قد يبدو مصطلح “التربية الفكرية ” للوهلة الأولى، في نظر البعض مصطلحا متناقضا ينتمي إلـى حقليـن متغايرين، لا صلة بينهما فالتربية تتصل بإصلاح النفس وتهذيب أخلاقها، أما سلامة الفكر فشرطها إصلاح العقل وتقويم أدواته التحليلية والمنهجية، فما وجه العلاقة بين هذين المجالين؟
في كتاب ” الاتصاف بالتفلسف .. التربية الفكرية ومسالك المنهج ” والصادر عن مركز “نهوض“ يقدم لنا الدكتور عبدالرزاق بلعقروز وصفة تعيد قنوات الاتصال بين القلب والعقل، استدعى فيها المعاني الروحية النافعة لعلاج أمراض الفكر والنفس، وما آفة عصرنا الذي بات يسـمى بـ “عصر ما بعد الأخلاق” إلا استحكام الانفصال والقطيعة بين ملكات الإنسـان النفسـية والروحية من جهة، وملكاته العقلية والفكرية من جهة ثانية. فصار الإيمان مسـألة شـخصية تختص نفسـها بمملكـة القلـب ولا تخضع لمعيار خارجي، ولا يشـهد لها شـاهد حق إلا نفسها وشعورها، أما العقل فصارت مهمته استكشاف نظام الأسباب الذي يحكم الظواهر الموضوعيـة، دون أن يـورث ذلك الـذات عبرة أخلاقية، أو جوابا عن أسـئلة ماذا؟ ولماذا فضلا عن أن يورثه خشية وخشوعا وإذعانا للخالق المدبر.
ولأن النفـس الإنسـانية لا يمكن أن تقنـع بالبقـاء بلا هداية أخلاقية ولا عزاء روحي فقد شـهدت فلسـفة الأخلاق في الفضـاء الغربي نموا في نقاشـات العقل العملـي، واسـتخرجت من الفلسـفات قديمها وحديثهـا صيغًا للعيـش، توفِّر الحد الأدنـى مـن المعنـى والرجـاء والعزاء فـي الحياة المعاصـرة. غيـر أن مملكة العقل العملي – منذ كانط – فَقَدت رسـوخها واستقرارها على أرضية العقل المحض، فلم يعُد لها سند من الغيب أو الحق المطلق، بل أحلت المطلق داخل الضمير الإنساني.
ولـم تلبث هـذه الصيغة الجديدة حينًا مـن الوقت حتى أخـذت بالتحلُّل والتفكُّك، مستسـلمة ً لسـيرورات الرغبة النشـطة ونـوازع الأَثَرة والاستهلاك حتى استبدت بالإنسان الحديث ضروب ُ الوعثاء والشتات الأخلاقي.
وإذا كان هـدف الفكـر هـو إصابة الحق، والعمل بمقتضاه بمـا ينفع الناس، فإن شروط تحقيق ذلك مرهونة بتحرُّر الذات المفكِّرة من جملة من العوائق والصوارف النفسية والاجتماعية والمعرفية. فالفكر لا يحلِّق في فراغ بل يعتريه آفات الجمود والكسـل، وقد يستسـلم لما اسـتقر حوله من طباع ثقافية وعادات فكرية خاطئة، أو ينحـرف بأغراضه تلبية لأهـواء نفسـية اسـتبدت بصاحبه كبرا أو حسـدا أو شرها للسلطة. ومن ثم فإن إطلاق إمكانات الفكر وتصويب مقاصده مشـروط بتحريره من هذه العوائق والصوارف.
فـي هذا الكتاب، يأخذ بأيدينا وأعيننا أسـتاذ فلسـفة المعرفـة والقيم في جامعة سـطيف 2 بالجزائـر الدكتـور عبد الـرزاق بلعقروز، فـي تدريب فلسـفي وروحي وأخلاقـي يبـدأ من تشـخيص معوقات التربية الفكرية، وسـبيل تجاوزهـا. وبعد أن يُحكـم المؤلف إطـاره المنهجي الجامع بين أسـئلة المعرفة والقيـم، وأنظمة العلم والأخلاق، ينطلق إلى تنزيل هذا المنهج على مباحث الفلسفة الأخلاقية المعاصرة والفكر الإسلامي شارحا ومصوبا ومنتقدا ومؤسسا لإمكانية الانعتاق من أسر ثقافة ما بعد الأخلاق.
عُـرف الدكتـور عبدالرزاق بلعقروز باشتغاله الثري بمبحث فلسفة القيم والأخلاق ومايتصل بها من أسئلة المعرفة والعلوم الاجتماعية وأسئلة الدين والحداثة والفكر المعاصر . وقد صدر له حتى الآن 14 كتابا في هذا الباب كما أسس وترأس عدد من الجمعيات والمشاريع الفلسفية التي تدور في فلك هذه المباحث.
إن مجرد الاطلاع على مراجع هذا الكتاب من شأنه أن يحيط القارئ علما بسعة مصادر المعالجة التي يقدمها الكتاب الذي ينشـط فـي تثوير الإرث الأخلاقي والروحي الإسلامي وإبـراز راهنيَّتـه في الجـدل الفلسـفي والأخلاقـي المعاصر في تفاعل منفتح وأصيل في آن معا.