ما المعنى العام لسورة القدر؟
يخبرنا الله تعالى في هذه السورة أنه أنزل القرآن الكريم في ليلة القدر؛ أي بدأ نزول القرآن فيها بنزول الآيات الأولى من سورة العلق، أو نزل القرآن جُملةً من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مُنجَّمًا على النبي ﷺ، بحسب الوقائع، في ثلاث وعشرين سنة. و”ليلة القدر” هي ليلة التشريف والتعظيم، إذ جعلها الله محلاً لنزول القرآن فيها، ولتنزل رحماته ومغفرته لعباده الصالحين.. أو هي ليلة التقدير؛ لأن الله تعالى يُقدِّر فيها لعباده ما يشاء تقديره من الأمور والأحكام. وقيل أيضًا في تسميتها: لأن العمل الصالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولاً ومضاعَفًا؛ فالعمل الصالح في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقد أمر النبي ﷺ بتحري ليلة القدر والاجتهاد فيها. ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد مرفوعًا: “فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر”. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح)، بعد أن ذكر اختلاف آراء العلماء في تعيين ليلة القدر: “وأرْجَحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين”. وقد أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة- كما جاء في تفسير البغوي- ليجتهدوا في العبادة لياليَ رمضانَ طَمَعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذرا من قيامها.
كلمات ووقفات في سورة القدر
تضمنت سورة القدر عددًا من الكلمات الدالة على ما ترمي إليه السورة من معانٍ وأهداف وغايات؛ مما نحتاج إليه في ضبط تصوراتنا وتصحيح خطواتنا. ومن هذه الكلمات: إنزال القرآن.. القدر.. السلام. ــ إنزال القرآن: افتتحت السورة ببيان أن القرآن الكريم قد أُنزل من قبل الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}؛ فالقرآن كلام الله مُنَزَّل من عنده، وليس كلام بشر.. وهو رسالة نازلة من السماء وليست صاعدة من الأرض والواقع؛ كما يزعم الماديون ومنكرو الوحي. وقد ذكر ابن عاشور أن من مقاصد السورة الكريمة: “التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى. والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلاً من الله تعالى”. وإذا كان القرآن منزَّلاً من عند الله، وكلامَ الله، ورسالتَه إلى خلقه؛ فإنه مُتصِفٌ بما يتصف به المتكلِّمُ سبحانه من التنزيه والتقديس؛ فـ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42). وهو كتاب محفوظ من التبديل والتحريف والتناقض: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82). هذا ما يجب أن نعتقده في القرآن الكريم، بحسب سورة القدر التي تؤكد ربانية مصدره ومنبعه.. وإذا كان الأمر كذلك، فواجبنا مع القرآن الكريم هو الإيمان بكل ما فيه والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه؛ وليس مجرد تلاوته باللسان تلاوةً لا يتبعها عمل ولا يترتب عليها سلوك. قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123، 124). وقال ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة: 121): “يتبعونه حق اتباعه”. وقال عبد الله بن مسعود: “كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آياتٍ، لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيَهنّ والعمل بهنّ”. ــ القَدْر: أما الكلمة الثانية التي نقف معها فهي كلمة “القدر”، كما هو عنوان السورة والذي تكرر في ثلاثة مواضع منها. و”القدر”، كما سبق الإشارة، من: الشرف والمكانة والعظمة؛ فيقال: فلان ذو قدر. وسُمِّيت ليلة القدر بذلك، لعظم قدرها وشرفها. و”القدر” أيضًا من: تقدير الأمور وقضائها؛ لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء تقديره لعباده. وما أحوجنا أن نلتفت لما يومئ إليه المعنى الثاني، بحيث تجيء أفعالنا على القَدْر؛ أي أن تكون مساوية للمراد، دون زيادة أو نقصان. ولن تأتي أفعالنا على القَدْر- على مستوى الأفراد أو الأمة- إلا إذا تخلصنا مما نحن غارقون فيه من العشوائية والارتجالية وعدم الانضباط، ومن المبالغة أو التهوين، ومن التباطؤ حيث ينبغي المسارعة، أو الاندفاع حيث يجب التمهل..! ــ السلام: ليلة القدر هي ليلة السلام؛ وهذا يشمل: السلام من الله تعالى: بما يحمل من رحمة ومغفرة وبركة ورضوان.. ولعل هذا ما يجعل بعض العلماء يرى الوقف في السورة على كلمة “سلام”؛ فيكون المعنى: تتنزَّل الملائكة بالسلام (كما جاء في “زاد المسير” لابن الجوزي). والسلام من الناس: بين بعضهم البعض، بحسب ما جاء في الحديث الذي أخبر عن رفع ليلة القدر بسبب تلاحي رجلين.