كان طريق الفتح الإسلامي المبين الذي سار فيه القائد الكبير عقبة بن نافع الفهري (رحمه الله ورضي عنه) على الهدي الرباني في سبيل رفع راية التوحيد، ودعوة الأمم إلى الحق والهداية، وإعلاء كلمة الله في الأرض، تنفيذاً لأوامره – عز وجل – وابتغاءً لمرضاته في قوله تعالى: “فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا” (النساء: 74).

منذ أن أمر الله المسلمين بقتال المشركين وأهل الباطل، سارت مواكب الفاتحين وانطلقت رايات التوحيد تجوب مشارق الأرض ومغاربها داعية إلى سبيل الله تعالى. وقد شكلت مرحلة الفتوحات الإسلامية بقيادة عقبة بن نافع الفهري في مرحلتيها،) الأولى بين50هـ و 55هـ والثانية بين 62هـ و64هـ(، منعطفا حاسما في تاريخ الفتوحات لبلاد المغرب بحيث اعتبرت التأسيس الفعلي لتواجد الإسلام في المنطقة.

فقد كان عقبة بن نافع أول من وضع أسس الاستقرار بالمنطقة من خلال تأسيسه لمدينة القيروان سنة50هـ، وبالتالي تجاوز الخطة الحربية السابقة التي كانت تقوم على عدم الاستقرار و الاكتفاء بالهجوم ثم العودة إلى مركز العمليات بمصر ،كما كان أول من توغل في بلاد المغرب إلى أقصى الغرب عند المحيط الأطلسي،  حيث جال في المنطقة شرقا و غربا،  وتمكن من التعرف على تضاريسها ومسالكها بشكل دقيق، جعلته  يمنح  المسلمين خريطة جغرافية مفصلة عن المنطقة والتي كانت مجهولة قبله.

وقد برزت شخصية القائد الإسلامي العظيم عقبة بن نافع كشخصية عسكرية كبيرة في التاريخ الإسلامي، وفي سجل الانتصارات العظيمة لأمة التوحيد. فهو من أوائل الفاتحين الذين شقوا طريق الإسلام عبر المغارب الأدنى والأوسط والأقصى منها حتى وصل سواحل الأطلسي أو ما يعرف حينها ببحر الظلمات.

ولذلك، فإن لعقبة دور حاسم في التحول التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي طرأ على الشمال الإفريقي في عصر التنوير الرباني ورسالة الإسلام. وله الفضل العظيم بعد فضل الله تبارك وتعالى في إيصال الدعوة الإسلامية إلى تلك الأصقاع وفي هداية أهل المغرب وسكانه من البربر (الأمازيغ) وغيرهم. فمن هو هذا القائد العسكري الإسلامي الكبير؟


من هو عقبة بن نافع؟

هو عقبة بن نافع بن عبد القيس بن لقيط بن عامر بن أميّة بن الظرب بن الحارث بن عامر بن فهر القرشي، وُلد قبل الهجرة بسنة، في عهد رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- إلّا أنّه لم يصحَبه (لكنه صحابي بالمولد، لأنه ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم). نشأ في بيئة إسلامية خالصة، ووالداه من السابقين إلى الإسلام، وهو أخ لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-، وأمه هي النابغة؛ ولهذا فعقبة يُعدّ أخاً لعمرو بن العاص لأمّه، إلّا أنّ هناك روايات تذكر أنّهم أبناء خالة، وأخرى تقول أنّ عقبة ابن أخت عمرو بن العاص، وهو عموما من أقرباء عمرو بن العاص.
وقد تأثّر عقبة بن نافع بالبيئة التي تربّى ونشأ فيها؛ فشارك في الفتوحات الإسلامية، بل إنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولّاه قيادة الجيوش، لشجاعته وقوّته، علماً أنّ عمر كان يعطي القيادة للصحابة فقط، إلّا استثناءً في حقّ عقبة، الذي لمع نجمه كقائد ومحارب، خاصة في المغرب العربيّ.
شهد عقبة مع عمرو بن العاص فتح مصر، ثم شارك معه في المعارك التي دارت في أفريقيا (تونس حاليا)، فولاه عمرو برقة بعد فتحها، فقاد منها حركة الفتح باتجاه الغرب، فظهرت مقدرته الحربية الفائقة وحنكته وشجاعته، وعلا شأنه.
ومن أحفاد عقبة بن نافع المشهورين يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري القرشي أحد القادة الدهاة، وعبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة مرة بن عقبة بن نافع الفهري أمه بربرية أمير من الشجعان الدهاة.

صفاته آثاره وتأثيره

قال شمس الدين الذهبي: كان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، وقال مفضل بن فضالة: كان عقبة بن نافع مجاب الدعوة. وهكذا يُذكَر من مناقب عقبة بن نافع أنّه كان مُتديِّناً وشجاعاً وحازماً، إلى جانب أنّه كان ذا دعوة مُجابة، وما وصل عقبة هذه المنزلة الرفيعة في الجهاد والقيادة إلّا لمُقوّمات كانت عنده، فقد كان يتّقي الله في شأنه كلّه، ويُكثر من ذِكره، والاستعانة به، وتفويض الأمر إليه، وكان يعتقد بأنّ النصر من عند الله، وأنّ انتصار المسلم هو انتصار لعقيدة الله -سبحانه وتعالى-، وكان حَسَن المعاملة مع جنوده؛ فكان يُحبّهم ويُحبّونه، ويثق بهم، ويطمئنّ على أمورهم، ويُجازي المُحسن منهم بما يستحقّ من الخير، ويتغاضى عن أخطائهم الصغيرة، ويُعاتب المُقصّر والمُخطئ بعبارة حَسنة، ولا يتتبّع عوراتهم، ولا زلّاتهم.

وتميّز عقبة عسكريّاً برجاحة عقله، وبخبرته في أمور الحرب والمكيدة والتدابير اللازمة، فكان يقتنص الفرص، ويفرض الحِيل، وكان لمّاحاً مُتيقِّظاً، قادراً على إدارة الأزمات، وإصدار القرارات سريعاً كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، كما كان حريصاً على سلامة جنوده، وكان يتحمّل مسؤوليّتهم، إضافة إلى أنّه كان مُتمكِّناً في الاستراتيجيّات العسكرية، ذا معرفة فيها، كمبدأ المُباغتة، وتأمين خطوط المواصلات، وإرسال الاستطلاعات، والحفاظ على المعنويّات، وغيرها من الاستراتيجيّات العسكريّة، وكان مُدرِكاً لنفسيّات جنوده، فيدخل الأمان إلى قلوبهم، ويدرك نفسيّات أعدائه فيدخل عليهم الرعب في الحروب.

عقبة الفاتح المُستجاب وباني المساجد

لم يقف عمل عقبة على الخطط العسكرية والفتح، بل رافق ذلك بناء المساجد، مثل مسجد درعة، ومسجد ماسة بالسوس الأقصى، كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القران وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور، ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم، وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام. وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة، فقد ترك عليها أبا مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد.

وعندما أمر عقبة بن نافع أصحابه ببناء القيروان قالوا: هذه غياض كثيرة السباع والهوام، فنخاف على أنفسنا هنا، وكان عقبة مستجاب الدعوة، فجمع من كان في عسكره من الصحابة (رضوان الله عليهم) جميعًا وكانوا ثمانية عشر، ونادى: أيتها الحشرات والسباع، نحن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فارحلوا عنا فإنا نازلون، فمن وجدناه بعدُ قتلناه، فنظر الناس يومئذ إلى أمر هائل، كان السبع يحمل أشباله والذئب يحمل أجراءه والحية تحمل أولادها وهم خارجون أسرابًا أسرابًا، فحمل ذلك كثيرًا من البربر وسكان المنطقة على الإسلام.

مسجد عقبة بن نافع قبل ترميمه وتوسعته

وذكر هذا الأمر العلامة الإمام أبو عبدالله الواقدي (صاحب أشهر كتاب في مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم) وقال أن القيروان كانت غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها عقبة، فلم يبق فيها شيء، وهربوا حتى إن الوحوش لتحمل أولادها. وروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: لما افتتح عقبة إفريقية، قال: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله، فاظعنوا، ثلاث مرات، فما رأينا حجرًا ولا شجرًا إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطن بطن الوادي. ثم قال للناس: انزلوا بسم الله.

كما يُروى أنه سلك طريقًا وعرة ليس فيها ماء، فأصابه وأصحابه العطش، فجعل فرس عقبة ينبش برجليه في الأرض حتى ظهرت صخرة، فانفجر الماء من حولها، فأمر عقبة بحفرها فخرج الماء وشربوا جميعًا، وسُمَّى هذا المكان بـ “ماء فرس”. فكان عُقبة يُلقَّب بـ “عقبة المُستجاب”.

بناء وتخطيط مدينة القيروان

من أشهر آثار عقبة الإنشائية تخطيط وبناء مدينة القيروان، والقيروان كما قال الأزهري: لفظ معرب، وهو بالفارسية كاروان (الجميل أو اللطيف)، وقد ورد في كلام العرب قديما. وتُعتبر من أقدم وأهم المدن الإسلامية، بل هي المدينة الإسلامية الأولى في بلاد المغرب، واستمرّ في بنائها قرابة خمس سنوات، فبنى بها عقبة الأبنية والأسواق، وبلغت مساحتها 13,600 ذراع، وأصبحت قاعدة انطلاق الفتوح ناحية المغربين الأوسط والأقصى، وبتمام بناء المدينة أمن المسلمون واطمأنوا في إفريقية، وثبت الإسلام فيها، وأقبل الأفارقة والبربر والسودان على السكن في القيروان، واعتنقوا الإسلام وامتزجوا مع العرب بمرور الوقت.

وأصبحت القيروان بعد وفاة عقبة أولى المراكز العلمية في المغرب العربي، ولقد قصدها أبناء المغرب وغيرها من البلاد المجاورة. وسكن بالمدينة العديد من التابعين، ومنها خرجت علوم المذهب المالكي، وإلى أئمتها كل عالم ينتسب وكان قاضي القيروان يمثل أعلى منصب ديني في عموم البلاد المغربية.

في سنة 50هـ، بدأت إفريقيا الإسلامية عهدا جديدا مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقيا منذ حداثة سنّه، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقيا ونشر الإسلام بين أهلها، هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها، وابتدأ بتخطيط دار الإمارة، ثم عمد إلى موضع المسجد الأعظم فاخْتَطَّه، ولكنه لم يحدث فيه بناء.

مسجد ومدينة القيروان التي أسسها عقبة بن نافع

لم يكن عقبة بن نافع قائداً عسكرياً محضاً فقط، بل كان صاحب عقلية مبدعة وفكر استراتيجي فذ وهو يصح أن يطلق عليه خبير بشئون المغرب والشمال الأفريقي، ومن خلال حملاته الجهادية المستمرة على الشمال الأفريقي، أدرك أهمية بناء مدينة إسلامية في هذه البقاع وذلك لعدة أسباب:

أسباب بناء مدينة القيروان:

تثبيت أقدام المسلمين والدعوة الإسلامية وبناء مدينة إسلامية خيرعلاج لظاهرة الخروج من الإسلام بعد الدخول فيه التي كانت منتشرة في أفريقيا.
ضرورة تكوين قاعدة حربية ثابتة في مواجهة التهديدات الرومية المتوقعة بعد فتح الشمال الأفريقي
من أسباب تراجع المسلمين عن إفريقية هو طول خط المواصلات بينهم وبين أقرب مرتكز لهم وهو “الفسطاط”، وخير وسيلة للاستقرار بالمغرب هي في الاحتفاظ بجيش دائم وذلك يستدعي إنشاء مدينة جديدة.
أن تكون هذه المدينة دار عزة ومنعة للمسلمين الفاتحين، ذلك لأنهم تفرقوا في البلاد كحاميات على المدن المفتوحة، وهذا التفرق قد يورث الضعف والوهن مع مرور الوقت خاصة لو دهم عدو كبير العدد هذه البلاد.

حملته الثانية من القيروان إلى الأطلسي

سار عقبة في جيش عظيم لإعلاء كلمة الجق ونشر الإسلام متجهاً إلى مدينة باغية، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه، والتقى المسلمون بأعدائهم في مدينة (تاهرت) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً. ثم استمر عقبة بن نافع غرباً قاصداً بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له: (أَرَبَه) وهي دار ملكهم، وكان حولها ثلاثمئة وستون قرية كلها عامرة.

 ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، ومنها إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى، حيث بنى مسجدا في مدينة درعة، ثم غادر صحارى مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة (تافللت) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة (أغمات)، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى، ودخل عاصمتها (ايجلي) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام، فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة (ماسة)، ومنها إلى رأس (إيفران) على البحر المحيط.

وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم اشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله، حتى لا يعبد أحد من دونك، ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبـد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1989، 590).

وصيته لأولاده

بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين، عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقيا، ثم لمّا أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي، ودعا لها قائلاً: يا رب املأها علماً وفقهاً، واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك.. وامنعها من جبابرة الأرض (ابن عذارى، البيان المغرب،23)، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة الاف، إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله، ثم قال:

يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملؤوا صدوركم بالشعر وتتركوا القران، فإن القران دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدّين ذُلٌّ بالنهار وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقَ لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله، ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا، ثم قال: عليكم سلام الله، وأُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا … ثم قال: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك (ابن عذارى، البيان المغرب، 23).

استشهاد عقبة بن نافع

كان عقبة بن نافع المجاهد المخلص يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو، نعى نفسه إلى أولاده، وطلب الشهادة، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كمينا عند قرية “تهودة”، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده عام 63هـ وعمره آنذاك في حدود 64 سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا، حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره.

وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة بن نافع في موقعة “تهودة” إلى جعله معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصدا القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج، وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه فقط ما يقرب من 300 من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً، وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به.

ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتآمروا عليه مع “كسيلة” زعيم قبائل أوْرَبَة وصَنْهَاجَة الأمازيغية وحاكم إفريقية لبضع سنوات، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعا لا قِبَلَ لهم به، عدته خمسون ألفا. فأقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في “تهودة”، ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء لا تزال معروفة في ذلك المكان، وأن بعض المسلمين يزورونها في مدينة “سيدي عقبة” التي سُميت على اسمه، وهي المدينة التي يقع بها اليوم مسجده وضريحه في مسجد “عقبة بن نافع”، وهو المسجد ذكره ابن خلدون وقال فيه: “إنه أشرف مزار في بقاع الأرض لما توفر فيه من عدد الشهداء والصحابة التابعين”. ويعد ثالث أقدم المساجد في المغرب العربي بعد مسجد القيروان ومسجد أبي المهاجر دينار.

وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من 40 عاماً قضاها في فتوح شمال إفريقيا، ابتداء بمصر وانتهاء بالمغرب الأقصى. إلا أن استشهاده كان له اثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقيا، وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات، وتأخرت الدعوة الإسلامية.