للمسلم مجموعة من الهموم، بعضها يتعلق بالدنيا وبعضها يتصل بالآخرة، وأعظمها وأرفعها هو إرضاء الله تعالى. وكل خطوة نخطوها في سبيل هذه الغاية الشريفة تعود علينا بسعادة كبيرة، نجد أثرها على أنفسنا وأرواحنا وعقولنا وقلوبنا.
إرضاء الله مقابل إرضاء الناس: التوازن الصحيح
أثناء سعي المسلم لإرضاء الله تعالى، سيجد من يغضب منه بل من يعاديه، مما يشكل ضغطًا اجتماعيًا قد يترتب عليه نوع من العزلة وضياع مجموعة من المنافع. وهذا يضع المسلم في اختبار ثقيل صعب يقارن فيه بين ما يفقده من مال أو ما يمكن أن يعود عليه بالمال وبين الإبقاء على هذه العلاقات ومن ثم هذه المصالح. وإننا لنذكر أنفسنا بقوله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [النساء: 77]، كما نذكرها بقوله ﷺ: «مَنِ التَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ عز وجل وَكَّلَهُ اللَّهُ عز وجل إِلَى النَّاسِ»[1].
ومسألة اختيار رضا الله وتقديمه على رضا الناس تبدأ بالأسرة التي تجور فيها الزوجة على حقوق الوالدين وتضغط على زوجها ليقوم بعقوق والديه، وهذه كبيرة من الكبائر؛ فيسعى لإرضائها مقابل إغضاب الله تعالى. أو تضغط الأم على ابنها لكي يظلم زوجته فيسعى لإرضائها ويسخط الله تعالى الذي حرم الظلم. أو من الزوجة التي تضغط على زوجها لكي يفضل أبنائها على أبناء ضرتها فيستجيب لضغطها ويقع في الظلم الذي يبغضه الله تعالى.
ومن إرضاء من لا يستحق الإرضاء داخل الأسرة إلى السعي لرضا من تتعامل معهم، نتساءل: من ترضي ومن تغضب؟! فما يرضي شخصًا يغضب آخر. ستقول لك نفسك وشيطانك: ارض بما تستطيع أن تستفيد منه أو تخاف من بطشه. أقول لك: ليس للمصالح قبلة، دائمًا بوصلتها متغيرة. أقوى الناس قد تذهب قوتهم في لحظة واحدة.
ومحاولات إرضاء الآخرين بما يسخط الله تعالى قد تكون داخل الأسرة الصغيرة أو الكبيرة وقد يكون بين أمة وأخرى، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} “ليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك هو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم”[2].
وقد دلت التجارب على أن رضا الناس غاية لا تُدرك وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأن الناس يرضونها اليوم ما كان يغضبها الأمس والعكس.
التحديات في تحقيق إرضاء الله
يتجلى مما سبق التحدي في مواقف الأسرة حيث قد يفرض أحد الأفراد ضغطًا لتحقيق رضا الناس مما يؤدي إلى إغضاب الله، مثل:
- الزوجة التي تجور على حقوق الوالدين: تسعى لإرضاء الوالدين مما يضطر الزوج إلى عقوقهم.
- الأم التي تضغط على ابنها: تدفعه لظلم زوجته لتحقيق رضاها.
- الزوجة التي تفضل أبناءها على أبناء ضرتها: تؤدي إلى ظلم الآخرين وكراهية الله.
العمل الصالح بين رضا الله ورضا النفس
وإذا تكلمنا عن إرضاء الأقارب والأباعد، حق علينا أن نسأل أنفسنا: عندما نقوم بعمل من أعمال الخير، هل نقوم به لإرضاء الله تعالى أو لإرضاء النفس التي تحب الثناء والمدح وتحب أن تُذكر فتُشكر؟ وأحد الأحاديث التي تدعو إلى مراجعة النفس قبل العمل وأثناءه وبعده مراجعة دقيقة هو قول النبي ﷺ:
“إِنَّ أولَ النَّاسِ يَقْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَفَهُ نِعْمَهُ فعَرَفَهَا، فَقَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدَتْ. فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَن يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَحَبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَفَهُ نِعْمَهُ فعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَحَبَ عَلَى وَجْهِهِ فَثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسِّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَفَهُ نِعْمَهُ فعَرَفَهَا، ثُمَّ قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يَنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَحَبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ”[3].
هذه الأعمال الثلاثة من أعظم الطاعات في الإسلام، ولكن أصحابها قاموا بها لإرضاء حب الظهور وطلب الثناء من الناس، فكانت سببا لدخولهم النار.
رضا الله تعالى أعظم النعيم
قال الله تعالى عن نعيم الجنة: ﴿فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: 71]. ومن أعظم نعيم الجنة رضا الله تبارك وتعالى، قال رسول الله ﷺ:
“إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكِ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا”[4].
أسباب الرضا الإلهي
للرضا الإلهي مجموعة من الأسباب يمكن أن نختار منها:
النية الصادقة في العمل
يستحضر رضا الله وطاعته عند كل خطوة يخطوها، فتلك النية تقوي القلب وتفتح أبواب التوفيق وتستجلب رضوان الله تعالى.
سرعة الاستجابة لأوامر الله تعالى
مقاومة الكسل والتسويف، وقلة من يعين على الحق مما يرضي الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84].
بيع النفس لمرضاة الله
يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207]. “من باعوا أنفسهم لله، وكانت حياتهم موافقة لمقتضى الإيمان، فإن حياتهم في نفسها لذة، وإن كان في ظاهرها ألم ونصب، وخلافًا للتوهم بأن ذلك ترك لملذات الدنيا، وسعادة قلوبهم بالرضا والشعور برأفة الله بهم أعظم سعادة، بل إنه لم تقتصر رحمة الله عليهم فقط، فإنهم ممن ينتفع الناس بهم، ويكونون رحمة عامة للعباد، وبوجودهم يدفع الله الشر والفساد عن الخلق، ويقرر الحق والعدل والخير فيهم، مصداقًا لقول الله عز وجل: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)[5].
تجنب الصفات السلبية
عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ: “أَنْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، لَقِيَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُ مِنْ رِضَا اللَّهِ وَيُبْعِدُ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا تَغْضَبْ”. قَالَ: الْغَضَبُ مَا يَبْدَأُهُ وَمَا يُعِيدُهُ؟ قَالَ: التَّعَزُّزُ، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْكِبْرِيَاءُ، وَالْعَظَمَةُ[6].
شكر النعم البسيطة
قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»[7].
الأكلة بفتح الهمزة: المرة الواحدة من الأكل، وبالضم: اللقمة، ويصلح هذا اللفظ هنا للتقييدين[8].
وفي قوله: (لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ) دليل على أن رضى الله تبارك وتعالى مُغَيَّب عنا، ولا يدري العبد في أي إحسانه يكون رضى الله عز وجل. يحمد العبد ربه على وجود الطعام، فكم من جائع لا يجد لقمة، وعلى شعوره بطعم الطعام، وعلى هضمه، وعلى الاستفادة منه، وعلى إخراجه.
الرضا بالقليل
اجْتَمَعَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ فَتَذَاكَرَا الْعَيْشَ:
قال مالك: “مَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ غَلَّةٌ يَعِيشُ فِيهَا”.
قال محمد: “طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَلَمْ يَجِدْ عَشَاءً، وَوَجَدَ عَشَاءً وَلَمْ يَجِدْ غَدَاءً وَهُوَ عَنِ اللَّهِ عز وجل رَاضٍ”، أو قال: “وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ”[10].
وهذه ليست دعوة للفقر، فقد كان النبي ﷺ يستعيذ بالله منه، لكنها دعوة للرضا الذي يزيد من قدرة النفس على التحمل ويعطيها طاقة للسعي لتحصيل ما تتمناه مما يرضي الله تعالى. أما السخط فينقص من دين العبد ويوهن من قوته ويطفئ جذوة الأمل في نفسه فلا يتحرك لتغيير حاله للأفضل، وإن تحرك مشى بلا هدى ولا بصيرة.
الابتعاد عن طلب الحلال بغير رضا الله
وروي في حديث: “مَنْ بَاتَ وَانِيًا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ اللَّهُ عز وجل رَاضٍ عَنْهُ”[11]. وانيا يعني تعبا كما قال ابن أبي الدنيا.
رضا الله مع رضا الوالدين
قال رسول الله ﷺ: “رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين”[12]. وعلى الوالدين أن يكثرا من الدعاء لأبنائهما أن يرضى الله تعالى عنهم.
الرضا بقضاء الله يعزز الراحة والسعادة في الدنيا
أحد أسباب الراحة والسعادة في الدنيا هو الرضا بقضاء الله تعالى، رضا نابعًا من القلب ومن اليقين بحكمة الله تعالى وإحسانه لخلقه، وأنه سبحانه وتعالى حين يمنع عنهم ما يحبون أو يسلبه منهم ليس بخلا، بل رفقًا بهم. ومن أوضح الأمثلة على ذلك: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ [الكهف: 80-81].
إن مصاحبة الراضين عن الله تعالى الذين ابتلوا بأقدار مؤلمة تريح النفس كثيرًا، وتجعلنا ننظر إلى ما ابتلينا به نظرة رضا وتسليم، فهو أقل بكثير مما ابتلي به هؤلاء، وتدفع أصحاب الفطرة السليمة إلى الاقتداء بهم.
الاستمرار في الطاعات
قالت عائشة، عن النبي ﷺ: (مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)[13]. بعض الناس تقوم بعمل صالح تراه كبيرًا وتظن أنه ليس عليها أن تواصل القيام بالطاعات، وهذا خطأ فادح، فإن السعي لرضوان الله تعالى هو رحلة العمر.
علامات رضا الله تعالى عن العبد
إعداد الأعمال لمرضاة الله
قال موسى عليه السلام: “يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك”، فأوحى الله تعالى إليه: “إذا رأيتني، أهيئ له طاعتي وأصرفه عن معصيتي، فذاك آية رضائي عنه[14].
الاستقامة في الثقة والتوكل والإخلاص والمعرفة
من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء، فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة[15].
ثمرات إرضاء الله تعالى
قوة الله على زيادة الرضا
قال عبد الله بن عبيد بن عمير: “مَنْ كَانَ فِي رِضَا اللَّهِ كَانَ اللَّهُ عز وجل عَلَى رِضَاهُ أَقْدَرَ” [16].
بركات مستمرة
قال تعالى: “إِنَّ الرَّبَّ تبارك وتعالى قَالَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ، وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ” [17].