بعد أن كانت المسألة الدينية -شأنها في ذلك شأن المسألة الثقافية- تحتل موقعا “هامشيا” في أغلب المنابر الثقافية والإعلامية ، أصبحت تتبوأ الآن موقعا متقدما ومحوريا، وتتصدر أولويات العديد من تلك المنابر؛ بل تكون هي عنوان الغلاف الأبرز والرئيسي في أحيان كثيرة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يعد “ما هو ديني” محصورًا في “دائرة ثقافية” ضيقة، وإنما تحول إلى شأن مركزي لدى أغلب “الدوائر الثقافية” الغربية والعالمية أيضا.
إشكالات واحدة ومقاربات مختلفة
ويعلمنا الاستقراء الدقيق للتاريخ الحديث والمعاصر أن أغلب الإشكالات والأسئلة المعرفية والوجودية المتداولة في المشهد الثقافي العربي والإسلامي -المشهد الثقافي لدول الجنوب / والأطراف- هي تقريبا نفسها المتداولة في دول الشمال / والغرب / والمركز.. برغم أن المقاربات قد تكون مختلفة لنفس الإشكالات، وهذا شأن إشكالات / ومفاهيم من قبيل الحداثة، وما بعد الحداثة.
وبما أن النقاش الحالي في الغرب ينال بشكل أساسي المسألة الدينية ببعديها الديني Le Religieux والروحي Le Spirituel، فإننا سنشهد -بالتأكيد والاستقراء- انتقالا، وبوتيرة سريعة، لهذا النقاش إلى دائرة دول الجنوب، خاصة دول العالم العربي والإسلامي.
ولعل الأدوار الجديدة والمحورية التي ينبغي أن تضطلع بها المؤسسات الفكرية والعلمية في العالم العربي والإسلامي تتمثل في ملاحقة هذا المنعطف، وتقديم مقاربات دقيقة وعميقة لمختلف القضايا والإشكالات التي تؤرق العقل والوجدان العالميين.
ومن هنا تكمن، في رأينا، أهمية مواكبة هذا النقاش، وضرورة رصد هذا الانتقال، وذلك المنعطف الذي تمر به الإنسانية.
وهذا “المنعطف الإنساني” الذي تجتازه البشرية حاليا نتيجة منطقية وحتمية لسيادة النموذج الغربي الذي استطاع أن يحقق الرفاهية المادية لفئة من الناس، خاصة في بلدان الشمال، لكن في المقابل لم يستطع هذا النموذج أن يتوجه إلى الإنسان في أبعاده المختلفة: المادية والروحية والثقافية، بل كان تركيزه كبيرا على البعد المادي [وهو ما جعل أحد المفكرين الغربيين -هربرت ماركوز- يطلق على الإنسان الذي يبشر به هذا النموذج الغربي لفظ “الإنسان ذو البعد الواحد” (L’HommeUnidimensionnel) أو “الإنسان العددي” (L’Hommenumérique) وفق تعبير مفكر غربي آخر].
من ثقافة اللامعنى.. إلى المعنى
إن هذا المنعطف يدل على أن قسما كبيرا من الأسرة البشرية يريد أن يخرج من نفق “ثقافة اللامعنى” (كما هو توصيف الفيلسوف الفرنسي المسلم روجي جارودي)، ومن هنا كانت العودة إلى الدين باعتباره مصدرا أساسيا لإنتاج المعنى (le sens)، وسبيلا إلى إضفائه على الكون والحياة والإنسان.
كما أن “المعنى”، بشكل خاص، سبيلٌ مهم إلى إحداث توازن في الكون بكل مكوناته؛ لأنه إذا توارى المعنى عن حياة الإنسان فإن العالم معرض للسقوط في الفوضى واللاتوازن والاضطراب.
والإنسانية تجد في المنظومة الدينية إجابات عن مختلف الأسئلة الوجودية التي تلاحق الإنسان باستمرار؛ فهذه الأسئلة سابقة عن وجود الإنسان، وبالتالي فإن عقل الإنسان قاصر، بل عاجز عن تقديم إجابات معقولة بالاقتصار فقط على أطر معرفية تتجاوزها تلك الأسئلة ولا يتجاوزها هو.
وتمثل منظومة الإجابة عن الأسئلة النهائية (les finalités) التي يقدمها الدين الإطار النظري الذي يحمي حياة الإنسان من السقوط في (المعيشة الضنك) [الفوضى، اللاتوازن، الاضطراب]، وما الإعراض عن ذكر الله إلا الوجه البارز للإعراض عن الاستهداء بالإجابات التي يقدمها الدين على تلك الأسئلة.
مما سبق، يمكن القول بأن إعادة المعنى والتوازن والانسجام للكون والحياة والإنسان، من مقاصد الدين الأساسية والمحورية.
وإذا كان الدين كما سبق، يقدم الإجابة عن الأسئلة النهائية (الغايات) كإطار نظري يحمي من التيه التصوري والانحراف العقدي… وإذا كان المعنى من أبرز مقاصده… فإن الوحي هو “البرنامج الكلي” الذي يقترح مجموعة من القيم والمبادئ والمثل العليا، والتي تحمل في بنيتها اللغوية والدلالية مقدرة على توليد نماذج قادرة على إلحاق الرحمة بالعالمين.
وفي الذكر الحكيم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] والله تعالى هو {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:64]… وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين [أي الذين ينطلقون من الرؤية المقابلة للرؤية التوحيدية]، قال: “إني لم أبعث لعانا. إنما بعثت رحمة” رواه أحمد ومسلم. وفي الحديث أيضا: “يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة” [رواه الحاكم وصححه على شرط البخاري ومسلم].
فإذا كان المعنى هو “النظرية”، فإن الرحمة هي “التطبيق”، وإذا كان من مقاصد الدين إضفاء المعنى على الحياة، فإن من مقاصد الوحي إلحاق الرحمة بالعالمين؛ فبالمعنى تتحقق الرحمة.
من هذا المنطلق كان توجيه الاهتمام شطر التفكير في كيفية تدبر القرآن (المنهاج) من أجل إعادة المعنى للحياة وإلحاق الرحمة بالعالمين.. فهو من الشواغل المعرفية الأساسية في عصرنا الحاضر بشكل خاص.. بل إن إعمال النظر في سبل التعامل مع الوحي لهو -بحق- من أبرز الواجبات الفكرية التي تحتاج إلى تفكير مُلِّحٍ.
بين مقاصد الدين ومقاصد الوحي
ولن يؤتي “إعمال النظر في سبل التعامل مع الوحي” كله إلا بوضع مناهج التدبر على مشرحة البحث والتحليل، وربطها بمقاصد الدين (المعنى) ومقاصد الوحي (الرحمة).. فقد أثبتت التجربة الإسلامية التاريخية (الحضارية) أن المسلمين عندما استرشدوا بتلك المقاصد استطاعوا أن يبنوا حضارة أسعدت الإنسانية لقرون طويلة.
لكن أتى على المسلمين حين من الدهر… انفصلت فيه مناهج التدبر عن مقاصد الدين والوحي، فتحولت المناهج جراء ذلك إلى غاية في ذاتها، برغم أنها ليست ثابتة إنما تتطور باستمرار.. وكان من المفروض أن تكون خادمة لـ (المعنى) و(الرحمة)؛ لأن مدارها عليهما معا.. وأن يتم استيعاب هذه المناهج، ثم تجاوزها كلما نما السقف المعرفي واختلفت الأسئلة التي يتم استصحابها أثناء عملية تدبر الوحي.
ومع مرور الوقت تحولت تلك المناهج إلى مسلمات من الصعب مساءلتها وبالأحرى تجاوزها! فتعطلت آليات ومناهج الحوار مع الوحي من أجل التدبر.
كل ما سبق يقتضي ردم المسافة التي تفصل بين الإنسان وبين الوحي، وإزالة الحجب الكثيفة التي تحول دون تدبره، في أفق الوصول إلى إعادة المعنى للحياة والرحمة للعالمين.
بين “دوائر الإمداد” و”مجالات الاستمداد”
من الطبيعي أن تكون مناهج تدبر القرآن مرتبطة ارتباطا عضويا بـ (مجالات الاستمداد) وبـ (دوائر الإمداد)، وأيضا بما بينهما من علائق (علائق تتسم بالمرونة وليس بالصرامة، علائق فضفاضة)… وإن التحديد الدقيق للمجالات والدوائر يفرز في النهاية نوعية وطبيعة مناهج تدبر القرآن الكريم.
فعلى سبيل المثال، إذا كانت “دائرة الإمداد” هي الدائرة الإسلامية (التشكيلة الحضارية الإسلامية) فإن “مجالات الاستمداد” ستتوجه بشكل رئيسي إلى “المجال الفقهي” و”المجال الأصولي” و”المجال التشريعي”: (الاستمداد الفقهي، الاستمداد الأصولي، الاستمداد التشريعي)، وكذا كل المجالات التي تخص الجماعة المسلمة وتتعلق بنظامها كما بتنظيمها.
أما إذا كانت “دائرة الإمداد” هي الدائرة الإنسانية الواسعة فإن “مجالات الاستمداد” ستتوجه بشكل أساسي إلى “المجال القيمي” و”المجال الوجودي”… وإلى كل المجالات التي تتعلق بـ “نفخة الروح” التي نفخها الله تعالى في الإنسان مطلقِ الإنسان {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29].
وفي كل الأحوال لابد من استحضار واستصحاب المشاكل والأزمات والمعاناة التي يعيشها المسلم والإنسان في واقعه وعالمه؛ لمساءلة الوحي عنها والحوار معه بشأنها.
بين استنطاق النصوص وتثوير الدلالات
إذا كان -كما سلف- إلحاق الرحمة بالعالمين من مقاصد الوحي الرئيسة فإن من مستلزمات ذلك أن تكون نصوص الوحي ومشاهده قادرة على توليد نماذج معرفية تهدي الإنسان للتي هي أقوم، وهذه النماذج لن يُهتدى إليها إلا بعمليتي الاستنطاق والتثوير (التدبر والترتيل): يقول الإمام علي رضي الله عنه: (ذلك القرآن فاستنطقوه)، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ثوروا القرآن).
والاستنطاق سابق عن التثوير؛ لأن الأول مرتبط بـ”منظومة الأسئلة” (مثلا: الفقهية التشريعية أو القيمية الوجودية)، أما الثاني فمرتبط بـ “حقل الدلالات والمعاني”.
ونرى أنه من الأهمية بمكان -في هذا الصدد- الإشارة إلى ثلاثة مستويات من تدبر النصوص والمشاهد، في أفق استنطاقها ثم تثويرها:
مستوى النظر اللغوي – اللسني: بمعنى أن النصوص والمشاهد لها دلالات لغوية (لِسنية) وتاريخية (التفاصيل التاريخية خاصة في المشهد القصصي).
مستوى النظر الدلالي الظاهر: يعني أن هناك نصوصا ومشاهد كانت دلالاتها ومعانيها كامنة، وبفضل الاستنطاق والتثوير انتقلت من حالة الكمون إلى مقام الظهور.
مستوى النظر الدلالي الكامن: أي أن هناك نصوصا ومشاهد لا تزال دلالاتها ومعانيها كامنة، وتحتاج إلى الاستنطاق والتثوير لإخراجها من حالة الكمون إلى مقام الظهور [ما يمكن تسميته بتدفق المعاني والدلالات].
كانت تلك بعض الإشارات الأولية والمركزة أردنا من خلالها الإشارة إلى أهمية إعادة النظر في مناهج تدبر القرآن الكريم حتى تكون في مستوى الإجابة على تحديات الإنسان المعاصر، والذي بدأ يبحث في الدين عن معنى لحياته ووجهة لوجوده الذي أصبح مهددا بفعل النماذج التي تريد أن تفصله عن “السماء”.
جواد الشقوري5>