من يتابع مسيرة الفكر الإسلامي في القرن العشرين لا بد أن يصاب بالدهشة من الدوران حول أفكار بعينها طيلة القرن، وربما من قبل؛ كأننا نتحرك في حلقة مفرغة لا فكاك منها، ولم نغادر المقاعد رغم تباعد السنين!
فمن قضايا المرأة والاختلاط والخروج للعمل، إلى الموقف من الغرب والأخذ من حضارته، إلى أحكام الغناء والموسيقى، إلى الخلاف في العقائد والموقف من التصوف والأضرحة والتوسل.. يبدو المشهد وكأن الزمان جامد لا يتحرك!!
فلم هذا الأمر؟ أليس القرن- وبعض القضايا يمتد النقاش حولها لأكثر من ذلك!- فترة مناسبة لبلورة رؤية حول القضايا، والانتباه لما يستجد؟! ولم هذه الدائرة المفرغة من الأساس؟ ولماذا يتصل الجدل حول هذه القضايا كأننا ثابتون في الزمن، أو بالأدق: جامدون!
والإنصاف يقتضينا ابتداءً أن نشير إلى أن بعض هذه القضايا من الطبيعي أن تكون محلَّ خلاف؛ لأن النصوص حولها- قرآنًا أو سنة- لم تأتِ بصيغة قطعية، وإنما جاءت محتملة أوجه الخلاف، وتعدد الآراء.. وهذا من تيسير الإسلام ومرونته في التشريع؛ إذ جعل مساحة الأحكامَ القطعية في الثبوت والدلالة مساحةً قليلة جدًّا بالنظر لغيرها من الأحكام التي قد تكون قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة، أو ظنية الثبوت والدلالة معًا؛ مما يفتح المجال واسعًا لتعدد الآراء حولها بما يناسب طبائع الناس وأحوالهم وأزمانهم.. فلا خوف- حينئذ- من استمرار الخلاف والنقاش حول هذا النوع من القضايا، ما دمنا نلتزم أدب الخلاف، ونراعي الأولويات، ولا نعطي هذه القضايا أكبر من حجمها.
إذن، في هذه الدائرة المفرغة من القضايا، هناك قضايا من الطبيعي أن يظل الخلاف حولها؛ لأنه خلاف مرتبط بطبيعة النصوص الواردة فيها.. وهناك خلاف ليس من الطبيعي أن يستمر؛ لأن الزمن تجاوزه، ومستجدات الناس صارت أكبر منه بكثير..
وفي النوع الأول يكون المطلوب هو “إدارة” الخلاف الفقهي والفكري وليس منعه؛ بحيث يأخذ قدره من الأهمية ولا يتجاوزه.. وبحيث لا يعطل النظر في المستجدات.
أما لماذا توجد هذه الدائرة المفرغة من القضايا؟ فيمكن أن نشير في الجواب إلى أربعة أسباب مهمة؛ وهي: غياب التراكمية.. عدم ترتيب الألويات.. الغفلة عن التحديات.. الذهول عن التفكير المستقبلي.
غياب التراكمية
ونعني بالتراكمية أن يُبنَي اللاحق على جهود السابق، ويستفيد من حسناته، ويتجنب الوقوع في عثراته. وللأسف، لا يبدو هذا متحققًا في فكرنا الإسلامي، فهناك ما يشبه الانقطاع في جهود المفكرين والمصلحين؛ بحيث لا تتكامل الخبرات، ولا يبدأ أحدهم من حيث انتهى الآخرون.. وإنما هناك حالة من الدوران في ذات المسار، كأننا لا نتعلم ممن سبقنا، ولا نستفيد من أخطائنا، أو كأن كل واحد يعيد اختراع العجلة من جديد، كما يقول التعبير الشهير!
وعدم التراكمية هذا يؤدي حتمًا لاستمرار الدوران حول القضايا ذاتها، ولتكرار الجدل نفسه! لأنه إذا تشابهت المقدمات فلا ننتظر اختلاف النتائج!
وكمثال على ذلك، يكثر الجدل كل عام حول جواز إخراج صدقة الفطر نقودًا، كأننا نصوم في هذا العام لأول مرة!! مع أن هذه المسألة قُتلت بحثًا من قرون، ويتكرر الجدل حولها كل عام!!
فأين التراكمية في هذا؟ وهل يُعقل أن يحدث هذا الجدل المتجدد؟ ومتى نتفرغ لقضايا المهمة، ولمشكلاتنا المستجدة إذا ظللنا بهذه العقلية التي يبدو أنها تستلذ بمسار معين ولا تريد أن تغادره؟!
عدم ترتيب الأولويات
فحين نغفل عن ترتيب القضايا التي نواجهها، يكون من السهل أن تَبرز على السطح القضايا لا أقول الهامشية، وإنما الأقل أهمية، وأن تظل في الصدارة دون أن نتساءل: ما موقع هذه القضية من القضايا الأخرى ذات الأهمية والخطورة؟ وما مدى حاجتنا لها في وقتنا الراهن؟ وأين هي من “بناء الإسلام الكلي” الذي يحتوي على فرائض ونوافل، وثوابت ومتغيرات، وضروريات وحاجيات وتحسينيات، وغير ذلك مما أشار إليه الحديث الشريف: “الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً؛ فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ” (رواه مسلم عن أبي هريرة).
الغفلة عن التحديات
لا شك أن كل زمن يحمل معه قضاياه وإشكالياته، وأن انحباس العقلية في زمن معين يجعلها رهينة للقضايا والإشكاليات المرتبطة بذلك الزمان، دون الانتباه لما يستجد من قضايا مع الزمن الجديد، أي المعاصر.
طبعًا، لا أقصد التفلُّتَ من الأحكام تحت زعم “التاريخانية“، كما يحاول البعض.. لكني أقصد أن لكل زمن قضاياه التي تفرض نفسها على المفكر والفقيه وعلى المجتمع بأسره، وينبغي التعامل معها وعدم إهمالها لصالح قضايا أخرى تجاوزها الزمن أو ليست على ذات القدر من الأهمية.
ولنا أن نتعجب من أن البعض ما زال يثير الخلاف الموروث بين الأشاعرة وأهل الحديث، أو المعتزلة وغيرهم، كأننا لم نبرح القرن الثاني أو الثالث الهجري.. وما زال البعض يتحدث عن قضايا خلق القرآن والأسماء والصفات وغيرها، بالرغم من طروء مشكلات وتحديات أخرى تواجه المجتمع والشباب خاصة، وتفرض نوعًا آخر من التفكير والاهتمام.
نعم، لا بأس أن تظل تلك القضايا الموروثة محلَّ اهتمام، لكن في قاعات الدرس بين المتخصصين؛ ومن الخطورة أن يتردد صداها في المجال العام، وتقوم المعارك على إثرها كأنها قضايا بنت الساعة!
إن كل اهتمام بقضايا لا تمثل تحديًا معاصرًا، يكون خَصْمًا من القضايا التي يفرضها الواقع، وهروبًا مما يجب إلى ما يمكن تجاوزه!
الذهول عن التفكير المستقبلي
ومما يرتبط بما سبق، أن نغفل عن التفكير في المستقبل والتخطيط له؛ فهذا يجعلنا عرضةً لردة الفعل وليس لامتلاك زمام المبادرة، وأن نكون أسرى لما يُطرح علينا ولا نمتلك الأجندة الخاصة بنا في الفكر والفعل!
التفكير المستقبلي يعني ألا ننحصر في حدود الزمان والمكان اللذين نعيش فيهما، وألا نستسلم لضغط اللحظة الراهنة، وألا تستهلكنا القضايا المثارة.. كما يعني القدرة على فرز ما يواجهنا من تحديات ومشكلات، ورؤيته ضمن إطار متجاوِز يستبق ردة الفعل والتأثيرات.. وأن نتملك معايير نوعية في قياس ما يجب أن يشغلنا وما يعود علينا بالنفع أو الضرر.
أما الاستغراق في الهموم الحاضرة فإنه قد يجعلنا نكرر الأخطاء ذاتها، أو لا يساعدنا بالقدر الكافي على تجاوزها والتخفف من آثارها الجانبية..
تُرى، لو انشغل المسلمون بما ستكون عليه أوضاعهم، سواء في بلادهم أو في البلاد الغربية، بعد عشرين أو ثلاثين سنة.. هل سيظلون ينشغلون بالقضايا ذاتها التي تشغلهم في حاضرهم والتي كثير منها تشغلهم منذ عقود؛ أم إنهم سيغيرون من طريقة تعاطيهم مع الحاضر ومع الموروث من مشكلات الماضي!