لماذا أتزوج؟! سؤال بات يتردد كثيرًا على ألسنة الكثير من الفتيات والشباب، نتيجة الصورة المشوهة عن الحياة الزوجية، وتكاليف وأعباء الزواج، والمسؤوليات المترتبة على الزواج بالنسبة للشاب أو الفتاة.
العزوف عن الزواج
ارتفاع تكاليف الزواج مشكلة باتت منتشرة في الدول العربية، وليست قاصرة على المجتمعات الغنية، والسبب في ذلك يرجع إلى آفة التقليد الأعمى، ومحاولة ظهور الطبقات الوسطى بل والفقيرة في المجتمع بمظهر اجتماعي في الأفراح لا يقل عن نظيره لدى الفئات الغنية.
وهناك سبب آخر للعزوف عن الزواج لا يقل في أهميته عن ارتفاع تكاليف الزواج، وهو شيوع النزعة الفردية لدى الجيل الحالي بصفة عامة، وهي نزعة أزكتها العولمة والثقافة الغربية ونمط الحياة الذي أفرزته وسعت لعولمته، وساعدها في ذلك منصات التواصل الاجتماعي التي جعلت كل فرد منغلقًا على نفسه، ومنعزلًا عن محيطه، ولا يفكر إلا في الأمور التي تحقق له السعادة على المستوى الشخصي.
وهذه النزعة جعلت الكثير من الشباب والفتيات يرون في كل مسؤولية عبئًا، ومنها المسؤولية عن الزوج أو الزوجة والأولاد، ومن هنا نشأت فكرة أن العزوبية وعدم الزواج ربما كانت أفضل من الزواج، حيث لا توجد مسؤولية أو تقييد للحرية الشخصية، وأن الإنسان بمفرده يمكنه أن يستمتع بحياته، وينفق ماله أو دخله كله على الأمور التي يعتقد أنها تجلب له السعادة والراحة، وهو وهم وخداع كما سيتضح لنا من خلال المشكلات التي يعاني منها غير المتزوجين، والفوائد والمنافع التي يجنيها الشاب أو الفتاة من الزواج.
الصورة النمطية للحياة الزوجية
من أسباب عزوف الشباب والفتيات عن الزواج الصورة النمطية والمشوهة عن الحياة الزوجية وأنها مليئة بالمشكلات والمنغصات، وأن الزواج يحد من حرية الشاب أو الفتاة، وهذه الصورة النمطية تم الترويج لها من خلال الأفلام والمسلسلات والمسرحيات التي تنفر من الزواج، وتظهر الزوج بمظهر المستبد الظالم أو الخائن، والمرأة بمظهر الزوجة النكدية أو الخائنة، ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي وما تعج به من سخرية وتهكم على المتزوجين.
وهناك ظاهرة آخذة في الاتساع والانتشار في المجتمعات العربية وهي ارتفاع معدلات الطلاق والتي تقارب في بعض الدول 50%، ومعظمها للأسف يقع في السنوات الثلاث الأولى من الزواج.
وخروج المرأة للعمل ووجود مصدر دخل يكفيها وزيادة، أدى إلى عزوف الكثير من الفتيات عن الزواج، بحجة تحقيق وإثبات الذات، والبحث عن الاستقلال الشخصي والمالي عن الرجل، وعزز ذلك التوجه دعوات تحرير المرأة، تحت شعارات خادعة وكاذبة كشعار المساواة بين الرجل والمرأة وشعار تمكين المرأة، والنزعة النسوية التي بدأت تغزو المجتمعات العربية والإسلامية، وهذه النزعة تقوم على تمركز المرأة حول ذاتها، وسعيها لتحقيق كيانها بمعزل عن الرجل، وحرية تصرفها في جسدها، وهناك محاولات خبيثة لإذكاء هذه النزعة، والترويج لها من خلال بعض الشخصيات التي يتم صناعتها ودعمها وتقديمها كقدوات للفتيات.
والأوهام التي يعيش فيها من يعزفون عن الزواج، تتكشف مع مرور الوقت، وبخاصة عندما يضطرون للعيش بمفردهم، وتظهر الحاجة إلى من يشاركهم في حياتهم، والحاجة إلى الاهتمام والرعاية، وحاجة المرأة إلى الشعور بالأمومة وهو شعور فطري عند الإناث، وساعتها لا يفيد الندم، فقد مضى قطار العمر، وذهبت زهرة الشباب وقوته.
لماذا أتزوج؟!
العزوف عن الزواج له أسبابه عند الشباب والفتيات كما أسلفنا، ولكن هذا العزوف يمكن معالجته والتغلب عليه من خلال تيسير الزواج للشباب والفتيات، ومن خلال بيان الفوائد والمنافع التي تعود على الشاب أو الفتاة من الزواج، وهو ما أردنا بيانه من خلال هذا المقال.
والزواج سنة من سنن الفطرة، وقد بت على يقين بأن أي مخالفة للفطرة تجلب الشقاء ليس للإنسان وحده وإنما للبشرية جمعاء، والدليل على ذلك المشكلات الاجتماعية والصحية بل والاقتصادية التي تعاني منها الدول الغربية وغيرها من الدول التي أهملت مؤسسة الأسرة التي تقوم على رابطة الزواج بين الرجل والمرأة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، واتجهت نحو المساكنة وإباحة الإباحية وتقنين الشذوذ الجنسي.
والشذوذ الجنسي فيه مخالفة صريحة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك كان عقاب قوم لوط شديدًا، لأنهم خالفوا الفطرة السليمة، يقول الله عز وجل:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} سورة هود: 82-83.
والزواج فيه تحقيق للسكن ويقوم على المودة والرحمة، يقول الله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. سورة الروم: 21.
والإنسان لا يجد الاستقرار النفسي والاستقرار العاطفي إلا داخل الأسرة، التي تمنحه الحب والحنان والاهتمام والرعاية.
ومن مقاصد الزواج وغاياته استمتاع كل من الزوج والزوجة بالعلاقة الحميمية، وهي من الحقوق المشتركة بين الزوجين، ولها فوائدها النفسية والصحية، وينتج عنها الأولاد، وهم زينة الحياة الدنيا كما وصفهم القرآن الكريم.
والزواج يحقق للشاب والفتاة الاستقرار الجسدي والجنسي، فممارسة العلاقة الحميمية حاجة فطرية، وتلبيتها في إطار الزواج يريح الإنسان ويقطع عليه طرق التفكير في الممارسات غير الشرعية، حتى يتفرغ لإداء واجباته ومسؤولياته.
ومن الأمور التي يصعب تحقيقها خارج إطار الزواج والأسرة الاستقرار المالي، وقد يبدو ذلك غريبًا، لأن الزواج فيه أعباء وتكاليف مالية إضافية، ولكن الواقع يقول إن غير المتزوجين ينفقون معظم دخلهم على شؤونهم الخاصة، ولا يدخرون منه شيئًا، نظرًا لعدم وجود التزامات حالية أو مستقبلية عليهم، وربما استدانوا من البنوك لتغطية بعض النفقات أو الحصول على بعض الكماليات.
والدراسات تشير إلى أن المتزوجين هم أكثر سعادة وأكثر استقرارًا من الناحية المالية مقارنة بغير المتزوجين!
وقد كشفت دراسة أجرتها مؤسسة جالوب الأمريكية، في فبراير 2024 “أن المتزوجين أكثر سعادة وارتياحًا في الحياة من العُزاب، مشيرة إلى أن الحالة الاجتماعية هي مؤشر أقوى على رفاهية البالغين الأمريكيين مقارنةً بمستوى التعليم والعرق والعمر والجنس، وأشارت الدراسة إلى أن دخل الأسرة كان له التأثير الأكبر على رفاهية الأفراد، وعادةً ما يرتفع بعد الزواج عندما يجمع الزوجان مواردهما”.
والزواج مصدر للغنى، يقول الله عز وجل:{وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة النور: 32.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى اله عليه وسلم قال:”ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ أن يُغنيَهم المُكاتَبُ الذي يُريدُ الأداءَ والناكحُ يُريدُ العفافَ والمُجاهدُ في سبيلِ اللهِ”. أخرجه الترمذي: 1655.
وهناك أجور لا يمكن تحصيلها بدون الزواج، ففي الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:”.. وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ، أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ”. صحيح مسلم: 1006.
وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:”ولَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ”. صحيح البخاري: 5668.
ومن الأجور التي يحصلها المسلم أجر الإنفاق على الأولاد والزوجة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:”دِينارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقْتَ به علَى مِسْكِينٍ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ؛ أعْظَمُها أجْرًا الذي أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ”. صحيح مسلم: 995.
والصبر على تربية الأولاد، والصبر على الزوج أو الزوجة تترتب عليه الكثير من الأجور، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:”مَن كانَ لَهُ ثلاثُ بَناتٍ فصبرَ عليهنَّ، وأطعمَهُنَّ، وسقاهنَّ، وَكَساهنَّ مِن جِدَتِهِ كنَّ لَهُ حجابًا منَ النَّارِ يومَ القيامَةِ”. صحيح ابن ماجه: 2974.
ومن الأمور التي لا يمكن تحصيلها إلا بالزواج الصدقة الجارية والمتمثلة في “ولد صالح يدعو له“، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:”إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له”. صحيح مسلم: 1631.
تأهيل الشباب والفتيات للزواج
الزواج ليس نزهة أو رحلة قصيرة مليئة بالفرح والسعادة، أو مليئة بالتعاسة والشقاء كما تصوره الأفلام والمسلسلات، وإنما هو حياة واقعية يجد فيها الإنسان الحب والمودة والمشاركة والاهتمام والرعاية، وتواجهه فيها بعض المشكلات، وهذا أمر طبيعي، نتيجة الاختلافات الكثيرة بين الرجل والمرأة، وبيت النبوة لم يخل من المشكلات.
والزواج يقوم على المودة والرحمة بين الزوجية، والمودة للزوج تكون برعايته والاهتمام بشؤونه، والحرص على ما يرضيه، وعدم تكليفه ما لا يطيق من النفقة، والزوجة إذا توددت لزوجها ملكت قلبه وضمنت الأمان والاستقرار العاطفي، وتوفرت لها الاحتياجات المادية كلما طلبتها أو احتاجت إليها.
وفي مقابل تودد الزوجة لزوجها تأتي رحمة الزوج بها، ونرى أن الرحمة تكون من قبل الزوج لكون المرأة مخلوق ضعيف، لا تصلح الشدة في التعامل معه، ومن مظاهر الرحمة بالزوجة التعامل معها بالرفق واللين، والتغافل عن أخطائها وزلاتها، ورعايتها والقيام على شؤونها، ورحمتها بالإنفاق عليها وتوفير ما تحتاجه من النفقة، ومن رحمة الزوج بالزوجة صيانتها عن مخالطة الرجال إلا لضرورة.
والأسرة تقوم على التعاون المشاركة بين الزوجين في جميع الأمور، وتقوم أيضًا على تحمل المسؤولية، تحمل الرجل لمسؤولية القوامة على البيت والإنفاق عليه، وتوفير احتياجات الزوجة والأولاد، وتحمل المرأة لمسؤوليتها في رعاية الزوج وتربية الأولاد ورعايتهم، وفي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال:”كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ”. أخرجه البخاري: (5200)، ومسلم (1829).
وبيان منافع وفوائد الزواج، وتيسير أموره، وتأهيل الشباب المقبلين على الزواج: دينيًا ونفسيًا واجتماعيًا وماليًا وصحيًا، كفيل بأن يحل الكثير من المشكلات التي تواجه الأسرة المعاصرة، وبخاصة في السنوات الأولى من الزواج والتي يكثر فيها وقوع الطلاق.