تثير العلاقة الزوجية أسئلة ممزوجة بالحيرة الشديدة، خاصة لدى المقبلين على الزواج. ومنشأ تلك الحيرة هو سعيهم إلى التوفيق بين شكل العلاقة الزوجية كما يروج لها الخطاب الوعظي من فوق المنابر، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وبين تجليات العيش في ألفية ثالثة تؤطرها المقاربات الحقوقية، وتزايد نسب التعلم والالتحاق بالوظائف المختلفة في صفوف الفتيات، بالإضافة طبعا إلى ما تطرحه الحركات النسوية من رؤى وتصورات ومطالب، تتراوح بين الاعتدال والتطرف المقيت.
كيف السبيل إذن إلى تقريب وجهات النظر، وتبديد المخاوف بشأن إحدى أكثر العلاقات الإنسانية حضورا في التداول اليومي، شفهيا كان أم كتابيا، على مدار التاريخ؟
يستأنس خطيب المنابر بنماذج من بيت النبوة والسلف الصالح، لتقديم إطار يصلح برأيه لبناء عش الزوجية. وداخل تلك النماذج يحضر التوجيه القرآني، والأحاديث التي تجمع بين أقوال النبي ﷺ وأفعاله. وقد يميل الخطيب إلى قصص من التاريخ تعزز وجهة نظره بشأن مفاهيم من قبيل: طاعة الزوجة لزوجها، وواجباتها مقارنة بحقوق الزوج، ثم القوامة ومعانيها، إلى غير ذلك من المعايير و”القيود” التي تضبط العلاقة الزوجية وتحقق ديمومتها واستمراريتها.
لكن حين نُعرّج على سيرة النبي ﷺ مع زوجاته، تظهر وقائع وأحداث مفعمة بروح العلاقة الزوجية، والرحمة التي تستوعب كل تجليات الضعف الإنساني، تحقيقا للمعنى الجليل الذي تنطوي عليه الآية الكريمة: (وللرجال عليهن درجة) – البقرة. الآية 228-. وقد كان النبي ﷺ زوجا ورب أسرة قبل بعثته، ثم قام بأعباء النبوة في ظل حياة أسرية عايش المسلمون آنذاك تفاصيلها، فكان خير راع ومسؤول عن رعيته.
” كلا والله لا يخزيك الله أبدا “
ما من قارئ للسيرة النبوية إلا وتستوقفه تلك الشهادة التاريخية التي أدلت بها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، حين رجع النبي ﷺ من غار حراء وهو يرتجف من شدة الموقف قائلا: ” لقد خشيت على نفسي..”. فردت بلهجة صدق وثقة:” كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.
من أين استمدت خديجة كل تلك الثقة؟
بالعودة إلى بداية الارتباط ينكشف الأساس الذي انبنت عليه العلاقة الزوجية، حيث أن خديجة رضي الله عنها، وهي السيدة الثرية والعاقلة، رفضت الاقتران بمن كان همّهم الأساسي ثروتها وتجارتها، ومالت إلى النبي ﷺ، لما أبداه من أمانة وصدق ونبل في معاملاته. هذا الحس الأخلاقي سيكون مؤشر سعادة لاحقة، واستقرار أسري تُوّج بالمواقف النبيلة التي أبانت عنها خديجة مطلع البعثة المحمدية.
صرّح مسؤول سابق بوزارة الخارجية الأمريكية قائلا: ” إذا أردت أن تعرف صدق مرشح للانتخابات وقدرته على الوفاء بوعوده فاسأل زوجته؛ فهاهنا رجل يسألك أن تستأمنه على مقدرات الدولة وميزانيتها وسياساتها العمومية، في حين أن زوجته نفسها لا تثق به.”
ولا شك أن مفاتيح عدد من مشاهير العلماء والزعماء والقادة توجد في أيدي نسائهن، وسرعان ما تكشف الخلافات والفضائح عن زيف الصورة التي يُكونها الناس عنهم. لذا كانت شهادة خديجة رضي الله عنها إعلانا للإنسانية جمعاء بأن من قام بمسؤولية الحياة الأسرية خير قيام، لن يعجز عن النهوض بأعباء رسالة السماء.
” كلوا غارت أمكم “
تشكل خرافات وأساطير اليونان رافدا ثقافيا واجتماعيا مهما بالنسبة المخيلة الأوربية. ومن بين تلك الأساطير قصة “السيدة الأولى” التي ظهرت على وجه الأرض، وتداولتها الآداب العالمية بشكل جعل الناس يؤمنون بها كأنها حقيقة واقعية.
تقول الأسطورة أن المرأة الأولى، واسمها “باندورا” أي مانحة كل شيء، خلقها كبير الآلهة “زيوس” لتحرم ساكنة الأرض من كل النعم، بعد أن تجرأ الإله” برومثيوس” على سرقة النار من السماء ومنحها للبشر. ولما نزلت باندورا وبحوزتها صندوق، تأثر برومثيوس بجمالها واتخذها زوجة له. وفي أحد الأيام فتحت الصندوق الذي معها فانبعثت منه كل الشرور التي تملأ العالم حتى اليوم.
هذه الصورة المقززة التي تجعل المرأة رديفة للشر، كانت ولا تزال مرجعا للعديد من التمثلات والمواقف بشأن المرأة، حتى فيما يتعلق بردود أفعالها وتصرفاتها الفطرية، كالغريزة مثلا. لذا يتم التعامل معها باعتبارها مشكلة، أو بذرة شر يجب انتزاعها لتحقيق علاقة سوية بين الطرفين.
لكن هل الأمر كذلك في ديننا الحنيف؟
تكشف السيرة النبوية عن تعامل يتسم بالرفق والتفهم الإنساني لكيان المرأة والتصرفات المعبرة عن أنوثتها. وفي مواقف الرسول ﷺ مع زوجاته، خاصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ما يقدم النموذج الأمثل لتقبل غيرة الزوجة باعتبارها أسمى تعبيرات الحب.
من تلك المواقف ما جرى في بيت عائشة رضي الله عنها، يوم كان النبي صلى الله عليه مع أصحابه، وأرسلت إحدى أمهات المؤمنين صحفة فيها طعام، فضربت عائشة يد الخادم فسقطت الصحفة على الأرض. وكان من حلمه ﷺ أن جمع فِلق الصحفة التي كُسرت، ثم جعل يجمع فيها الطعام ويقول لأصحابه: “غارت أمكم”، وحمّل عائشة ما وقع من ضرر مادي بأن ترسل مع الخادم صحفة سليمة.
عادة ما تسيل الدماء في موقف مشابه، أو يباشر الزوج إجراءات الطلاق ردا للاعتبار، وتثبيتا لعادة جاهلية ترى في المرأة تمثالا من زجاج، لا حق له في التعبير عن عاطفة أو رد فعل. ولا تملك الزوجة، تنفيسا عن غيرتها، سوى أن تنقل ما جرى في بيت الزوجية إلى الشارع، بدءا بالصديقات ووصولا إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
وبدل أن تكون الغيرة تعبيرا عن عاطفة إنسانية ركّبها الله تعالى في طباع النساء، تصير تحت وطأة التسرع وسوء التقدير قنبلة موقوتة، تهز بيوت المسلمين كل يوم، بل كل لحظة!
لم يؤاخذ النبي ﷺ عائشة على صنيعها، واكتفى بعلاج آثار الغيرة حين تفضي إلى ضرر. وهذا التصرف النبوي الحليم والمنصف يجيب عن عشرات الأسئلة والإشكالات التي يطرحها الأزواج في علاقتها بالغيرة، فهو يترك المجال لتلك العاطفة كي تفصح عن نفسها، ثم يعالج الأثر بإنصاف وحلم كي لا تنشأ عنها خصومة أو ظلم.
وفي موقف مماثل، لما غارت عائشة من كثرة ذكر النبي ﷺ وثنائه على خديجة رضي الله عنها، وقالت: ” ما تذكر من عجوز قد أبدلك الله خيرا منها؟ غضب النبي ﷺ، لكنه لم ينهر عائشة أو يؤاخذها على كلامها، بل أثبت فضل خديجة بكلمات تحقق الإنصاف دون أن تؤذي المشاعر بقوله: ” لا، ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الولد منها ولم يرزقنيه من غيرها.
إن ما يسميه عبد الله الداوود (كتب جحر الضب) هي حصيلة استضمار حضاري ضارب في عمق التاريخ لخرافة” باندورا”، وسعي إلى تثبيت فكرة أن المرأة مصدر شرور وآلام للمجتمع.
والقارئ لما يروج اليوم في المكتبات من كتب العلاقات الزوجية، والدورات التدريبية، سواء المترجمة أو المتأثرة في تصوراتها ومقترحاتها بالثقافة الغربية، يستشعر كيف أن هذا الشر جرى تحويله بخبث إلى “حالة نفسية”، فأصبح الزواج السعيد برأيهم يقتضي الغوص في أعماق سيكولوجية المرأة، لتتبع الاضطرابات والحيلولة دون صعودها إلى سطح العلاقة الأسرية!
“الحمو الموت”
في كتابه ” فن الحب ” يصف عالم النفس الألماني إيريش فروم العلاقة بين الزوجين في المجتمع الغربي الصناعي بأنها كالعلاقة بين البئر والبترول، علاقة بين غريبين لا يصلان إطلاقا إلى علاقة محورية، بل يحاول كل طرف أن يجعل الآخر يشعر شعورا أفضل!
مثل هذه العلاقات تترك في الغالب نوافذ مشرعة، كي يتسلل “الغير” إليها، ويشكل طرفا ثالثا، إما في صورة مستشار للزواج، أو صديق للأسرة. يدلي بدوله في التفاصيل الأكثر حميمية، ويبادر للتوفيق بين الخصمين عند حدوث مشكل.
وأسهمت وسائل الإعلام واستوديوهات الإنتاج السينمائي منذ زمن بعيد في ترسيخ هذه الصورة، وإضفاء هوية اجتماعية مقبولة للطرف الثالث. ثم سرعان ما تلقفت السينما العربية بدورها هذا النمط الغريب من العلاقة عن المجتمع الإسلامي، فعملت على توطينه من خلال أعمال سينمائية وتلفزية، ترى في صديق الأسرة شخصا له غيرة على العلاقة بين اثنين، واستعدادا للمواقف البطولية المتسمة بالنبل ونكران الذات!
غير أن النبع الذي يستقي منه كل مسلم له موقف معارض لأي مساس بالعلاقة التي سماها القرآن الكريم ميثاقا غليظا. لذا نجد في نصوص الأحاديث تحذيرا من الخلوة، والنظر، والدخول على الأجنبيات، بل حتى من سكنى العزاب بين المتأهلين!
في الصحيحين وغيرهما عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال:( إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت). والحمو في اللغة هو أخ الزوج أو قريبه، أي ممن جرى التساهل داخل الأسر في دخوله ومجالسته دون أن يثير ريبة.
وصف النبي ﷺ الحمو بأنه موت، أي مصيبة يترتب عنها وقوع المعصية، وذهاب الغيرة من النفوس، وتفكك الأسرة بضربة معول إذا ما ثار شك أو ريبة. وهو أبلغ وصف لما يقع اليوم داخل الأسرة المسلمة التي تتساهل إزاء هذه القرابات، ولسان حالها ومقالها يردد بأن فلانا على خُلق، وأن أخ الزوج يعامل فلانة كأخته، وأن صديقة الأسرة أقرب للزوجة من نفسها منذ كانتا في الروضة، إلى غير ذلك من التبريرات التي تفضي إلى الفجيعة وتفكك الأواصر.
هذا الحسم النبوي في اعتبار العلاقة الزوجية خطا أحمر، يحظر التطفل عليه أو الاقتراب من تفاصيله هو أصل في بناء الحياة الزوجية لا يمكن التفريط فيه بأية حال. أما القول بأن الزوجة اليوم متعلمة ولها شخصيتها المستقلة، ولا يحق للزوج الغيرة عليها لأن هذا التصرف من بقايا الرجعية والتمسك بالعادات البالية، فهو قول متهافت يغفل حقيقة أن الطرف الثالث الذي حذر منه النبي ﷺ يجد في الخلوة بين اثنين مضمارا لألاعيبه وهمزاته. وأن حبل الثقة الممدود بين الزوج وزوجته بمقتضى الرابط الشرعي، يمكن أن يصير أرجوحة للشيطان!
” بما فضل الله بعضهم على بعض”
شاءت الإرادة الإلهية أن يتمتع الرجل بالقوة، بينما تتصف المرأة بالنعومة. وكل تعديل لإعادة توزيع الأدوار بينهما، وتحقيق مساواة وهمية، ثبت أنه إجراء مناوئ للوضع الطبيعي، ويُكلف المجتمع أضرارا تمس استقراره وتطوره.
إن معنى التفضيل الذي أشارت إليه الآية الكريمة: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) -النساء. آية34 – لا يعني سلطة أو أولوية، بقدر ما يحدد ميزة نسبية. ولن تستقر الحياة الزوجية إلا عند إقرار الزوجين معا بهذه الميزة والعمل بمقتضاها.
غير أن التكامل الذي تنبني عليه رابطة الزواج تم اعتباره دونية تحط من شأن المرأة، وتهز حضورها المجتمعي ككائن إنساني له حقوق وواجبات. وإذا كانت تلك الدونية تستمد أسبابها من فكر منحرف، وتأويلات ساذجة لما جاءت به الكتب السماوية السابقة، إلا أنها تنتفي بشكل قاطع فيما أقره الشرع الحكيم من قواعد وأصول وأحكام. وهو ما دعا فولتير ليعترف بأنه بالرغم مما نسبه إلى القرآن من خرافات، إلا أن هذا الأخير يختلف عن التوراة في كونه لا يجعل ضُعف المرأة عقابا إلهيا.
إن كون المجتمع لم ينفذ عددا من الحقوق التي أقرها الإسلام للمرأة، عائد بالدرجة الأولى إلى أسباب اجتماعية، وتاريخية، وسياسية أملتها الاضطرابات التي أصابت العالم الإسلامي؛ بينما بقيت النصوص واجتهادات الفقهاء شاهدا على الإنصاف والإقرار بالتكامل بين عنصري الحياة الإنسانية.
أما إطار العمل وأسلوبه اللذين حددهما الإسلام لضمان حياة أسرية سعيدة، فإن شواهد العصر وأحداثه تقر بصوابه، وانسجامه مع الفطرة الإنسانية. ومن أمثلته أن سيدة أمريكية تدعى مارابيل مورغان، وهي أم لطفلين، نشرت كتابا بعنوان” المرأة الكاملة”، كشفت فيه لأخواتها الأمريكيات عن سر بسيط للحياة الزوجية السعيدة قائلة:” كوني لطيفة مع زوجك ولا توجهي إليه اللوم كثيرا، وحاولي تفهم طلباته.” وفي أقل من عام بيعت ثلاثة ملايين نسخة من هذا الكتاب الذي يعتبر أن كمال المرأة يتجلى في كونها رفيقة للرجل، لا أن تستقل بحياتها الخاصة.