قال د. بدران مسعود بن لحسن، الأكاديمي الجزائري، إن مالك بن نبي مدرسةٌ في الفكر الإسلامي المعاصر، لم ينصب اهتمامه على تفسير النص، ولكن اتجه إلى دراسة سنن التخلف والتحضر.
وأوضح أستاذ مقارنة الأديان ومناهج دراسة الدين المشارك، بكلية الدراسات الإسلامية – جامعة حمد بن خليفة، قطر، أن الإشكالات التي طرحها بن نبي مازالت هي جوهر ما يُطرح من إشكالات في واقعنا، مؤكدًا أن فكر بن نبي مازال قادرًا على العطاء.
وأشار بن لحسن إلى أن سبب غياب الاستفادة من فكر بن نبي هو أن أفكاره ليست عاطفية تقوم على تعبئة الجماهير وتنويمهم بالمطالبة بالحقوق، وإنما هي أفكار توخز الضمير، وتوقظ الوعي، وتدعو إلى البداية بالواجبات لا الحقوق.. إضافة إلى أن المؤسسات التي يهيمن عليها العلمانيون في العالم العربي تقف ضد كل أصالة وإبداع، حسب رأيه.
ويأتي حوار “إسلام أون لاين” مع د. بدران مسعود بن لحسن في الذكرى الثالثة والأربعين لوفاة مالك بن نبي، فقيه الحضارة الإسلامية في القرن العشرين، لنقف معه على أهم معالم فكر بن نبي، وما يمكن أن يقدمه للإشكالات الراهنة التي تقف حجر عثرة أمام استتئنافِ أمتِنا مسيرةَ النهوض والحضارة.
وبن لحسن هو أحد المختصين بفكر مالك بن نبي؛ مفكر الحضارة وصاحب النظرات العميقة في فلسفة التاريخ وحركة المجتمعات؛ حيث أنجز عنه رسالتيه في الماجستير والدكتوراه..
فإلى تفاصيل الحوار:
– أنجزتم رسالتيكم في الماجستير والدكتوراة عن بن نبي.. لماذا الاهتمام به؟
نعم. فعلاً أنجزت رسالتي للماجستير والدكتوراة عن مالك بن نبي، وتم نشر رسالة الماجستير في سلسلة “كتاب الأمة”، أما الدكتوراه فنشرها “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” بلغتها المنجزة بها، وهي الإنجليزية.
الاهتمام بمالك بن نبي كان له أسباب ثلاثة:
أولها: والدي الذي كان يذكره لي أحيانًا رغم أنه لم يكن يعرف فكره حقيقة، ولكن كان يراه مفكرًا فريدًا.
وثانيها: لما انتقلت للثانوية ثم دخلت الجامعة، تعرفت على فكره بفعل حلقات العلم في المسجد وفي الجامعة، وكذلك كان شيخي الأستاذ “عيسى الأغبش”، رحمه الله، قد أهداني مجموعته كاملة، فلما اطلعت عليها وجدتها نسيجًا وحدها؛ رؤية ومنظورًا ومنهجًا ومفاهيم وقضايا وطريقة تناول؛ لم أعهدها في السائد من الكتابات التي كانت تقليدية وخاوية من العمق ومن التفكير المنهجي.
أما ثالثتها: فلما ذهبت إلى ماليزيا، هناك حيث كانت ماليزيا تخطو خطوات في التنمية والنهضة، وسلوك طريق التحرر من التبعية للغرب، ذكرتني بأفكار مالك بن نبي. كما أن الجامعة الإسلامية العالمية كانت مجالاً لتلاقح الأفكار، والنقاش العلمي المستمر، وكان مالك بني نبي وفكره يمدني بقدرة على الفهم والتحليل، ويزودني بنظر منهجي لوضع الأمة، وقضاياها، والحاجة إلى أفق في الفكر والنظر يتجاوز السائد من المناهج. فقررت التعمق في درس فكره بطريقة أكاديمية، لذا خصصت “الماجستير” لفهم رؤيته للحضارة الغربية وما تتميز به، وخصصت “الدكتوراه” للنظر في منهج مالك بن نبي في دراسة الحضارة والبحث في أسس ذلك المنهج، والأسس الثقافية الفكرية والأسس الاجتماعية التاريخية التي تقوم عليها نظريته في دراسة الحضارة. وهي دراسة تجمع بين علم اجتماع المعرفة وفلسفة العلم وتاريخ الأفكار.
– لكل مفكر مجموعة من التصورات والقضايا يُوليها اهتمامَه الأساس.. كيف ترى ذلك في العطاء الفكري لمالك بن نبي؟
مالك بن نبي إذا ذُكر فإنما يُذكر المنظور الحضاري في الفكر الإسلامي، ويذكر ابن خلدون الذي أحيا بن نبي فكرَه، كما تذكر مقولات الحضارة، والثقافة، والإنسان، والدين.
وتذكر أيضًا القابلية للاستعمار باعتبارها أداة لفهم وتحليل التبعية، وتذكر معادلة الحضارة (الانسان+ التراب+ الوقت) والدين باعتباره وسط تفاعل عناصر الحضارة، وتذكر مراحل الحضارة (مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة)، وتذكر أعمار المجتمع (مجتمع ما قبل الحضارة، ومجتمع الحضارة، ومجتمع ما بعد الحضارة)، وتذكر شبكة العلاقات الاجتماعية، وتذكر كذلك “مشكلة الأفكار”، ويحضر القرآن بقوة باعتباره رسالة لتحرر وتحضر الإنسان، ويذكر النبي ﷺ باعتباره النموذج العملي لتحقق قيم القرآن في التاريخ.
بعبارة أخرى، فإن مالك بن نبي مدرسة في الفكر الإسلامي المعاصر، لم ينصب اهتمامه على تفسير النص، ولكن اتجه إلى دراسة سنن التخلف والتحضر، ليرسم لأمته طريقًا لاستعادة دورها ورسالتها في التحضر والشهادة والريادة.
فهو صاحب منظور ومنظومة فكرية متميزة لا يمكن نسبتها إلى أحد آخر إلا إلى مالك بن نبي، بالرغم من استفادته من تراث المسلمين وغيرهم في بناء نسقه الفكري ومنظوره الحضاري.
– يُشار لمالك بن نبي بـ”ابن خلدون الثاني”.. ما أوجه الشَّبه والاختلاف بينهما؟
نعم؛ هو “ابن خلدون الثاني” بامتياز، وليس المقصود أنه كان مقلدًا لابن خلدون، ولكن المقصود هو أنه أحيا المدرسة الخلدونية؛ رؤية ومنظورًا وموضوعًا ومنهجًا؛ رؤية تنشغل بالعمران- في ضوء القرآن- فتكتشف سنن قيامه وسقوطه، ومنظورًا يحاول أن يعالج القضايا في أفقها الحضاري العالمي، وموضوعًا وهو حركة المجتمع في التاريخ، ومكونات المجتمع، والعلاقات الاجتماعية، والصلة بين الدين والقيم والإنسان وكيفية تركيب ذلك في فعل إنجازي تاريخي مستحضرًا سنن الله في ذلك، ومنهجًا من خلال تعميق النظر التحليلي التركيبي، والعمل على استخراج واكتشاف سنن الله في حركة التاريخ والاجتماع، ليحول الفعل الحضاري إلى فعل واع قصدي منظم مخطط له، وليس فعلاً عشوائيًا؛ أي المنهج هو التفكير السنني.
بالرغم من أن سقف المعرفة في زمن ابن خلدون كان عائقًا أمام عمق الفكرة الخلدونية كما يقول مالك بن نبي؛ فعلى سبيل المثال فإن اتخاذ ابن خلدون لمصطلح “الدولة” حجب عمق فكرته في تناول مجالها الأوسع الذي سعى إليه ابن خلدون، وهو الحضارة.
– اهتم مالك بن نبي كثيرًا بـ”الأفكار” وبفاعليتها وبانعكاسها في الواقع الاجتماعي.. نرجوا توضيح ذلك؟
عند تحليل مالك بن نبي لعناصر الحضارة رأى أن العنصر الأساس فيها هو الإنسان؛ والإنسان يؤثر بمؤثرات ثلاثة: فكره، وماله، وعمله؛ ولهذا فعلينا لإحداث نهضة حضارية أن نهتم بالإنسان. والاهتمام بالإنسان يكون من خلال الاهتمام بهذه الأبعاد الثلاثة: الفكر والمال والعمل؛ ولكن الحقيقة أن ذلك يتم من خلال فكرة توجيه هذه القوى الثلاثة لتنسجم وتتفاعل، ولا يحدث لها تشتت، ولا يحدث بينها تناقض. وبهذا فإن الأفكار هي التي تؤثر في القوتين الأخريين. ولهذا فالأفكار مفصلية في عملية التحضر؛ سواء في بناء الإنسان، أو في توجيه قواه، أو في صياغة مشاريع النهضة.
ولهذا، كما يذكر بن نبي في كتابه (ميلاد مجتمع)، فإن “غنى المجتمع لا يقاس بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من (أفكار). ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروفٌ أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالمَ الأشياء) محوًا كاملاً، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقًا. أما إذا استطاع أن ينقذ (أفكاره) فإنه يكون قد أنقذ كل شيء؛ إذ إنه يستطيع أن يعيد بناء (عالم الأشياء)”. وضرب لذلك أمثلة بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية .
ثم إن مالك بن نبي، كان يرى أن العالم الإسلامي في كثير من الأحيان ليس فقيرًا من حيث الأفكار، ولكن يفتقد إلى المنطق العملي، أي ربط الأفكار بالمجتمع والواقع؛ أي تحويل الأفكار إلى مشاريع عملية. ولهذا فإنه يؤكد دائمًا أن هناك فرقًا بين الانشغال بأصالة الأفكار وبين فعاليتها في الواقع. وعلينا أن لا نكتفي بترديد الأفكار الأصيلة، بل بتحويلها إلى قوة مغيِّرة في الواقع، تغير واقع الناس وتحقق أهدافهم. حتى لا تتحول الأفكار إلى ثرثرة وعلم كلام جديد. أو بعبارة مالك بن نبي فإن “ميزانية التاريخ ليست رصيدًا من الكلام، بل كتل من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه”. ولهذا رأى أن هناك خللاً في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، وهي أننا نقول لنقول، وليس لنعمل.
– استطاع مالك بن نبي أن يمزج في أطروحاته بين علم النفس والاجتماع والتاريخ الإسلامي والغربي.. كيف تسنى له ذلك، وتخصصه الأساس في الهندسة؟
فعلاً، استطاع مالك بن نبي أن يستثمر العلوم الاجتماعية الإنسانية المعاصرة في بناء منظوره الحضاري، وقد أسميته في رسالتي للدكتوراه: “المنظور التكاملي. وقد أفادته توجيهات العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله، الذي كان في نظر مالك بن نبي يمثل العمامة التي تنظر في أسباب المشكلة ولا تعمل على تنويم المسلمين بالتمائم والأقوال الكهنوتية؛ ولعل هذا أعطى لبن نبي رؤية أوسع لضرورة النظر في مختلف العلوم لبناء ثقافة إسلامية تخرج من التقليد كما تخرج من التبعية والانبهار للغرب، وقد ساعده وجوده في فرنسا في اكتشاف سر فعالية الحضارة الغربية في استعمالها وتطويرها لتلك العلوم الاجتماعية والإنسانية في التحقق بسنن الله في الأنفس والمجتمعات والتاريخ. كما ساعده مُلهمه ومعلمه الأكبر الأستاذ “حمودة بن الساعي” الذي كان يكبره سنًا، وكان يحضر رسالة دكتوراه عن أبي حامد الغزالي في “السوربون” آنذاك، وكان ضليعًا في الفكر الإسلامي والعلوم الاجتماعية. ولهذا كان بن نبي يُرجع اهتمامه بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وبالتفكر في مشكلات الحضارة إلى أستاذه وملهمه “حمودة بن الساعي” الذي- حسب رأيه- جعله خبيرًا في شؤون المجتمعات الإسلامية، بدل أن يبقى حبيس الهندسة الكهربائية.
وإن تلك النقاشات بينه وبين ملهمه وصديقه “حمودة بن الساعي” قد فتحت وعيه على ضرورة السعي إلى بناء منظور يستوعب حاجة أمتنا إلى منظور فكري يعالج المشكلات الكثيرة، التي تعانيها، في وحدة كلية تجمعها ولا تختزلها؛ وهو المنظور الحضاري.
– “المسألة الحضارية” مسألةٌ محورية في جهود بن نبي.. ما الجديد الذي قدمه فيها؟
كما قلنا فإن المسألة الحضارية مسألة محورية في فكر مالك بن نبي، والجديد فيها أنها منظور كلي لتشخيص أمراض أمتنا وحضارتنا الإسلامية ووصف العلاج لها؛ منظور يوفر فهمًا كليًّا دون اختزال لمشكلاتها الجزئية. فهو ينظر إلى مشكلات الأمة على أنها كلها تنضوي تحته ما يسميه “مشكلة الحضارة”، باعتبار أن الحضارة هي الإطار الذي ينظم كل هذه الأجزاء؛ التي نسميها في مكانٍ ما مشكلة سياسية، وفي مكان آخر مشكلة اقتصادية، وفي مكان ثالث مشكلة أخلاقية.
وهو يرى أن العالم الإسلامي في بحثه عن صياغة بناء حضاري جديد، عليه أن يبحث أولاً في أسباب الغياب الحضاري الذي دام مدة طويلة كان خلالها خارج التاريخ، كأن لم يكن له هدف.
ولهذا، فالعالم الإسلامي أضاع وقتًا طويلاً، وجهدًا كبيرًا، بسبب عدم التحليل المنهجي للمرض، الذي يتألم منه منذ قرون طويلة؛ فذهب يتلمس الحلول الجزئية، ونظر إلى القضية في صورها التجزيئية، فاختلفت الأطروحات؛ من الطرح السياسي إلى الطرح الاقتصادي إلى الطرح الأخلاقي.. وهكذا.
ولهذا أيضًا ينبغي البحث في جوهر الأزمة وحقيقة المرض، وعدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض أو المظاهر الجزئية التي تطفو هنا وهناك في صورة أو أخرى.. كما أن كل هذه الأعراض تحتاج إلى إطار من خلاله نرى كل الجوانب المتعلقة بالأزمة، ولا نغيِّب أحدها، وهذا الإطار يكمن في إرجاع الأزمة إلى جوهرها؛ الذي هو مشكلة غياب حضارة المسلم، وغيابه عن صنع التاريخ؛ وهو إطار ينبغي أن ينظم كل الجهود الإصلاحية، لنحقق النهضة التي طال العمل لها في العالم الإسلامي.
فالمرض كامن في نفس المسلم، وفي ثقافته الموروثة، كما هو كامن في سلوك المسلم وتصرفاته اليومية، وفي قلبه وعقله.. والأزمة تكمن في الأدران العالقة بالمسلم من تراث الانحطاط عبر القرون، أكثر مما هي بسبب خارجي وافد. فالأمر لا يتعلق بنقص في الوسائل حتى نستوردها ونكدسها، بل يتعلق بأزمة في الأفكار كما يقول مالك بن نبي، وفي كيفية البحث عن حلول موضوعية لها.
ولهذا يرفض النظر السطحي للمشكلة أو تجزيئها، ويعتبر أن هذا يؤدي إلى استفحال التخلف، في حين الجهود تتجه لمعالجة مظاهره وليس جوهره، هذا الجوهر يكمن في الإمساك بالمشكلة المركزية التي تنتظمه، وهي الارتقاء إلى مستوى أرحب في التحليل، من خلال النظر إلى الأزمة بنظرة شمولية.
ولهذا يقول “إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”.
فكانت كل جهوده وأعماله الفكرية تنصب على البحث عن حل مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي، ومحاولة البحث عن مدخل منهجي مناسب لإعادة بناء حضارته من جديد.
– العلاقة بالغرب، رؤيةً وتعاملاً.. كيف رصدها بن نبي؟
يرى مالك بن نبي أن الوعي الإسلامي في الأزمنة الحديثة يقع في اضطراب كلما تعلق الأمر بالعلاقة بالغرب. وهذا ما أدى إلى اضطراب الرؤى والتنظيرات.
ولهذا فإنه يرى أننا بحاجة إلى تحديد دقيق للعلاقة بالغرب، ينقلنا من التبعية إلى التعلم، والندية. فمعظم مثقفينا خاصةً علاقتهم بالغرب علاقة انبهار وتقليد، أو علاقة زبون يكدس منتجات الغرب مادية أو فكرية، بينما ينبغي أن تكون علاقتنا بالغرب علاقة قائمة على أن نتعلم من هذه التجربة الحضارية ما يفيدنا في بناء حضارتنا الإسلامية من جديد، فلا نقع في التكديس ولكن نقوم باقتباس واعٍ وفق منظورنا الحضاري.
لأن الحضارة الغربية اليوم صار إشعاعها عالميًّا، وهي بهذا أشعّت على العالم بمنجزاتها وبفوضاها ومشكلاتها، وخاصة أن الضمير والوعي صارا يتشكلان في إطار عالمي، لأن زمن الوحدات الحضارية المعزولة قد ولّى وانتهى؛ ونحن اليوم في مرحلة عالمية بمختلف المقاييس، والانعزال لا يزيدنا قوة، ولكن الانفتاح يجعلنا نتعامل في إطار أرحب، دون أن يكون الغرب هو النموذج الفريد المحتذى، ولا المتفرد بصناعة العلم والضمير.
كما أن الحضارة الغربية المعاصرة رفعت من مقدرة الإنسان- بفعل العامل التكنولوجي- وحققت كثيرًا من الشروط الاجتماعية للتحضر؛ لكنها أخفقت من حيث الضمير؛ فضميرها متأخر عن علومها. ولهذا علينا أن نرتقي إلى المستوى الاجتماعي العلمي للحضارة المعاصرة، وعلينا أن نرفعها إلى مستوى الضمير الإسلامي الذي لا يزال إنسانيًّا بفعل سلامة مصدر التوجيه (الإسلام) لدى المسلمين.
ولهذا فإن بن نبي كان شديد النقد لكلا التيارين الكبيرين المشكلين للفكر الإسلامي الحديث؛ التيار الإصلاحي الذي يرفع شعار “الأصالة”، والتيار التحديثي الذي يرفع شعار “التنوير”؛ فالأول تتملكه نزعة إخلاص للموروث دون نظرية واضحة في النهضة، والثاني يعيش حالة تقمص للغرب بطريقة جعلته يفقد أصالته، ولا يحصل على فعالية الغرب، لأن منظوره للنهضة تلفيقي، يقوم على التكديس بدل البناء، وتعامل مع الغرب بذهنية الزبون لا بذهنية التلميذ الذي يتعلم ويتجاوز.
– هل أفاد الفكر الإسلامي المعاصر من بن نبي أم تجاهله؟
هذا سؤال كبير وخطير. وأعتقد أن هناك تراكمًا في الوعي بسبب انتشار أفكار مالك بن نبي في أوساط الشباب، ولكن على المستوى المؤسسي فإننا لم نستفد بعدُ من فكره، وذلك لعوامل متعددة:
أحدها: أن أفكار مالك بن نبي ليست أفكارًا عاطفية تقوم على تعبئة الجماهير وتنويمهم بالمطالبة بالحقوق، وإنما هي أفكار توخز الضمير، وتوقظ الوعي، وتربي الفكر على المنطق والسنن، وتدعو إلى البداية بالواجبات لا الحقوق؛ فإن دخول التاريخ يكون من باب الواجب لا الحق كما يقول بن نبي. وهذا مرهق للأنفس التي تعودت الدعة والخمول واللوم والعمل العشوائي والاعتلاء على ظهر الجماهير بتنويمها بالعاطفة.
ثانيها: أن المؤسسات في العالم العربي يهيمن عليها العلمانيون؛ والعلمانية كما نعرف موقف ضدي لكل أصالة ولكل إبداع ولكل قيمة؛ ولذلك فإنهم لم يسمحوا لأفكاره أن تنتشر، وأن تبنى عليها المؤسسات؛ لأن ذلك سيؤدي إلى تقويض المنظور التكديسي الذي يقوم عليه بنيانهم، كما أنه يؤدي إلى تفكيك المنظور الحداثي التقليدي الذي يعادي الاستقلالية والانتماء للأمة؛ فالحداثيون ينطلقون من اللحظة الحداثية ويجعلونها لحظة سرمدية، لا لحظة قبلها (أي التراث) ولا لحظة بعدها (أي طريق ثالث)؛ وهذا في الحقيقة اغتراب كبير تعيشه النخبة العلمانية بوعي منها أو دون وعي. كما أنهم يستبعدون فكره بأحكام عامة قبلية دون قراءة فكر مالك بن نبي قراءة نقدية فاحصة غير متحيزة.
وثالثها: أن الحركات الإسلامية في عمومها حركات نضالية، وجماعات حزبية، تدعو إلى الطاعة والاتباع؛ في حين أن فكر مالك بن نبي فكر منفتح، ليس لجماعة أو شعب أو دولة، وإنما فكر يمكن أن يتبناه كائن من كان، وهدفه صياغة منظور أكثر علمية وأكثر شمولية لتشخيص أمراض الأمة ووصف حلول لها؛ حلول تتطلب تكاتف رجل الفكر، وصانع القرار، ورجل المال، ورجل الأعمال؛ أي أن تندرج في عملية النهضة كلُّ القوى الحية في المجتمع، وفق منظور أرحب لا يقصي أحدًا أيديولوجيًّا ولا وظيفيًّا؛ لأن الأمة تحتاج كل أبنائها وكل طاقاتها.
– في الذكرى الثالثة والأربعين لابن نبي.. هل الإشكاليات الراهنة تجاوزته، أم مازال فكره قادرًا على العطاء والفاعلية؟
أحسب أننا بعد ثلاثة وأربعين سنة من وفاة مالك بن نبي عليه رحمة الله، ما زالت الإشكالات التي طرحها هي جوهر ما يُطرح من إشكالات، وأن فكره مازال قادرًا على العطاء، بل لم يبدأ العطاء الفعلي بعد.
فنحن نعاني مشكلات التخلف والتنمية، ولا نملك منظورًا مقتدرًا على حلها مثل المنظور الحضاري الذي قدمه مالك بن نبي.
ونعاني مشكلة أفكار عويصة، تحتاج إلى منظور مالك بن نبي في فهمها وتفكيك ألغامها وتقديم الحلول لها.
ونعاني من تهميش الإنسان، وتغليب التكديس المادي في عملية التنمية؛ وهي إشكالية عالجها بن نبي بوضوح، ولم نجرب منظوره في حلها بعد.
ونظر إلى الدين باعتباره الوسط الذي تتكامل فيه عناصر الحضارة، ويتشكل فيه البناء الحضاري؛ بما يوفره الدين من أفق نظري، وزاد روحي، وخميرة أخلاقية تعجن فيها لبنات الحضارة؛ وبما يضمنه الدين من أفق ومثل أعلى؛ يتجاوز تضييقات الماديين، واختزالات الروحانيين، ومتاهات اللاهوتيين.
وقدم نظريته في الثقافة؛ التي تعيد للمسلم وحدته في الفكر والذوق والفعل والسلوك، وتُخرجه من شتاته، ومن تناقضات المدارس الجزئية والنظرات الاختزالية والجمود الذي عرفه المسلم طيلة قرون؛ وهذه لم تدرس ولم تطبق بعد.
كما أن بن نبي طرح طريقًا ثالثًا للعلاقة بالغرب؛ ليس طريق المقاطعة، ولا طريق الذوبان في الغرب؛ وإنما طريق يضمن علاقة سليمة مع هذه الحضارة التي تشع على العالم؛ نستفيد منها ونعمل على الخروج من طوقها، بل وتطعيمها بالعناصر الإسلامية، في مستوى التصور والقيم والبعد الروحي؛ الذي يحفظ على الإنسانية إنسانيتها.
لو وجهتم رسالة لمالك بن نبي في ذكراه.. ماذا تقولون له؟
أقول له: إليك يا “شاهد القرن”؛ لم يصر القرآن بعد “ظاهرة” علمية وحضارية نستمد منه التصورات والمفاهيم والمناهج والحلول. أما “وجهة العالم الاسلامي” فلم تحدد بعد بدقة، وما زلنا نتراوح “بين الرشاد والتيه”، بالرغم من أننا “في مهب المعركة”. ولأن “الصراع الفكري” ألهانا عن “القضايا الكبرى”، سعي لأن لا نتجاوز “مشكلة الثقافة” لنقوم بالإعداد من أجل “ميلاد مجتمع” يحقق “شروط النهضة”، وصرنا نعيش “مشكلة الأفكار” بقوة، بفعل هيمنة “أعمال المستشرقين” فكرًا ومنهجًا، وهيمنة مُقلديهم من أبناء أمتنا؛ فتاه “المسلم في عالم الاقتصاد” بعد أن تجاوزته الدول “الافريقية الأسيوية” في الفكرة وفِي التنفيذ، فبقينا في محيط “تأملات” نظرية، ولَم ننتبه بعد لمسؤوليتنا وهي “دور المسلم ورسالته” في تحقيق النهضة ومشاركة الإنسانية تحضرها. وصار كثير من أبناء أمتنا ينفذون أهداف “المسألة اليهودية”، التي أبعدت مشروع “الكومنولث الاسلامي”، واندفع بعض منا يدمر بغداد ودمشق و”مجالس دمشق”، مما جعلنا نتطلع إلى وعي حضاري جديد “من أجل التغيير” والخروج من التخلف.
هذه رسالتي إليك يا أستاذي في ذكراك.