تتميز الشعوب الآسيوية وخاصة اليابانيين بقوة الإرادة والمهنية والإخلاص والانضباط في العمل، فلأدبيات العمل عندهم ثقافة خاصة وفلسفة عميقة يتحلى بها العامل الياباني من جهة والمؤسسات والشركات من جهة أخرى، يبلغ عدد ساعات العمل الإضافي في اليابان 80 ساعة للشهر، وتشمل ربع العمال في اليابان وتتسبب الساعات الإضافية في العمل إلى وفاة أكثر من 2000 شخص كل سنة.
في سبعينيات القرن الماضي أقدم شاب كوري جنوبي يدعى Jeon Tae-il بإحراق نفسه أمام أحد مصانع النسيج احتجاجا على الأوضاع المزرية التى يعيشها العمال والظروف القاسية التى يعملون فيها، الشاب الذي لم يتجاوز 22 من عمره هتف “نحن بشر ولسنا آلات” “we are human not machines”، كانت تلك من ضمن أولى الثورات العمالية التى شهدتها الدول الآسيوية لم تكن تلك الثورة ضد الكسل والخمول وضعف إنتاجية العامل بل كانت ضد الظروف الصعبة التي يعيشها العامل وغياب العناية والرعاية الضرورية له.
تقوم فلسفة العمل عند اليابانيين على قاعدة أن العمل جزء من عقيدتهم الدينية وتعاليم معلمهم وملهمهم الأول “بوذا” لذلك فالعامل الياباني يشعر براحة شديدة وانجاذب نحو العمل بشكل هيستيري، هذه الوضعية تسببت في خلق فجوة كبيرة بين الحياة العملية والحياة الخاصة لليابانيين وأثرت على الإنتاج، الأمر الذي دفع بالحكومة اليابانية إلى تبني سياسة جديدة أطلق عليها “إصلاح نهج العمل” وتهدف إلى مواجهة ظاهرة “كاروتشي” أو الموت من كثرة العمل.
العلاقة بين الموظف والشركة
العلاقة بين الموظف الياباني والشركة علاقة عميقة تمتد جذورها لتشمل الاهتمام الكبير بالعامل وتوفير مستلزمات الحياة الضرورية فالعامل هو الحجر الأساس في نجاح الشركة وتطورها لذلك تشبه هذه العلاقة الروحية.
الشركات اليابانية اخترعت وسائل متعددة للحفاظ على عمالها أوقات الأزمات، حيث تخضع هذه الشركات عمالها للكثير من البرامج التدريبية وتقدم لهم المكافآت كلها، هذا مقابل إخلاص ووفاء من العمال لمؤسستهم حيث يعتبر هؤلاء نجاح المؤسسة وسام شرف لهم وهدف من أهدافهم النبيلة التى يطمحون إلى تحقيقها. يخضع العمال لبرامج تكوينية وتدربيية بشكل دوري لتنمية وتطوير مهاراتهم وزيادة إنتاجيتهم.
تتطور العلاقة بين الشركة وعمالها لتشمل كافة مجالات التكوين والتدريب والرعاية حيث تحرص أغلب المؤسسات اليابانية على توفير خدمة خاصة بالصحة النفسية، وتوفر هذه الوحدة استشارات دورية في مجال التربية النفسية لموظفي المؤسسات حرصا على بقاء الموظف قادرا على تحمل مسؤولياته تجاه المؤسسة التى هو جزء منها.
في مقابل خدمات الشركة ومسؤولياتها يتصف العامل في اليابان بمجموعة من المميزات والصفات التى غرست فيه منذ الصغر والتى تقدس العمل وتجعله جزء من عقيدته، أولى تلك المميزات حب العامل لوظيفته فهذا من أسباب نجاح العامل والمؤسسة إضافة إلى الإخلاص والمهنية والالتزام والانضباط في احترام قوانين المؤسسة والحرص الدائم على نجاح أهدافها فالعامل الياباني يشعر بأن نجاح المؤسسة في تحقيق مكاسبها هو نجاح له. هذه الفلسفة في العمل وهذه الثقافة التي يتحلى بها العامل الياباني هي التى ميزت المنتجات اليابانية وصنعت نجاح منقطع النظير للشركات اليابانية التى ذاع صيتها في أنحاء المعمورة.
النظام الوظيفي وفن إدارة الأزمات
في نظام التوظيف الياباني حينما تواجه الشركات أزمات مالية فإنها لا تلجأ إلي طرد العمال وتقليص الرواتب وغير ذلك من إجراءات التقشف التى تفرضها المرحلة، بل تعمل على مواجهتها بخلق بدائل وظيفية جديدة داخل الشركات، وهذا الإجراء هو جزء مما يعرف بالإحتياط التعبوي لمواجهة الأزمة حيث يتم تحليل وضع الشركة وتحديد نقاط الضعف ومكامن الخلل، وتكون هناك حلول جاهزة لتنفيذها وقت حدوث الأزمة. ولأن الشركات تراهن على قوة واجتهاد عمالها من أجل تحقيق السبق في السوق، فغالبا ما تلجأ هذه الشركات إلى اختراع وسائل متعددة للاحتفاظ بعمالها وقت الأزمات.
نظام الوظيفة في اليابان يختلف اختلافا جذريا عن ماهو عليه في أوروبا وأمريكا. يوفر نظام التوظيف في اليابان عمر وظيفي معين للعمال ويمنحهم امتيازات خاصة وقت الأزمات حيث تتجنب الشركات اليابانية ما يعرف بـDole System، مثلا في أوروبا والولايات المتحدة حينما تواجه الشركات ضغوطات مالية فإنها تلجأ غالبا إلى تخفيض النفقات. وفي الوقت الحالي تلجأ هذه المؤسسات إلى ما يعرف Downsizing، حيث تقوم الشركات بتقليص عدد العمال ويلجأ هؤلاء إلى التسجيل كعاطلين عن العمل للاستفادة من الإعانة الحكومية الموجهة للعاطلين. الإعانة الحكومية للعاطلين عن العمل عالية جدا حيث تصل في بعض الأحيان إلي 90 % من آخر راتب كان يقتنيه العامل، بالتالي مزيدا من تسريح العمال يفضي إلى مزيد من النفقات الحكومية على العاطلين Dole Paymen، وبالتالي قد يؤدي هذا الوضع إلى خلخلة نظام التوظيف وإضعافه حيث سيكون العامل مرتاح وهو يقبض 90% من راتبه السابق دون أي مقابل، وبالتالي سيختار البقاء بدون عمل، وبالتالي فإن نظام Dole Payment لا يشجع العاطلين للبحث عن العمل كما أنه لا يشجع المستثمرين على فتح مشاريع جديدة، فهذه السياسة تشكل عقبة كبيرة في وجه التنمية الاقتصادية ورفع الإنتاجية.
تعتمد Dole Payment على المدخلات الحكومية، في حالة ما إذا كان الاقتصاد يعمل بشكل جيد، تكون المدخلات مرتفعة وتكون الإعانات المقدمة للعاطلين أقل بسبب توفر فرص العمل. لكن بالمقابل حين يشهد الاقتصاد تعثر فإن النتيجة تكون صادمة حيث تنخفض مدخلات الحكومة، وترتفع نسبة البطالة وترتفع معها الإعانة الحكومية للعاطلين عن العمل.
ستكون الحكومة مضطرة لضخ المزيد من أجل استمرار الاقتصاد، وبالتالي فإن Dole System ليست بالسياسة الجيدة.
استطاع اليابانيون تصميم سياسات العمل بشكل فعال و متميز آخذين في الاعتبار ثقافة المجتمع وتقاليده، فقامت فلسفتهم على أن العمل مقدس وهو جزء من ثقافتهم الروحية، لذلك فالعمل عن اليابانيين و إنجاز العمل بجدية وإخلاص وإتقان أمر ضروري لا مناص منه، بهذا الجد والاجتهاد استطاعوا تحقيق النمو والرفاه الاقتصادي وأصبحت اليابان من رواد الاقتصاد العالمي.