لا يتعدى مناط نسبة الحديث إلى النبي ﷺ صحة الإسناد وصحة المعنى معا، وأما في حالة خلوهما أو أحدهما فإنه لا تسمح نسبة أي شيء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما هو الموروث والمعهود من هدي المحدثين قاطبة وخاصة المتقدمين.
ومن ذلك قول ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه:” تعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون مثله كلام النبوة، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله أعلم”.[1]
إذن، صحة السند وصحة المعنى هما قوام السنة النبوية وانتظامها ومرجعها، ولذا اهتم المحدثون في منهجهم بوفاء حق النقد التام للسند والمتن معا، كما تراه واضحا فى شروطهم للحديث المقبول، ولكن توجد القيود أحيانا في بعض معيارهم وقواعدهم العلمية مما لا يدرك مغزاها بعض الناس فيسبب لهم الوقوع في فخ سوء الفهم.
وفيما يلي إشارة سريعة لبعض جوانب مهمة حول علاقة السند بالمتن.
صحة السند لا يلزم منها صحة المعنى على الدوام
إن لعلماء الحديث عين الاعتدال والتوازن في أحكامهم على الحديث سندا ومتنا، فإنهم لم يألوا جهدا في التدقيق النقدي الذي من شأنه تنزيه الحديث النبوي عن الأوجه الضعيفة سواء من جهة السند أو المتن، فصحة السند ظاهرا لا تقتضي صحة المتن بالطبع عندهم، وقد كان يرد أحيانا بعض الأسانيد الصحيحة في الظاهر وهي تنقل متونا ومعان مستنكرة عند النقاد، مما تستدعي منهم زيادة البحث والنظر في الأسانيد لكشف عن محل الخلل، إذ اعتلال المتن يعني علة واقعة في الإسناد ولا بد.
يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله: “إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر”[2].
وهذا الملمح الحديثي هو الذي جعل المحدثين يدققون في مصطلحتهم وعباراتهم، وما أطلقوا عليه عبارة “إسناده صحيح” دون ما قالوا فيه عبارة “حديث صحيح” والأخير هو المعتمد لا الأول.
قال ابن كثير: والحُكم بالصحة أو الحُسن على الإسناد لا يلزم منه الحُكم بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذاً أو معلَّلاً “[3] ولا ينبغي أن ينخدع في الاعتماد على حديث موصوف بحسن الإسناد أو بصحة سنده حتى يتبين أمره.
وقد ذكر أبو العباس ابن تيمية –رحمه الله- بعض الناس هالهم مظهر صحة إسناد الحديث فانخدعوا، وكانوا “ممّن يدّعي اتباع الحديث والعملَ به، كلّما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقةٌ، أو رأى حديثًا بإسنادٍ ظاهرُه الصحةُ، يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروفَ أخذ يتكلَّف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلاً له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط”[4]
وتتجلى أهمية هذا المطلب في تفنيد التشويش العلمي القائل بعدم عناية المحدثين بنقد المتن الحديثي، وأنهم عنوا بأسانيد الأحاديث فأصبحوا عبيدها على حد تعبيرهم، وهل قامت مدارس الأسانيد النقدية وعلم الجرح والتعديل إلا بغرض تحرير ألفاظ الأحاديث النبوية، وحمايتها من الخطأ والكذب، والذب عن بيضها،وعن انتحال المبطلين وتأويل المحرفين؟
ولك أن تتأمل هذا الكلام الآتي من إمام الصنعة عسى أن تفهم منهجهم في هذا الباب، قال الإمام مسلم فى تعريف الحديث المنكر: “وعلامة المنكر في حديث المحدث: إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا؛ خالفت روايته روايتهم، أولم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعمله…لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة -وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره- فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم.”[5]
ويقول أبو حاتم الرازي:” لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه”[6]
قف متأملا مع قوله “ما عقلناه”.
ويزيد الشيخ المعلمي بيانا وتوضيحا عن منهج نقد المتون عند المتقدمين فيقول:” من تتبع كتب تواريخ رجال الحديث وتراجمهم، وكتب العلل؛ وجد كثيراً من الأحاديث التي يطلق الأئمة عليها: “حديث منكر، باطل، شبه موضوع، موضوع”، وكثيراً ما يقولون في الراوي: “يحدث بالمناكير، صاحب مناكير، عنده مناكير، منكر الحديث”، ومن أنعم النظر وجد أكثر ذلك من جهة المعنى، ولما كان الأئمة قد راعوا في توثيق الرواة النظر في أحاديثهم، والطعن فيمن جاء بمنكر، صار الغالب أن لا يوجد حديث منكر إلا وفي سنده مجروح، أو خلل. فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديث نظروا في سنده فوجدوا ما يبين وهنه فيذكرونه، وكثيراً ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن.
انظر موضوعات ابن الجوزي، وتدبر تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره، ولكنه قلما يصرح بذلك، بل يكتفي غالباً بالطعن في السند، وكذلك كتب العلل وما يعل من الأحاديث في التراجم، تجد غالب ذلك مما ينكر متنه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم: “منكر الحديث” أو نحوه، أو الكلام في الراوي، أو التنبيه على خلل في السند كقولهم: “فلان لم يلق فلاناً، لم يسمع منه، لم يذكر سماعاً، اضطرب فيه، لم يتابع عليه، خالفه غيره، يروى هذا موقوفاً وهو أصح”، ونحو ذلك”[7]
صحة المعنى دون صحة النسبة
ليس كل كلام صحيح أو حكمة سائدة تصلح أن تنسب إلى السنة النبوية الشريفة، وكم من متون صحيحة المعنى وحاملة الحكم وداعية للفضائل وعظيمة النفع وجديرة بالعناية، ولكن لم يكن لها إسناد يسعفها ويقوي أمرها إلى درجة نسبتها إلى النبي ﷺ.
فالإسناد هو السبيل الوحيد الموصلة إلى هدي النبي ﷺ وسننه، وليس عن طريق تحسين العقل وتقبيحه، وأي خبر لا إسناد له فلا قيمة له، أو له إسناد فيه ضعف غير معتبر فلا تجوز نسبته إلى النبي ﷺ، ولكن الخبر الضعيف القابل للجبر فإنه قد يتقوى بمجيئه من طرق أخرى معتبرة فيصبح مقبولا كالحديث الصحيح.
وقال الحافظ ابن حجر: “لأن كثرة الطرق تقوِّي”[8] وتزيد المتن قوة.
وأما تقوية الحديث الضعيف بعواضد أخرى غير عواضد إسنادية فإنها منهجية غير معهودة في تاريخ النقد الحديثي العتيق، ولم توجد في قواعد التصحيح والتضعيف المشهورة أمور أخرى منفكة عن معايير الإسناد، كقول بتقوية الحديث الضعيف بموافقة ظاهر القرآن أو بموافقة الإجماع كما يقول به بعض أهل العلم، فإنه قول لا رواج له بين الباحثين المحققين ولا وزن له في ميزان ضبط قواعد علم الحديث، ولعل مثل هذا الاتجاه هو الوليد لتوسعة دائرة تقوية الحديث السقيم عن طريق الرؤية المنامية للنبي عليه الصلاة والسلام، والكشف الصوفي، وعن طريق استدلال المجتهد به، أو بموافقته للمكتشفات العلمية الحديثة، وعن…وعن…الخ، وهكذا تشكلت المفاهيم الجديدة في ميدان التصحيح والتضعيف المفتوح على مصراعيه.
أترى فما قيمة جهود المحدثين إذن إذا صار غير أهل التخصص هم مصححون على ضوء معايير غير مقررة عند أهل الشأن؟
وقد نطق الشيخ المرتضى الزين بالحق لما قال:” أما ترقية الحديث وتقويته بعواضد لا صلة لها بالأسانيد (كتلقي الأمة للحديث بالقبول) أو (بموافقة ظاهر القرآن له) أو (باستدلال المجتهد به) أو (عن طريق الكشف الصوفي) أو (برؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام) أو (بموافقته للمكتشفات العلمية الحديثة). فلا يتقوى الحديث بواحد من هذه العواضد, ولا تصح نسبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام لأجل واحد من هذه العواضد.”[9]
بل من لوازم هذا المسلك تصحيح الأحاديث الموضوعة وأشباهها إذا كانت معانيها صحيحة ومتفقة مع ظواهر القرآن أو تتمشى مع إحدى تلك العواضد، وهذا يكفى لبطلان لهذا المعيار.
نعم، يمكن أن يقال في حق الحديث الضعيف الموافق لظاهر القرآن: إن معناه مقرر في القرآن الكريم، لكن الحديث يبقى ضعيفا ولا ينسب إلى النبي ﷺ إلا أن يرتقي من جهة الإسناد لا من جهة المعنى.
وخذ هذا المثال عن أبى العباس ابن تيمة رحمه الله في حديثه عن حديث : ” كل صلاة لم تنه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد صاحبها من الله إلا بعداً “
هذا الحديث ليس بثابت عن النبي ﷺ، لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه [10].
وكذا لا يقال بتقوية الحديث الضعيف بسبب جريان العمل عليه، وقد يكون قيام العمل على دليل صحيح آخرى، إذ لا بد للإجماع من مستند يستند إليه، فباب المستند باب واسع لم ينحصر في الحديث، قد يكون من القرآن أو السنة أو قواعد الشريعة العامة وغيرها، وأما الضعيف من حيث هو فإنه يحتاج إلى حجية إسنادية أخرى التي تقويه وتوصله إلى مرحلة القبول.
- [1] – العلل في الحديث ص 150 – 156
- [2] – مقدمة الفوائد المجموعة. ص: 11 – 12
- [3] – اختصار علوم الحديث. ص:43
- [4] – مجموع الفتاوى 13/353
- [5] – صحيح مسلم 1/ 5
- [6] – شرح التبصرة والتذكرة 2/47
- [7] – الأنوار الكاشفة. ص:279
- [8] – نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. ص:80
- [9] – مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة.ص: 22
- [10] – مجموع الفتاوى 22/605