إن صلة ذوي القربى والأرحام كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب، والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بَعُدُوا أو أساءوا، وقطعُ الرحم ضِدُّ ذلك كله، وهي من أعظم الواجبات وآكد الأوامر وأفضل الطاعات، وقطيعة الرحم من أعظم الذنوب وأخطر الآفات، لذلك جاء في تعظيمها فضائل كثيرة، وترتب عليها الأجر والثواب، ومما يؤكد على حقيقة الواصل وتمييزه عن العادات المخالفة لمقاصدها ما جاء في الحديث الشريف: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذى إذا قطعت رحمه وصلها).
قال ابن بطال: قوله عليه السلام: (ليس الواصل بالمكافىء) يعنى: ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها. وقد روى هذا المعنى عن عمر بن الخطاب، روى عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع عكرمة يحدث عن ابن عباس قال: قال عمر ابن الخطاب: (ليس الواصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الواصل أن تصل من قطعك).
قال ابن حجر في الفتح: ”قوله ليس الواصل بالمكافئ، أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير.. قال عمر: ليس الوصل أن تصل من وصلك ذلك القصاص ولكن الوصل أن تصل من قطعك.
ونقل عن الطيبي: المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه. وقال شيخنا في شرح الترمذي – أي العراقي -: المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل فإن في المكافأة نوع صلة بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك وهو من قبيل ليس الشديد بالصرعة وليس الغنى عن كثرة العرض[1].
وما ذكره ابن حجر نقلا عن الطيبي وشيخه الحافظ العراقي تأويل لوقوع فعل “ليس” الذي يفيد النفي في بداية الحديث، والبحث عن دلالته في الحديث، فالطيبي يحمل “ليس الواصل” على بيان حقيقة الواصل، بينما يحمله الحافظ العراقي على نفي كمال الوصل، فالمراد هنا ليس الواصل الكامل، لأن مكافأة القريب الواصل مثلا بالمثل نوع من الوصل، ولكن الحديث يدلنا على كمال الوصل وهو وصل القريب القاطع.
اختار ابن حجر في بيان المقصود بقوله “ليس الواصل”، أنه لا يلزم من هذا النفي وجود القطع، ولكن النفي في الحديث يشير إلى وجود درجات للواصل والقاطع. ومما قال: “لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات مواصل ومكافىء وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ حينئذ فهو الواصل فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا”.
ما المقصود بالواصل؟
ويفهم من صفات الواصل ما يأتي:
- تعظيم شأن صلة الرحم كما عظمها الله تعالى فقال عز من قائل: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾ [النساء: 1] فكان العرب يسأل بعضهم بعضا بالأرحام تعظيما لمكانته وشرفه، فيقولون: “ناشدتك الله والرحم”.
- المبادرة والمبادأة في وصل الأقارب بالعناية والرعاية والإحسان وهذه الدرجة العليا في صلة الأرحام.
- المثابرة والمداومة على هذه الرعاية لحقوق ذوي القربى ولأرحام حتى لو بدا من أحدهم الجفاء واللامبالاة.
- أن عادته وصل من قطعه وهاجره من ذوي القربى، ومن باب الأولى وصل القريب المواصل، وهذا له حقان: حق الوصل والمكافأة.
- الواصل المكافئ في الإحسان لم يبلغ درجة الكمال في صلة الرحم والإحسان إليه بل يعد ذلك من باب القطيعة. والله المستعان.
ما هي حقوق ذوي القربى؟
وحق ذوي القربى نوعان:
النوع الأول: حق العطاء إن كان فقيرا فإن عليه نفقته إذا احتاج، كما أنه يرثه إذا مات غنيا، وقد قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: 61].
ولا يقتصر العطاء على المحارم، بل ذوو الأرحام جميعا لهم حق في ماله إذا احتاجوا، وقد قال تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75].
النوع الثاني: من حقهم أن يصلهم بالمودة الواصلة فيزورهم ويعودهم، ويتعرف أحوالهم، ولو كانوا لَا يصلونه، كما قال النبي – ﷺ -: ” ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة .
ذكر الزمخشري: حقهم غير المالي فقال: (حقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك)[2].
[1] «فتح الباري لابن حجر» (10/ 424).
[2] «زهرة التفاسير» (8/ 4367)