الطفولة مرحلة مهمة من حياة الإنسان؛ فيها تتشكل وبصورة كبيرة مداركه وأحاسيسه، وتبدو وبصورة جلية مهاراته وعلامات نبوغه؛ وفوق ذلك، هي مرحلة البراءة والوداعة، ومرحلة التلقائية والعفوية والانطلاقة. إنها الحياة بصورة نقية لم تنطبع عليها بعدُ آثار التعب والإرهاق والمشكلات. وأن يكون في بيتنا طفل فهي نعمة كبرى من الله تعالى، ومسئولية أيضًا.
– الأطفال بهجة في البيت وزينة في الحياة.. يذكّروننا بالحياة في صفائها وبراءتها
– للطفل حاجات متكاملة تتجاوز الجانب المادي إلى الجوانب النفسية والمهارية
– عقل الطفل يعمل بلا كلل، وذهنه حاضر بلا ملل، وأخلاقه صادقة بلا تكلف
هذه النعمة الكبرى والمسئولية العظمى، التي تتجلى في مرحلة الطفولة، تُلقي على الآباء، وعلى المجتمع عمومًا، واجبَ أن يدركوا حقيقة هذه النعمة، وأبعاد تلك المسئولية؛ بحيث يُحسنون التعاملَ معها واستثمارها باتجاه بناء الإنسان بناءً صحيحًا، ورعايته رعايةً متكاملة.
الطفل نعمة
إن من نعم الله تعالى على الإنسان أن يرزقه الذرية، وأن يملأ حياته ببهجة الأطفال وابتسامتهم وبراءتهم؛ فوجود هذه النعمة في حياة المرء يُشعِره بامتداد عمره، ويجعل لحياته معنى! وأما فقدان هذه النعمة فإنه قد يكون سبب شقاء وتعاسة وشعور بالفقد لا يُعوّضه وجود نعم أخرى؛ مثل المال أو المنصب أو الصحة. هذا أمر مشاهَد في دنيا الناس.
وقد لا يلتفت البعض لمعنى هذه النعمة، نظرًا لأن غالب الأسر قد رُزقت أطفالاً، فشيوع الأمر قد يقلل من الإحساس بأهميته.. كما أن الإنسان عادة ما ينظر لما ليس بيديه، لا لما يملكه فعلًا!!
لقد امتن الله تعالى على عباده بنعمة الذرية، وجعلها هبة منه سبحانه إليهم؛ بما يعني أنهم قد رُزقوا هذه النعمة على غير استحقاق منهم. قال تعالى: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: 49، 50).
ولهذا، ليس من الصواب أن يلوم الرجل امرأته على عدم الإنجاب أو على إنجاب الإناث فقط.. فإن كل هذا تقدير من الله تعالى، لا دخل للإنسان فيه؛ وما الناس إلا مجرد أسباب، سواء في الإنجاب أو في سائر شون الحياة، من إنبات الزرع أو إنزال الماء أو غير ذلك، كما عبّرت آيات سورة الواقعة عن ذلك. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 58، 59).
الطفل بهجة
نعم، الأطفال بهجة في البيت وزينة في الحياة؛ لأنهم يذكّروننا بالحياة في صفائها وبراءتها.. وبالزمن فيما هو يستقبل لا فيما هو يودع.. وبشأن الإنسان فيما هو يحلم لا فيما هو يائس، وفيما هو مفعم بالحركة والحيوية لا فيما هو خامل عاجز مثقل!!
والإنسان من طبيعته يحب ما يذكّره بهذه المعاني؛ خاصة إذا تقدم في السن واقترب من مرحلة الشيخوخة. ولهذا نجد تعلق الأطفال بالكبار وتعلق الكبار بالأطفال؛ فكأنما يجد الأطفالُ في هذا التعلق صورة المستقبل الذي يتشوقون للدخول في فضائه، ويجد الكبارُ صورة الماضي الذي يَعْلَق بالذاكرة ويثير فيهم الحنين وبقايا الحكايات والقصص.
الطفل أمانة
إذا كان الطفل نعمة يشتاق إليها كل إنسان، ويشعر بالسعادة عند تحققها، وبالفقد عند غيابها؛ فإن هذه النعمة تُرتب على المرء أمانة كبرى؛ من حيث إعطاء الطفل حقه في القيام على شئونه كما ينبغي، ورعايته كما هو مطلوب، والحرص على كل ما ينفعه وينمي قدراته النفسية والجسدية، ويدفع الأذى عنه.
فلا يليق مع هذه النعمة، أن نقابلها بالجحود أو الإهمال، أو الغفلة وعدم الانتباه لحقيقتها ولِتَفضُّلِ الله تعالى علينا بها. وإنما ينبغي أن نشكر الله تعالى أولاً على ما منحنا من ذرية، وأن نعرف أن الأبناء أمانة عندنا، علينا أن نقوم تجاههم بما نقوم به تجاه سائر الأمانات؛ من الحفظ والصيانة ومنع التلف وغير ذلك.
ولهذا رتَّب الله تعالى حقوقًا كثيرة للطفل؛ بدءًا من حسن اختيار الزوجة، إلى توفير السكن وبذل النفقات، إلى التعهد بالرعاية والتوجيه والتعليم.. خاصة فيما يتصل بالإناث، لِمَا قد يُقابَلن بتجاهل أو سخط..!
فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “مَنْ كَانَ له ثَلاثُ بناتٍ فَصَبَرَ عَلَيهِنّ وأَطَعمَهنَّ وسَقَاهنَّ وكَسَاهُنَّ مِن جِدَتِه [أي مِن كَسْبِه على قَدْرِ سَعَتِه واستِطاعتِه]؛ كُنَّ له حِجَابًا مِنَ النَّارِ يَومَ القيامةِ” (أخرجه ابن ماجه وأحمد).
وعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قال: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُدْرِكُ لَهُ ابْنَتَانِ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ أَوْ صَحِبَهُمَا؛ إِلَّا أَدْخَلَتَاهُ الْجَنَّةَ ” (أخرجه الحاكم في المستدرك).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهِنَّ وَسَرَّائِهِنَّ وَضَرَّائِهِنَّ؛ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُنَّ”. قَالَ رَجُلٌ: وَابْنَتَانِ؟ قَالَ: “وَابْنَتَانِ”. قَالَ رَجُلٌ: وَوَاحِدَةٌ؟ قَالَ: “وَوَاحِدَةٌ” (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف).
الطفولة حاجات متكاملة
ومِن شكر نعمة الأطفال، أن ندرك أن الطفل له حاجات متكاملة تتجاوز الجانب المادي، إلى الجوانب النفسية والمهارية. فدور الأبوين تجاه أبنائهم أكبر وأعظم من مجرد توفير حاجات الطعام والشراب والدواء والكساء وغير ذلك من الماديات؛ وإنما عليهما بجانب ذلك رعاية الأطفال رعاية نفسية وتربوية ومهارية؛ فيحرصان على نفسية الطفل من أن تتعرض للانكسار أو التشتت، ويعملان على تزويده بالآداب والمعرفة، وتنمية ما لديه من مهارات. ومن أهم ما يتعلمه الطفل ما يتصل بأساسيات دينه، في الاعتقاد والسلوك والأخلاق. وخير ما تعيه ذاكرته في هذه السن المبكرة القرآن الكريم.
وهنا، نهمس في أذن كل زوجين يتبعان أسلوب الشقاق في حياتهما، أن اتقوا الله في أطفالكم، وجنبوا أبناءكم ما يكون بينكم من خلاف، ولا يكون انتصاف أحدكم من صاحبه على حساب ما بينكم من أطفال، حتى بعد الطلاق.
للأسف، لقد تحول الأطفال، كما نشاهد كثيرًا، إلى “ورقة ضغط” يستقوي بها كل طرف من الزوجين على صاحبه!
بجانب هذا، على الأبوين أن يحسنا تعليم أبنائهما، وأن يعملا على اكتشاف ما لديهم من مهارات وطاقات، واستثمار ذلك بالتدريب والدورات؛ فإن الأبناء هم خير استثمار للآباء، وحسن تربيتهم هو خير هدية يقدمها الآباء للمجتمع.
قد تكون لدى الطفل موهبة في الحفظ أو الرسم أو الإلقاء أو الرياضة أو غير ذلك، ولا يتم الكشف عن هذه الموهبة إلا في جو نفسي هادئ متزن، وفي بيئة تعليمية متكاملة لا تعتمد التلقين فقط، خاصة في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي.
الطفل مدرسة
نعم، الطفل مدرسة لأبويه! منه يتعلمان الأخلاق في فطرتها وصورتها الأولى، بل منه يتعلمان التفكير في اندهاشته وفي تساؤلاته! وثمة دراسات تلفت النظر إلى ما يتمتع به الطفل من عقل فلسفي. فما الفلسفة إلا القدرة على امتلاك الدهشة في المعرفة والاستكشاف، والقدرة على التساؤل، لاسيما التساؤلات التي ترتاد مناطقَ جديدة غير مطروقة!
فالطفل “إنسانٌ أخلاقيّ” بامتياز؛ لم تتلوث فطرته، ولم تصبه تراكمات الحياة بالتلون والمراوغة والغش، وغيرها من الأخلاق والسلوكيات المذمومة.. كما أن الطفل “إنسان مفكر” بامتياز؛ قادر باستمرار على طرح التساؤلات، حتى لَيملّه الكبارُ أحيانًا- وعلى امتلاك الدهشة تجاه ما قد يبدو عاديًّا.. ومن ثم، فعقله يعمل بلا كلل، وذهنه حاضر بلا ملل، وأخلاقه صادقة بلا تكلف!
وهذا ما أقصده من أن الأطفال مدرسة للكبار.. للأبوين ولكل من يتعامل معهم في دوائر المجتمع.
وبعبارة موجزة: الأطفال نعمة كبرى، ومسئولية عظمى.. والآباء، ومعهم المجتمع، مطالبون ببذل أقصى الجهد لرعاية هذه البراعم؛ حتى تتفتح وينتشر عبيرها في قابل الأيام وفي مختلف مجالات الحياة..