هل يمكن أن يُعاد رسم خريطة الفهم بين الشرق والغرب بعد قرون من التصورات النمطية؟ مؤتمر الدوحة الدولي للاستشراق قد يكون نقطة التحول المنتظرة. شهدت العاصمة القطرية الدوحة اختتام أول مؤتمر دولي للاستشراق في العالم العربي، بمشاركة أكثر من 300 مفكر من 50 دولة و1300 متابع للنقاشات الفكرية، ليفتح آفاقاً جديدة لإعادة قراءة الاستشراق من منظور معاصر يكرّس الحوار الحضاري ويواجه الصور النمطية.

المؤتمر الدولي للاستشراق كان فرصة للمهتمين بفهم كيف تتغير الدراسات الاستشراقية اليوم، وكيف يمكن أن تسهم هذه اللقاءات الفكرية في بناء جسور حقيقية بين الشرق والغرب بعيدًا عن الأحكام المسبقة، وكان أيضا فرصة ثمينة لاستكشاف رؤى نقدية وعلمية حديثة.

اختتام المؤتمر الدولي للاستشراق كان في أجواء مفعمة بالحوار الفكري العميق، وبمشاركة نخبة من المفكرين والأكاديميين من مختلف أنحاء العالم، الذين أثروا النقاشات بحضورهم ومساهماتهم القيمة التي أضافت زخمًا فكريًّا استثنائيًّا على هذا الحدث الأول من نوعه في العالم العربي. حيث عبر المشاركون عن أملهم أن يكون خطوة نحو تحقيق تواصل حضاري أكثر توازنًا.

تحت شعار: “نحو تواصل حضاري متوازن”، اختتمت بالعاصمة القطرية الدوحة أعمال المؤتمر الدولي للاستشراق في نسخته الأولى، بمشاركة نخبة من المفكرين والباحثين والمختصين في قضايا الاستشراق، تجاوز عددهم 300 مشارك، قدموا من 50 دولة من مختلف أنحاء العالم.

1300 شخص .. فقط لإثراء النقاشات

كما استضاف المؤتمر 1300 شخص تفاعلوا وأثْروا النقاشات في جلسات المؤتمر على مدار يومين من انعقاده، بحضور شخصيات رفيعة المستوى، من بينها الدكتور طارق متري نائب رئيس وزراء الجمهورية اللبنانية، والدكتور إبراهيم قالن المفكر والسياسي التركي، وغسان سلامة وزير الثقافة اللبناني، والدكتور مامادو تانغارا، وزير الخارجية والتعاون الدولي لدولة غامبيا، بالإضافة إلى نخبة من المفكرين والأكاديميين البارزين.

مؤتمر دولي حول الاستشراق في الدوحة، يتضمن مجموعة من المتحدثين على المنصة، بينهم رجال ونساء يرتدون ملابس رسمية. الخلفية تحمل شعار المؤتمر.
في اختتام المؤتمر الدولي للاستشراق

وجاء تنظيم المؤتمر بمبادرة من وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي ومركز مناظرات قطر، بالشراكة مع اللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات بوزارة الخارجية، وبالتعاون مع جامعة قطر، وجامعة حمد بن خليفة، ومعهد الدوحة للدراسات العليا، بالإضافة إلى مؤسسات دولية مثل جامعة لايدن الهولندية، ومعهد الدراسات المتقدمة في سراييفو، وجامعة داغستان الحكومية.

منصة فكرية وأكاديمية لدراسة الاستشراق الجديد

مثل المؤتمر، في نسخته الأولى، منصة فكرية وأكاديمية لدراسة الاستشراق الجديد وتجلياته المختلفة، حيث جمع نخبة من المستشرقين والمفكرين والباحثين لبحث واقع الدراسات الاستشراقية وتطورها، واستعراض مواقفها التاريخية والمعاصرة من قضايا العصر، فضلا عن تفاعل الشرق والغرب عبر التاريخ.

ويهدف المؤتمر إلى تمكين الباحثين من تبادل الخبرات مع كبار العلماء في مجالات الاستشراق والدراسات العربية والإسلامية، وتعزيز سبل التعاون المستقبلي بينهم، بالإضافة إلى إعادة قراءة مفهوم الاستشراق وتحليله من منظور معاصر، مع التركيز على تعزيز الحوار بين الحضارات، وتفكيك الصور النمطية السائدة، وخلق توازن بين المقاربات الفكرية المختلفة، من خلال لقاءات علمية مفتوحة، تسهم في نقل الاستشراق من دائرة التوترات الأيديولوجية إلى فضاء البحث العلمي الرصين، بما يعزز التواصل بين المجتمعات الإنسانية.

وتعد استضافة دولة قطر لهذا المؤتمر تتويجا لمسيرتها الرائدة في تعزيز الحوار الثقافي والحضاري بين مختلف شعوب العالم، وترسيخا لمكانتها منارة عالمية للفكر والثقافة والتعليم، وجسرا للتواصل بين الثقافات والشعوب، في لحظة تاريخية تحتاج فيها الإنسانية إلى مد جسور الفهم والتعاون أكثر من أي وقت مضى. وقد تعرض المؤتمر إلى موضوع علاقة الإسلام بالاستشراق في العديد من الندوات، سواء من خلال عناوينها المباشرة، أو من خلال اتجاهات بعض المفكرين إلى ضرورة تحليل هذه الثنائية.

الاستشراق ومناهج الغرب في دراسة الإسلام

طرح “المؤتمر الدولي للاستشراق” سؤاله المركزي عما يستجد في الدراسات الاستشراقية في هذه اللحظة تجاه الإسلام والعالم العربي، بعد قرون من بدايات الاستشراق في العصور الوسطى، ثم تحوله إلى مؤسسة غربية في القرن الثامن عشر، سبقت ورافقت الاستعمار الحديث.

ففي ندوة بعنوان “مناهج الغرب في دراسة الإسلام: نقد، مراجعة، وتأملات مستقبلية” أدار جلستها الدكتور علي السند وشارك فيها كلا من الدكتور سامر رشواني الذي تحدث عن المناهج والمقاصد في بنية السورة القرآنية في الدراسات الغربية المعاصرة، والدكتور معتز الخطيب الذي أجرى مراجعة نقدية للمنهج الاستشراقي في نقد الحديث، والدكتور عمرو عثمان الذي تمحورت مداخلته حول التاريخ والمستقبل في موضوع الاستشراق والفقه الإسلامي، بالإضافة إلى الدكتور عبد الرحمن حللي الذي كانت محاضرته بعنوان “اللاهوت الإسلامي في ألمانيا: الاستشراق معممًا”.

دراسات الاستشراق وترجمة النصوص الإسلامية

وفي ندوة بعنوان “دراسات الاستشراق وترجمة النصوص الإسلامية” أدراها الدكتور أحمد خان، تحدث الدكتور محمد سعيد نديم ملاح عن تطور نظرة الغرب للإسلام عبر دراسة ترجمات القرآن الكريم اللاتينية، وتحدث الدكتور أحمد حسن أنور حسن عن موضوع في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ الاستشراق في البلاد الإسلامية وهو “التصوف الإسلامي” وقد ركز الأستاذ أحمد حسن في مداخلته عن التصوف الإسلامي في الاستشراق الإيطالي المعاصر، متخذا من المستشرق جوزيبي سكاتولين نموذجًا، أما الدكتور محمد بن حسين فقد تناول موضوع حركة ترجمة المواد الإسلامية في العالم الملايوي: ترجمة القرآن نموذجًا.

من جهته ذهب الأستاذ الدكتور أحمد محمد ويس إلى بحث جديد الاستشراقِ الجديدِ في الدراسات القرآنية، وكانت مداخلته عبارة عن تأمّلات في منجَز المستشرقة الألمانية إنجليكا نويفيرت.

الإسلام وتطوّر الرؤية الاستشراقية

وكانت ندوة “تطوّر الرؤية الاستشراقية: قراءات جديدة في الإسلام والعالم العربي” غنية بالأفكار والأخبار أيضا، ولم تخل من دعابات مدير الجلسة: الدكتور سلام مسافر ومن ضيوفه أيضا. حيث تحدث الدكتور الباحث السويدي يان هينينغسون عن “الاستشراق من الخارج البعيد” وأشار في العديد من المرات عن تأثير انتشار اللغة العربية في السويد.

واختار الدكتور تماش إيفاني والدكتورة كينغا ديفيني (وكلاهما من المجر) موضوعا مشتركا لمحاضرة بعنوان “العلم الجيد يستلهمه الحب ويهديه المعرفة” حيث تحدثت ديفيني (باللغة العربية) عن قرب المجتمع المجري من الغرب وعن رحلات العرب إلى الأراضي المجرية وعلاقة التأثير والتأثر التي كانت تحدث من حين لآخر في فترات مختلفة، مركزة في بحثها عن العهد العثماني.

مؤتمر عن الاستشراق في الدوحة، يتضمن صورة تاريخية لشخصيات بارزة، مع متحدث يقدم عرضًا أمام جمهور. يظهر في الخلفية شريط يعرض صورًا لأفراد من التاريخ الاستشراقي.
الدكتورة كينغا ديفيني أثناء تقديم مداخلتها

أما الدكتور تماش إيفاني فقد ركز في مجل مداخلته على المستشرق المجري جوليوس عبد الكريم جرمانوس العالِم الذي أتقن ثماني لغات، وألَّف بها وهي: العربية، والفارسية، والتركية، والأوردية، والألمانية، والمجرية، والإيطالية، والإنجليزية. وفي خضم حديثه عن اللغات التي أتقنها جرمانوس رد إيفاني على مدير الجلسة الدكتور سلام مسافر “مداعبا” بأن اللغة المجرية ليست على الإطلاق أصعب من اللغة العربية. وختم إيفاني مداخلته بخبر هام عندما كشف بأنه علم قبل لحظات فقط بأن “قناة الجزيرة” ستنتج فيلما وثائقيا عن المستشرق المجري جوليوس عبد الكريم جرمانوس.

من جهته، كان للأستاذ الدكتور إبراهيم أبو محمد مداخلة في صورة تساؤل: ما الذي استجد في الدراسات الاستشراقية تجاه الإسلام والعالم العربي؟ فيما تحدث الأستاذ إبراهيم الجبين عن “الاستشراق في مهام متجددة”.

الاستشراق.. القيم الهوية المرأة والاستعمار

كما تضمن المؤتمر مناقشة العديد من المواضيع والمسائل المتعلق بالاستشراق من خلال ندوات تناولت قضايا مختلفة منها:

  • الاستشراق والإسلام، القيم، والهوية الثقافية
  • اللغة العربية في مرآة الاستشراق: دراسات لغوية وثقافية في السياق العالمي
  • أثر الاستشراق في تشكيل التاريخ والمعرفة والقرار السياسي
  • تحولات الخطاب الثقافي: إرث الاستشراق وسرديات ما بعد الاستعمار
  • المرأة والشرق في الخطاب الاستشراقي الجديد
  • الاستشراق في فضاءات متعددة: تجارب وطنية وتحولات معاصرة
  • بين الرحلة والسرد واللجوء: تحولات الاستشراق في الخطاب الغربي
  • الاستشراق بعد 11 سبتمبر: تحوّلات منهجية ورؤى قانونية ولغوية جديدة
  • ما بعد الاستشراق: مقاربات نقدية وتمثيلات غربية معاصرة للشرق
  • جلسات حوارية شبابية: الاستغراب والاستلاب

الاستشراق .. موضوع قديم يتجدّد

وعموما فقد حمل المشاركون في المؤتمر أطروحات مختلفة في حقول معرفية متنوعة، وبحسب ما يتبناه المؤتمر في مدونته، فإن الاستشراق بأبعاده المتنوعة ليس بالموضوع الجديد، لكن هذا لا ينفي مشروعية الاستمرار في درسه، فهو ليس حدثاً عارضاً ولا موضوعاً ظرفياً، بل هو عملية مستمرة لن تتوقف ما دام الغرب مستمراً باتصاله بالشرق.

تنشأ في هذا الخضم المصطلحات التي تتجدد، خصوصاً بسبب الطابع الصراعي والتنميطي من قبل ومن بعد، مثل نشوء مصطلح الاستغراب الذي نشأ في منتصف القرن الماضي، وهو مع الاستشراق يعكس كل منهما علاقات قوى ورغبة في تفسير “الآخر”، إما لإدارته وإما لإعادة تعريف الذات أمامه.

رجل مسن يرتدي زيًا تقليديًا قطريًا، يتحدث في مؤتمر حول الاستشراق في الدوحة، مع ميكروفون في يده وتركز الكاميرا عليه بينما يجلس على كرسي أبيض.

إلا أن مطالعة أسئلة المؤتمر الفرعية تشي بأن المسألة ليست أبداً ثنائيات استشراق واستغراب. ثمة سؤال عن الذي استجد في الدراسات الاستشراقية تجاه الإسلام والعالم العربي، وآخر يسأل عن أشكال الاستشراق الجديد واتجاهاته ومناهجه، وآخر عن ماذا يفترق الاستشراق في الشرق عن نظيره الأوروبي الغربي؟ وما مستجدات الاستشراق بعد الثورة الرقمية؟

نحو إعادة تحليل وتشريح الاستشراق

وفي النتيجة فإن المؤتمر الذي تنظمه قطر بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية منها جامعة لايدن الهولندية، ومعهد الدراسات المتقدمة في سراييفو، يهدف إلى توفير “منصة فكرية وأكاديمية لبحث واقع الدراسات الاستشراقية، ومواقفها من قضايا العصر”. وأهمية انعقاده تكمن في كونه أول منصة من نوعها في منطقة الشرق الأوسط التي شغلت بال المستشرقين لقرون، لكنها لم تشارك في السابق بشكل مباشر في مناقشة آليات تعامل المدارس الاستشراقية المختلفة مع قضاياها.

ويسعى المؤتمر إلى إعادة قراءة مفهوم الاستشراق وتحليله عبر منظور معاصر، مع التركيز على تعزيز الحوار بين الحضارات وتفكيك الصور النمطية السائدة، كما يهدف إلى خلق توازن بين المقاربات الفكرية المتنوعة من خلال لقاءات علمية مفتوحة، مُنتقلاً بالاستشراق من دائرة التوترات الأيديولوجية والتحيزات المسبقة إلى فضاء البحث العلمي الرصين، سعياً لتأسيس تواصل بنَّاء بين المجتمعات الإنسانية.