من أحد مفاوضات كفار قريش مع النبي ﷺ على ترك الدعوة إلى الإسلام، ومنعه من تسفيه آلهتهم، ما سجله لنا القرآن الكريم في سورة الكافرون، فقد عرض صناديد قريش على النبي ﷺ أن يعبد آلهتهم سنة، وهم كذلك سيعبدون الله الخالق سبحانه سنة، فقالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فكان جواب النبي ﷺ لهم ما حكاه لنا المولى سبحانه: (قل ياأيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون)، إلى آخر سورة الكافرون.
ولما كان اليوم التالي غدا النبي إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رءوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه. ففي هذه السورة إعلان البراءة من الشرك وعمل المشركين، وهي آمرة بالإخلاص في العبادة.
فما سبب نزول سورة الكافرون؟
وذكر الطبري في رواية أخرى أسماء الرهط من قريش الذين أتوا النبي ﷺ ليعرضوا عليه هذا الأمر، فقال:
لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميَّة بن خلف، رسول الله، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبدْ ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك، كنت قد شَرِكتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) حتى انقضت السورة.
ما هي فضائل سورة الكافرون ؟
جاء في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله ﷺ قرأ بهذه السورة وبـ “قل هو الله أحد” في ركعتي الطواف.
ومن حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قرأ بهما في ركعتي الفجر.
وورد من حديث ابن عمر أنه قال: رمقت النبي ﷺ شهرا، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ “قل يا أيها الكافرون” و”قل هو الله أحد”.
وأتى في حديث آخر أن قراءة هذه السورة براءة من الشرك، وذلك في حديث جبلة بن حارثة، وهو أخو زيد بن حارثة أن النبي ﷺ قال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ قل يا أيها الكافرون حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك» رواه أحمد بإسناد حسن.
وآيات سورة الكافرون اشتملت على معان واضحة تمثل أصول إيمان المسلم ومبادئه في جميع علاقاته والتزاماته، وضرورة التمكسك بأصول الدين والاستمرار عليه مهما حدث في هذا الكون، فلا يغتر بالمفاوضات والتنازلات والمواثيق التي تخالف مبادئ الإسلام وأصول الإيمان. كما اشتملت على تأييس كفار مكة من أن يوافقهم النبي ﷺ على طلبهم الخطير، إذ لا يجتمع إيمان وكفر في جوف مؤمن.
وجاء الخطاب في بداية السورة بأمر إلهي (قل) والمراد منه تبليغ المطلوب من النبي ﷺ لهؤلاء الكافرين. يقول ابن عاشور: (قل) للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه. فالنبي مأمور بتبليغ وإسماع القوم الذين عاندوه بالكفر وعرضوا عليه عبادة آلهتهم استمالة منهم ومكرا.
والنداء موجه إلى هؤلاء الأربعة الذين قالوا للنبي ﷺ: فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله: ولا أنتم عابدون.
وخوطبوا بالوصف (الكافرون) تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم. قال القرطبي: قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: يا أيها الكافرون، وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر[2].
وأما قوله (لا أعبد ما تعبدون) فهي النفي المطلق والتأييس للكفار من أن يطمعوا أن محمدا ﷺ سيقبل عرضهم بالتنازل مقابل المال والجاه والمنصب والمتاع، فالأية تفيد أنه لا يعبد آلهة قريش بأية حال.
قال ابن كثير: تبرأ النبي عن دينهم بالكلية، فقال (لا أعبد ما تعبدون) يعني من الأصنام والأنداد (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وهو الله وحده لا شريك له، فما هاهنا بمعنى من، ثم قال: (ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه.
فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه، فالرسول ﷺ وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول ﷺ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله[3].
[1] «تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث» (24/ 662)
[2] التحرير والتنوير (30/581).
[3] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (8/479).