تحت عنوان “الأديان وتربية النشء في ظل المتغيرات الأسرية المعاصرة”، وتحت شعار: “التكامل الأسري – دين وقيم وتربية”، انطلقت أعمال مؤتمر الدوحة الـ 15 لحوار الأديان في الدوحة يوم الثلاثاء السابع من مايو 2024، بمشاركة علماء وقادة دينيين وباحثين وأكاديميين ومتخصصين في قضايا التنمية الأسرية والاجتماعية.

إن الأسرة في مفهومها الدقيق (رجل وامرأة وأبناء)، هي مقصد النظر في الطرح في هذا المؤتمر، ولكن هذا المفهوم للأسرة يتسع باتساع دوائر الانتماءات المختلفة، حتى نصل إلى الأسرة الإنسانية الكبرى، والتي هي من أب واحد وأم واحدة.

والتوازن المنشود في تلك المنظومة الأسرية منذ نشأتها قائم بتكامل الأدوار بين الرجل والمرأة، وليس بتبديلها أو اختلالها أو محوها، من غير تفريط في حق لأحدهما أو اعتداء وهضم لحق الآخر.

 ففي الإسلام نطالع قوله تعالى في سورة النحل -الآية 27: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات).

لماذا حوار الأديان والأسرة؟

وإن كنا لا ننكر الاختلاف الديني والثقافي والاجتماعي بين بني البشر، إلا أننا في الوقت ذاته- نؤمن جميعا بالقيم الدينية المشتركة التي كرست مفهوم الأسرة، وأسست لقيم التراحم والتكافل والتعاون بين أفرادها، ورسخت للعلاقة المقدسة بينهم – أزواجا وزوجات- أبناء وبنات. ففي ضوء الوحي الإلهي والتشريعات والوصايا، أولت الأديان عناية فائقة بالأسرة، فأرست لها دعائم روحية وفكرية وأخلاقية، تستند عليها في التأسيس والبقاء والتطور، وتحقيق الترابط والنجاح، وقدمت حلول لمشاكلها الاجتماعية والتربوية والنفسية.

والمتأمل في قضايا عاملنا المعاصر بما فيها من تشابك في الجذور التاريخية والثقافية، وتشابه في الأسباب والآثار والنتائج، ليدرك أنه لا يمكن التعامل مع هذه القضايا وتقدير حلول لها إلا من خلال تفكيكها والبحث عن أصولها وأسباب امتدادها.

 ولعل الأسرة هي العامل المشترك الذي يمكن أن تتمثل فيه بصورة مركزة مشكلات العالم، وتجتمع فيه قضايا المجتمعات بكل مكوناتها، وهي كذلك عامل مؤثر وفعال على جميع الأصعدة بكل حقولها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية، وذلك لأن الأسرة هي المؤسس الرئيسي لغراس القيم الإنسانية، والمنبع العاطفي الأول للمودة والتراحم، وهي اللبنة الأساسية لبناء أي مجتمع، وأن تماسك المنظومة الأسرية يعد السبيل الوحيد للحفاظ على المجتمعات والأوطان.

محاور المؤتمر

من هذا المنطلق جاء موضوع “الأديان وتربية النشء في ظل المتغيرات الأسرية المعاصرة” عنوانا لمؤتمر الدوحة الخامس عشر لحوار الأديان، وذلك وفقا للمحاور الثلاثة التالية:

المحور الأول: الأديان وهوية المنظومة الأسرية

هيكل البناء الأسري في الأديان (المفهوم والمكانة والمسؤولية)

القيم الدينية والتربوية وتحقيق التكامل الأسري

الأديان والتضامن الأسري (الحقوق والمسؤوليات)

المحور الثاني: الدور المركزي للأسرة في التنشأة والتربية

مقومات البناء الداخلي للأسرة السليمة

الأسرة وتأثيرها في التنمية والنهضة للمجتمعات والأوطان

التدخلات الخارجية وزعزعة الدور المركزي للأسرة

المحور الثالث: قضايا الأسرة المعاصرة (سبل الدعم والمعالجة والحلول)

دور المؤسسات الرسمية والدينية ومنظمات المجتمع المدني في دعم الأسرة

الأسرة والتحديات المعاصرة في المجتمعات متعددة الأديان والثقافات

الأسرة في ظل القوانين الوطنية والدولية بين التأييد والانتقاد

أما في الجلسة الختامية لمؤتمر حوار الأديان في نسخته الـ 15فتناقش الصراعات والنزاعات المسلحة وآثرها على الأسرة.

النعيمي: ضرورة الاستفادة من حوار الأديان لتعزيز القيم الأسرية

وقال رئيس مجلس إدارة مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان الدكتور إبراهيم النعيمي في كلمته بالمؤتمر الذي يستمر يومين “إننا نؤمن جميعا بالقيم الدينية المشتركة التي كرست لمفهوم الأسرة وأسست لقيم التراحم والتكافل والتعاون بين أفرادها ورسخت للعلاقة المقدسة بينهم”.

وأضاف أن المنظومة الأسرية في الأديان السماوية بينها تشابه كبير في هويتها ومفهومها وقيمها ومبادئها باعتبارها النواة الصلبة للمجتمع لاسيما في الترابط والصلة والتربية والتراحم مشيرا الى أن الأديان أولت عناية فائقة بالأسرة فأرست لها دعائم روحية وفكرية وأخلاقية تستند إليها في التأسيس والبقاء والتطور وتحقيق الترابط والنجاح.

وأكد النعيمي أهمية الاستفادة من حوار الأديان لتعزيز القيم الأسرية التي باتت تتعرض اليوم في ظل المتغيرات المعاصرة لتحديات عميقة وجذرية وتدخلات خارجية تفرز عددا من التحولات المفزعة والمخاطر العظيمة المهددة للمنظومة الأسرية.

النسخة الـ 15 من مؤتمر الدوحة لحوار الأديان .. الأسرة أولا
النعيمي في افتتاح مؤتمر الدوحة الـ 15 لحوار الأديان

وبين أن المؤتمر يناقش أربعة محاور رئيسة الأول بيان هيكل البناء الأسري مفهوما ومكانة ومسؤولية وذلك من منظور الأديان فيما يناقش المحور الثاني بيان الدور المركزي للأسرة في التنشئة والتربية مع التركيز على مقومات البناء الداخلي للأسرة السليمة وأثرها في التنمية والنهضة للمجتمعات والأوطان.

أما المحور الثالث في مؤتمر حوار الأديان فيناقش قضايا الأسرة المعاصرة في محاولة استيضاحها وأثرها على الأسرة وكيفية تقديم سبل الدعم والمعالجة لتلك القضايا فيما سيكون المحور الرابع عن الصراعات والنزاعات المسلحة وأثرها على الأسرة.

التكامل الأسري.. دين وقيم وتربية

ولفت النعيمي إلى أن المؤتمر وشعاره “التكامل الأسري.. دين وقيم وتربية” يتناول، ضمن محاوره، قواسم مشتركة تعنى بالأسرة في ظل ما يشهده عالمنا المعاصر من متغيرات، وفي ظل ما تتعرض له الأسرة من تشويه وتحديات عديدة في العالم لم تكن موجودة في السابق، مشيرا إلى أن الأديان أولت عناية فائقة بالأسرة، وأرست لها دعائم روحية وفكرية وأخلاقية تستند إليها في التأسيس والبقاء والتطور، وتحقيق الترابط والنجاح، وقدمت حلولا لمشاكلها الاجتماعية والتربوية والنفسية.

كما ثمن الاهتمام الكبير الذي توليه دولة قطر، في ظل توجيهات حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى (حفظه الله ورعاه)، للأسرة، باعتبارها قوام المجتمع وأساس نهضة الوطن، وقال إن إنشاء وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة مكسب لقطر وللأسرة القطرية، وتجسيد حقيقي لهذه العناية الأسرية والاجتماعية، وللقيم الأسرية القطرية الأصيلة. وشدد على أن الأسرة في قطر مواطنة ومقيمة، بخير، مترابطة ومتماسكة، بفضل ما تحظى به من اهتمام ورعاية فائقة، وهي عامل أساسي وإيجابي في تطور الوطن وتقدمه.

500 شخصية متخصصة في الأديان والأسرة

وذكر النعيمي أن حوالي 500 شخصية من علماء وقادة دينيين وباحثين وأكاديميين ومتخصصين في قضايا التنمية الأسرية والاجتماعية ومهتمين يشاركون في مؤتمر حوار الأديان في نسخته الـ 15، ويثرون نقاشاته حول موضوعه الحيوي والمهم، منهم نحو 200 مشارك من داخل قطر، مبينا أنه تم اختيار 90 بحثا للمناقشة خلال يومي المؤتمر من بين 300 بحث تقدم أصحابها للمشاركة بها في المؤتمر.

وأوضح أن الهدف من هذه المؤتمرات منذ إطلاقها أول مرة عام 2003 هو التحاور والنقاش بين أتباع الديانات السماوية الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية) حول الكثير من القضايا اليومية، التي تهم المجتمعات والبشرية عموما، ما يؤدي لمزيد من التواصل والتعاون وبناء الثقة.

ونوه رئيس مجلس إدارة مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، إلى أن كل الأديان تدعو إلى وحدة الأسرة، وتؤكد على قضية التماسك الأسري بين مكوناتها وعناصرها المختلفة، وعلى قيم التراحم والتعاون بينها “الأب والأم والأبناء”، وعلى موضوع الزواج الطبيعي، وتكوين الأسرة الطبيعية، مبينا أن الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الإسلام وكذا شواهد في الأديان السماوية الأخرى تدعو للتوجه نفسه، وإلى ضرورة حماية الأسرة من الضرر باعتبارها اللبنة الأساسية وحجر الأساس في بناء أي مجتمع، ما يعني أن الدين عامل مهم في بناء الأسرة، وهو ما يحتم على أي مجتمع إبقاء شعلة الأسرة متقدة دائما، سليمة، مترابطة ومتكاملة، مؤكدا على دور الجميع بما في ذلك المؤسسات التربوية والأكاديمية والدينية والثقافية والمدنية والبحثية الرسمية، وغيرها في دعم تكاتف وتماسك الأسرة.

كما نبه إلى أن المشكلات والأزمات العديدة التي يمر بها العالم اليوم، بما فيها الاقتصادية تؤثر على التماسك الأسري وعلى قدسية الأسرة، وأنه من هنا سينظر المشاركون في كيفية التعامل مع هذا التحدي، معتبرا أن موضوع المؤتمر وشعاره وما يتصل بهوية وهيكل المنظومة الأسرية ومكانتها ومسؤولية وحقوق كل فرد فيها، ودورها المركزي في التنشئة والتربية، وكذا القيم التربوية والدينية وتحقيق التكامل الأسري، تعد قضايا أساسية لجميع الأديان.

وقال إنه من خلال النقاش والمداخلات الثرية والقوية لمحاور مؤتمر حوار الأديان المختلفة حول الأسرة، سيخرج المشاركون بنتائج وتوصيات مهمة تخدم البشرية فيما يعنى بقضايا الأسرة المختلفة وتماسكها وسلامتها واستقرارها.

الخاطر: حوار الأديان يفتح آفاقا إنسانية جديدة

من جهتها شددت وزير الدولة للتعاون الدولي بوزارة الخارجية القطرية لولوة الخاطر على أهمية الحوار وتبادل الآراء والأفكار لمد جسور التعاون والثقة في عالم تمزقه الصراعات داعية الى تحقيق الهدف السامي في تلاقي أهل الإيمان والمختصين لفتح آفاق إنسانية جديدة لإيجاد سبل وحلول للتعامل مع القضايا المعاصرة الملحة منها قضايا الأسرة المعاصرة وتربية النشء.

وأكدت أن انتهاكات حقوق الأسرة والمرأة والطفل في هذه الآونة تتكشف بصورة صارخة فيما يتعرض له أهل غزة حاليا. وقالت الخاطر أنه ورغم كل التخاذل الرسمي إلا أن الوعي الجمعي للناس بجميع أديانهم وأعرافهم وتوجهاتهم قد تجاوز السردية المدفوعة في مساحات العالم التقليدي ليخلق فضاء حرا جديدا.

وأوضحت أن موضوع المؤتمر يتوافق مع القناعة الراسخة في دولة قطر بمحورية الأسرة في بناء المجتمعات ومركزية الدين والأخلاق في هذا البناء، وهو ما ينص عليه الدستور القطري بشكل صريح بأن “الأسرة قوام المجتمع، قوامها الدين والأخلاق”.

وأشارت إلى أن مؤتمر حوار الأديان هذا يعد استكمالا لمسيرة طويلة من اللقاءات التي تجمع القادة والعلماء من العالم للحوار البنّاء القائم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر، معبّرة عن أملها في أن ينجح المؤتمر في تحقيق ما فشل فيه السياسيون.

وعبرت الخاطر عن تمنياتها بالنجاح والتوفيق للمؤتمر في الخروج بمقترحات ومبادرات تسهم في تمكين الأسرة للنهوض بها وبدورها.

هذا ومنحت “جائزة الدوحة العالمية لحوار الأديان” في دورتها الخامسة إلى كل من مدير عام “مؤسسة الأميرة تغريد للتنمية والتدريب” أغادير جويحان في فئة الأفراد كما فاز بذات الفئة الدكتور مادس جيلبرت وهو ناشط إغاثي في مناطق الحروب والنزاعات خاصة في غزة.

وفي فئة المؤسسات فازت “جمعية الوقف الإسلامي الياباني” و “منظمة الصداقة للتنمية المجتمعية المستدامة الصينية”، فيما قررت لجنة تحكيم جائزة الدوحة العالمية لحوار الأديان منح جائزة خاصة للأسرة الفلسطينية الصامدة في غزة.