قال تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لا تحصوها } (النحل 18). إن نعم الله تعالى كثيرة تعد ولاتحصي، فمنها المرئية ومنها المخفية ، منها ما نلمس أثره ، ومنها ما نسمع خبره ، ومنها المعجلة ومنها المؤجلة ، ومنها… ومنها… فيمكن للإنسان أن يعد منها ما شاء، ولكنه لا يصل إلى حصرها ونهايتها.

والمقصود بالعد حصر المعدود، والوصول إلى نهايته، وهذا الذي لا يمكن، وهو الذي تنفيه الآية الكريمة.

 في هذه الآية معنى دقيق، وهو أننا لو أمضينا الحياة كلها في تعداد خيرات وبركات نعمة واحدة، ، فإننا لا نستطيع أن نحصي هذه الخيرات. فإذا كنا عاجزين عن إحصاء خيرات نعمة واحدة، فما بالنا بسيل النعم المتدفق الذي حبانا الله تعالي به، أترانا نقدر علي عده؟ لاشك أننا سنكون علي عدها أعجز، لذلك كان التعبير القرآني “نعمة” وليس “نعم” علي الإفراد.

تفسير ( لا تحصوها )

جاء في تفسير الخازن: نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن، وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح، والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء، وبطش اليدين، وسعي الرجلين، إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين، والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم، لعجز عن معرفتها، وحصرها فكيف بنعمه العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق، فذلك قوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. يعني ولو اجتهدتم في ذلك، وأتعبتم نفوسكم، لا تقدرون عليه. أ.هـ.. 

يقول الإمام الشوكاني –رحمه الله- :” أي: وإن تتعرضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالا فضلا عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصى ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلا، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه، على تنوعها واختلاف أجناسها، (فتح القدير (3 /110))

( لا تحصوها )فلو أراد أحدنا أن يحصي النعم التي تفضل الله بها على أي واحد منا لا يستطيع، سوف تعجز أعقد أجهزة السوبر كمبيوتر عن إحصاء هذه النعم، ولو أحبَّ أحدكم فليجرب. لنتأمل فقط عدد الأمراض وأنواعها التي تصيب البشر، وكم مرضاً نجاك الله منه، وكم موقفاً أنقذك الله منه، وكم موهبة وهبك الله إياها، وكم وسيلة من وسائل البصر والسمع والعقل وأعطاك الله إياها، لن يستطيع أحد إحصاء عدد النعم، ويكفي أن أخبركم بأن ما نجهله من نعم ولا نحس به أكبر بكثير مما نعلمه، مثلاً نعمة الجاذبية الأرضية لا نحس بها، ولكن ماذا لو خرجنا إلى الفضاء…

إحصاء أوجُه النعمة

لو تفكر الإنسان في لقمة الخبز التي يضعها في فمه وبحث عن حصته في المراحل التي يُصنع فيها الخبز لظهرت الحقيقة من ذاتها.

 صحيح أن الإنسان هو الذي زرع وحصد وطحن وخبَز، ولكن لو لم يخلق الله الأرض والتراب والشمس ولم يرسل المطر، إلى غير ذلك من عناصر الطبيعة… أكان بمقدور الإنسان أكل الخبز؟. ثم بعد صنع الخبز، لو لم يعط الله للإنسان يدا وفما وأسنانا… ، أكان بمقدور الإنسان أن يأكله؟ هذا مثال واحد فقط عن واحدة من النعم المبثوثة في الكون…. نخلص منه إلى أن كل شيء حولنا نعمة، وأن إحصاء أوجُه النعمة في شيء واحد من تلك الأشياء أمر بعيد المنال.

عندما نُفكِّر في هذه الآية { وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لا تحصوها إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ } (النحل: 18) فإننا بالطبع ما نلبث أن نتفكَّر في النِّعم الواضحة التي يغمرنا الله بِنَا؛ من: سمعٍ، وبصرٍ، وإحساسٍ، وتذوقٍ، وشمٍ، وجسمٍ معقَّد، يقوم بوظيفته على أكمل وجه دون أدنى تدخُّل مِنَّا في هذا، بل دون أن يكون عندنا أدنى فكرة عمَّا يحدث بداخلنا.

نعمة التأمُّل

تخيَّلوا معي أننا نستطيع رؤية كل الطيف البصري ونسمع كل الطيف السمعي! ماذا يكون الحال حينئذ؟ الحال ببساطة: أننا سوف نُصاب بالهوس العقلي والجنون؛ لأننا لن نتحمَّل رؤية كل هذه الموجات التي تخرج وتنعكس من على كل شيء، حتى موجات الهاتف المحمول فسوف تُصيبك بالهياج الشديد، حيث سيضيء كل شيء تنعكِس عليه هذه الموجات. أما عن سمع كل الطيف فحدَّث ولا حرج! ستسمع حينئذ دبيب النمل، وصوت الخفافيش، وأصوات كل الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض! يا له من شيء مؤلم…! المجال مفتوح للتأمُّل … فلا تَحرِم نفسك من نعمة التأمُّل… وتأمَّل.

تصور يا أخي بعد ذلك أنك بسبب أو بآخر فقدت السمع مع فقد البصر ، كيف يكون الحال حينئذ ستجد نفسك فى سجن مظلم لاترى ولا تسمع من حولك وسيزداد الحرج و العنت و الضيق أو القيود فى الحركة وكل أمور الحياة .

لا تضق يا أخي واستمر معي وتصور مع فقدان السمع و البصر فقدت النطق أيضاً، وتصور حالك حينئذ … سيزداد السجن ظلاماً وتزداد القيود ويصعب التعامل مع الحياة ، فإذا أردت شيئاً أو أراد أحد منك شيئاً كان من العسير التعرف على هذه الرغبات اسأل نفسك عن مدى صبرك ورضاك بهذه الحال ما لم تكن متمتعاً بنعمة الإيمان ما تحملت مثل هذه الحياة.

نعمة العقل

ونعمة العقل ما أعظمها ، لو ردت إليك حواسك الثلاثة السابقة ولكن طرأت عليك إصابة أو لوثة بالعقل مجرد تصور ، كيف يكون الحال ؟ لا انضباط ، لا وعي ، لا إدراك لأي خطر ، ولا تفاهم ، ولا أمان من حدوث أي تصرف في أي وقت. كذلك لو فكَّرنا في تلك النعم التي يحتويها جسدنا كالأيدي والأرجل وأصابعهما وكل أجهزة الجسم وكل أعضائه الداخلية ، لو أصيب أي منها بعطب لشلت حركته وربما جعله سجين الفراش معظم حياته .

مثل هذه الصور موجودة وماثلة أمامنا، على سبيل المثال جلطة بسيطة في شعيرة من شعيرات المخ يمكن أن تحدث شللاً وفقداً للنطق وغير ذلك… لن تستطيع أن نستمر فى سرد نعم الله عليك، ولكن استشعر نعمة الله عليك في كل شيء، عندما تتحرك، أو تنطق، أو تأكل، أو تشرب، أو تلبس، أو تنام، أو تستيقظ، أو ترى، أو تسمع، أو تشم، أو تتذوق، أو تباشر أى أمر من أمور حياتك وأنه لولا فضل الله ورحمته ما استطعت أن تفعل شيئاً من ذلك .

جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسُرُّك ببصرك هذا الذي تُبصِر به مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال الرجل: لا، قال: فبرجليك؟ قال الرجل: لا، -فذكَّره بنعم ﷲ عليه- وقال: أرى عندك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة (الشكر لابن أبي الدنيا (١٠١).. فيا كثير التسخُّطِ والتشكِّي: اعْرفْ قَدْرَ الصِّحَّةِ والعافية.

شكر النعم

ورغم كون هذه النعم بهذه الأعداد الهائلة – (لا تحصوها ) – إلا أن شكرها اليوم لا يكاد يكون له أثر يذكر ، ولا نجد من الشاكرين لها أو لبعضها إلا القليل . فلماذا هذا الجحود لتلك النعم ؟. ألا يجدر بالعبد أن يكون شاكراً لرب هذه النعم لكي تدوم عليه النعمة أولاً ( فبالشكر تدوم النعم ) غرر الحكم و درر الكلم – (1 / 190).

قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: “الشكر معه المزيد أبدًا، فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر”. اهـ. أي أنك حينما لا ترى زيادةً في رزقك، وبركةً في أهلك ومالك وحالك، وانْشراحًا في صدرك، فإنما هو بسبب تقصيرك في شكر الله، فاسْتقبل الشكر الحقيقيَّ الصادق، الذي يكون معه العمل والإخلاص، والطاعةُ والإيمان، وتركُ الشِّكايةِ والتَّسخُّط. فالشكر الحقيقي: أن لا يُستعان بشيء من نعمه على معاصيه، كما قاله السلف الصالح، فالنَّظَرُ نعمة، فلا تستعن بها على المعصية، والمال نعمة، فلا تستعن به على المعصية… فلنبادر إلى الشكر من هذه الساعة، بل من هذه اللحظة التي نحن فيها ولنقل وبكل صدق وإخلاص ويقين : اَلْحَمْدُ لِلهِ.