أو بعد الغد ما يسر الصديق ويغيظ العدو.

إذا عرف الإنسان أن هناك مساحة واسعة يمكن للفكر أن يتحرك فيها ليبدع ويبتكر ويبني على ما سبق من تجارب إنسانية وعلمية وهناك مساحة أخرى قد أجابت الكتب السماوية عن الأسئلة فيها فلا داعي للإجهاد العقلي الذي ينهك الفكر دون أن يعود على الإنسان والإنسانية بفائدة ودون أن يجد إجابة شافية خارج هذه الكتب المنزلة من السماء.

وإن توقفنا عن التفكير فيما يصيبنا من متاعب كيف تزول في نظر هؤلاء؟ هل نبتعد عنها قليلا بالسُكر أو بالسرك لنجدها قد تضخمت وتعدى ضررها الشخص إلى غيره؟ أم نشارك آلامنا من نحب ويحبنا نتقاسم الهموم ونبحث عن مخرج نتعلم من تجارب الآخرين مع مراعاة خصوصية مشاكلنا.

ماذا حصل عندما غاب التفكير ؟

راجت سوق أصحاب الظاهرة الصوتية وصرنا نسمع في مختلف الأقطار والأقاليم عن خطيب جذاب لكن لايبقى في ذهن الناس من كلامه شئ، وكسد سوق أصحاب الفكر الذين يخاطبون العقل كما يخاطبون العاطفة ويرسمون الطريق نحو الأهداف السامية كما يحركون المشاعر فكلام هؤلاء ثقيل يحتاج إلى عقل ناضج وذهن مستنير على أنهم جزء من المشكلة عندما يخاطبون الناس من برج عاجي ثم يتألمون لأن أحدا لا يتفاعل مع كلامهم بل يملّ منه قبل أن ينتهي المتحدث من حديثه لأن تكوين الإنسان الواعي ليس حاضرا في ذهنهم عندما يهملون تربية الناس على صغار العلم قبل كباره وعندما لا يجمعون بين الفكرة العميقة واللغة الرشيقة.

دخل الناس في الصلوات وخرجوا منها دون أن تترك في نفوسهم أثرا لأنهم يستمعون إلى صوت القارئ دون أن ينتبهوا لما يقرأ وإذا غاب التفكر في ما يتلوه الإمام من قرآن  وما يدعو به المصلي في صلواته انقلبت الصلاة إلى طقس لايعود بفائدة على الروح أو السلوك  ولم نجد لها أثرا في الائتمار بالمعروف أو الانتهاء عن المنكر

ويصوم الناس دون أن يقتربوا ولو خطوة من التقوى التي جعلها الله تعالى ثمرة الصيام.

ويؤدون الزكاة دون أن تتطهر نفوسهم من أدرانها، وينفقون النفقات الباهظة ويبذلون الجهود  الكبيرة في الحج دون أن يستفيدوا من الثمار الظاهرة والباطنة لعبادة العمر.