منذ مطلع القرن التاسع عشر بدا واضحا أن العالم الإسلامي يعاني مأزقا حضاريا كشف عنه قدوم الاستعمار الغربي واحتلاله بلدان عديدة، الأمر الذي فرض معه تحديا أساسيا متعلقا بكيفية النهوض واللحاق بالغرب الذي سبقنا أشواطا في مضمار الحضارة، وقد اختلفت أنماط الاستجابة على هذا التحدي فتوزعت التيارات الفكرية في العالم الإسلامي إلى ثلاث تيارات:
التيار السلفي: الذي رأى أن التشبث بالتراث ومقولاته، وتنقية العقيدة والممارسات الإسلامية مما شابها من تحريفات كفيلة بالخروج من هذا المأزق، وقد تركز هذا التيار في شبه الجزيرة العربية واليمن.
التيار التغريبي: الذي تشكل على يد نفر من المفكرين المسيحيين الشوام وبعض المصريين ورأى أن محاكاة الغرب واقتفاء أثره السبيل الأوحد لتجاوز المأزق.
التيار الإصلاحي: الذي استند إلى القيم والمفاهيم الإسلامية الأساسية وأراد التوفيق بينها وبين العصر، فأنتج توليفة فكرية فريدة تمزج ما بين السلفية بما تعنيه من عودة إلى الأصول النقية وبين الأصول الفكرية للحضارة الغربية التي لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية.
وإلى هذا التيار الأخير ينتسب عبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) الذي يحتل مرتبة متقدمة فيه حتى يمكننا أن نعده ثالث ثلاثة من الإصلاحيين الأعمق تأثيرا على بنية الفكر الإسلامي النهضوي وهم: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، ولكن بينما آمن الافغاني وربما عبده أن علة التأخر علة سياسية تتمثل في وقوع العالم الإسلامي في قبضة الإمبريالية الغربية، استقر رأي الكواكبي على أن التأخر محصلة عوامل داخلية تفاعلت فيما بينها لتؤدي إلى تردي العالم الإسلامي، وفي مقدمتها العوامل الدينية التي أفرد لمناقشتها معظم فصول كتابه (أم القرى) الذي تناول قضية الإصلاح الديني والاجتماعي.
الدين وإشكالية التقدم والتأخر
ما كان بمقدور الكواكبي أن يقارب قضية الإصلاح الديني من دون أن يقدم تعريفا لمفهوم الدين وعلاقته بإشكالية التقدم والتأخر، وكان ذلك أول ما اختصه بالبحث في كتابه أم القرى، وفي تعريفه للدين يذهب إلى أنه: “إدراك النفس وجود قوة غالبة تتصرف في الكائنات، والخضوع لهذه القوة على وجه يقوم في الفكر”
والدين لدى الكواكبي على أقسام: فهو إما دين صحيح وإما دين فاسد عن أصل صحيح، وإما دين فاسد عن أصل باطل وهذا الفساد قد يكون: فساد زيادة أو فساد نقصان أو فساد تحريف وتخليط بإقحام أشياء ليست من أصل الدين تطمس أصوله.
وفيما يعتقد الكواكبي فإن فساد الدين بكافة أنواعه يرجع إلى أصلين هما؛ الإشراك بالله تعالى، والتشدد في الدين، وهناك علاقة قوية بين الدين وبين الترقي فالدين الصحيح هو وحده الذي يكفل لأهله الترقي، وإذا فسد الدين فإنه يأخذ بيد أهله نحو الانحطاط، والإسلام بوصفه دينا سماويا قد أصابه ما أصاب الأديان الأخرى بفعل هذين الأصلين، فالدين الذي يؤمن به المسلمون المتأخرون لم يعد هو الدين النقي الذي آمن به المسلمون الأوائل بل هو دين فاسد أدى بهم إلى الانحطاط.
مظاهر الفتور الديني
وانطلاقا من فرضية أن ما يؤمن به المسلمون المحدثون هو “دين فاسد” راح الكواكبي يعدد أوجه ومظاهر الفساد أو ما أسماه “الفتور الديني” والتي أجملها في العناصر التالية:
– القواعد الاعتقادية والأخلاقية: والتي تمثلت في سيادة العقيدة الجبرية التي جعلت الأمة جبرية باطنا قدرية ظاهرا، والحث على الزهد في الدنيا والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة، والأقدام على عظائم الأمور، وكالترغيب في أن يعيش المسلم كميت قبل أن يموت، وهي قواعد “مفترات، مخدرات، مثبطات، معطلات، لا يرتضيها عقل ولم يأت بها شرع”.
– شيوع التصوف: حمل الكواكبي بشدة على التصوف كما مارسه متصوفة زمانه الذين شوشوا على العامة واستولوا على الدين، وأرجع ذلك إلى تطلع هؤلاء إلى مقام العلماء السامي “فتحيلوا للمزاحمة والظهور بمظهر العلماء العظماء بالإغراب في الدين وسلوك مسلك الزاهدين ومن المعلوم أن يلجأ ضعيف العلم إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر وكما يلجأ قليل المال إلى زينة اللباس والأثاث”
أما كيف شوش هؤلاء الدين فهذا برأيه تم عن طريق تأويل القرآن بما لا يحتمله محكم النظر الكريم، وبزعم وراثة أسرار أدعوها وإدخالهم البدع والترهات إلى ممارساتهم الصوفية نقلا عن اليهودية والمسيحية. وللأسف أصابوا نجاحات كبيرة فأصبحوا المقربين من السلاطين وقامت لهم أسواق في الحواضر الإسلامية، وكان من نتيجة ذلك أن ضاق على العلماء الخناق وحرموا المناصب والأرزاق والتبس الدين على العامة وتشوشت العقائد.
– ظهور طبقة “العلماء الرسميين”: وهم ليسوا بعلماء كما يذهب الكواكبي، وإنما هم المقربون من الأمراء وممن يعهد إليهم بالوظائف الرسمية وتسبغ عليهم الألقاب بهتانا وزورا، وجلهم من الجهال الذين لا يحسنون قراءة نعوتهم المزورة، والذين يحاربون الله جهارا، وكيف لا وهم لا يعارضون القوانين التي تحرم ما أحل الله، ولا يتورعون عن ترأس هيئات لا تحكم بما أنزل الله، ويسوغون للحكام نبذ الشورى؛ ولهذا فلا نفع يؤمل من هؤلاء الذين يشترون بدينهم دنياهم، ويقبلون يد الأمراء لتقبل العامة أيديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على الضعفاء، ومن ثم يخلص الكواكبي إلى أن “أفضل الجهاد في الله الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة، وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين؛ حتى إذا رأى الأمراء انقياد الناس لهؤلاء أقبلوا هم أيضا عليهم رغم أنوفهم. وأذعنوا لهم طوعا أو كرها”.
– ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو سبب رئيس من أسباب الفتور كما يؤكد الكواكبي، لأن شريعتنا على عهد السلف الصالح كانت سمحاء واضحة المسالك، معروفة الواجبات والمناهي، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة لكل مسلم ومسلمة، ثم شغلنا شأن التوسع فخصصنا لذلك محتسبين، ثم دخل في ديننا أقوام ذوو بأس ونفاق أقاموا الاكتساب مكان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم في الجباية وآلتها التي هي الجندية فقط، فبطل الاحتساب وبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا كان الكواكبي قد شخص مشكل الفتور الدين وبين أسبابه إلا أنه لم يغفل عن وضع برنامج إصلاحي يروم إلى إزالة هذا الفتور، وقدم في ذلك مقترحات عديدة من: قبيل فتح باب الاجتهاد، ونبذ الخلافات المذهبية الفرعية، وضرورة تجسير الفجوة بين الدين والعلم الحديث، غير أن تطبيق ذلك كله كان منوطا بتحقق شرطين أولين:
– الأول: إصلاح التعليم الديني، وهي من أهم ما عول عليه لإصلاح المجال الديني، حيث افترض أن الإكثار من المدارس كفيل برفع الوعي، وطالب بضرورة إصلاح مناهج التعليم الديني وتيسيرها واختصارها ليسهل تحصيلها في مدة معقولة مما يتيح للطالب أن يتعلم علوما أخرى نافعة إلى جوار العلوم الدينية، وذهب إلى مدى أبعد في ذلك حيث اقترح أن تكون المتون التعليمية على ثلاثة مراتب: بسيطة ومتوسطة وعالية بحيث تقوم هذه المؤلفات مقام مطولات الصوفية، ويكون المعلمون كذلك على مراتب أعلاها الفضلاء المتبحرون في الدين، ثم مدرسو المدارس الدينية المتخصصة، ثم مدرسو المدارس العمومية والمساجد، وأخيرا الوعاظ والأئمة الذين يرشدون العامة.
والثاني: الدعوة إلى إنشاء مؤسسة تتولى الشأن الديني، حيث افترض الكواكبي حاجة الأمة إلى إنشاء جمعية إسلامية عالمية سلفية معتدلة المشرب تتولى الشأن الديني، وهي تتمتع بالاستقلال ولا تخضع لأي حكومة إسلامية وليس لها تعلق بالشئون السياسية، وتتحدد أعمالها في: نبذ كل زيادة وبدعة في الدين، وتعليم الناشئة وتهذيبهم، والدعوة إلى الحجر على من يتصدى للتدريس والإفتاء والوعظ من غير علم بدون أن يكون مجازا من هيئة علمية، إنشاء جمعية احتسابية في كل قرية ومدينة تقوم بالنصيحة للمسلمين بدون عنف والمحافظة على الأخلاق الدينية.
من كل ما سبق يمكن القول أن الكواكبي قدم مقاربة شاملة لقضية إصلاح المجال الديني شملت تحديد مظاهر الخلل وطرح سبل العلاج.