البريد من مؤسسات الحضارة الإسلامية وجانب مهم من جوانب النظام الإداري بها فهو الذي ربط الولايات المختلفة بحاضرة الخلافة، وحمل أخبارها إلى الخليفة، وسير تعليماته إلى الولاة والعمال، وكان انتظامه يعني انضواء الولايات الوارد منها تحت لواء الخلافة أما إيقافه من إحدى الولايات فيعد مظهرا من مظاهر رفع لواء العصيان والتمرد بها، ومن هنا أهتم المسلمون منذ صدر الإسلام بأمر البريد ووضعوا القواعد التي تنظم العمل به.
مقتطفات من تاريخ البريد
كان الاعتقاد السائد أن نظام البريد لم يتأسس إلا في عهد الدولة الأموية لكن الدراسات التاريخية الحديثة أكدت أن معرفة المسلمين للبريد كانت سابقة على تأسيس ديوان البريد، ذلك أن تباشيره بدت في أعقاب الهجرة إلى المدينة حين أقام النبي ﷺ حراسا ينقلون أخبار مكة إليه، وأقدمهم عبد الله بن أبي بكر الذي كان يأتيهما في الغار بأخبار قريش.
وكذلك لعب البريد دورا في نشر الدعوة خارج الجزيرة العربية في أواخر العام السادس للهجرة، حين كتب الرسول ﷺ إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، وعهد بها إلى رسل يثق بهم فبعث دحية بن الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبد الله بن السهمي إلى كسرى ملك الفرس، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ملكي عمان وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث ملك الغساسنة بالشام، ويبدو أن هذه الرسائل لم تكن محدودة العدد ذلك أن صاحب (مكاتيب الرسول) أورد مئات الرسائل التي أرسلت منه صلوات الله عليه إلى الحكام والأمراء في مناسبات مختلفة، وهي تبرهن على أن البريد شاع استخدامه في العهد النبوي وكان وسيلة من وسائل نشر الدعوة.
تعاظمت أهمية البريد في عهد الخلفاء الراشدين مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية من جهة وحاجتها للاتصال مع ما جاورها من البلدان من جهة أخرى، ولذلك أنشأ عمر بن خطاب ديوانا للبريد وعهد إلى (صاحب البريد) ببعض المهام الرقابية علاوة على مهمته البريدية المعتادة في نقل الرسائل إلى الجهات، وفي عهده كذلك تأسست المراكز البريدية في عواصم الأقاليم.
واصل خلفاء بني أمية الاهتمام بالبريد وكان مبعثه توسع حركة الفتوح وظهور الفتن الداخلية، ولذلك افترض ابن الطقطقي في كتابه (الفخري في الآداب السلطانية) أن معاوية بن أبي سفيان هو أول من اخترع ديوان البريد حتى تصله الأخبار بسرعة، والذي حمله على ذلك أنه أنه أحال رجلا على والي العراق بمائة ألف درهم، وكانت رسائلهم غير مختومة، فجعل الرجل المائة مائتين، فأنكر معاوية ذلك وأسس ديوانا للختم وجعل رسائله مختومة، وقد انتظم أمر البريد في عهد عبد الملك بن مروان الذي جعل عليه قبيصة بن ذؤيب أخص خواصه، ومنع حاجبه أن يحجب عنه صاحب البريد في أي وقت من نهار أو ليل لأنه ربما كان يحمل خبرا يخص استقرار الدولة وأمنه، وفي عهد عمر بن العزيز أقيمت الخانات على طريق البريد وسككه ليبيت فيها الناس، كما أنشئت أمكنة لإيواء الدواب وتم تجهيزها بأحواض المياه.
أما العباسيون فاعتبروا البريد ركنا ركينا من أركان الدولة إذ يؤثر عن أبي جعفر المنصور مؤسس الدولة قوله: إن أركان الملك أربعة لا يصلح إلا بها، أحدهم قاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة يأخذ للضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي لي ولا يظلم الرعية، والأخير صاحب بريد يكتب إلي بخبر العمال والرعية على وجه الصحة. وقد تطور البريد في العهد العباسي تطورا كبيرا فأطلق عليه ديوان الخرائط، واستخدم العباسيون عربات البريد لنقل النجدات العسكرية في مناطق الفتن والاضطراب، وقد ضعف الديوان مع ضعف الدولة فمع ظهور البويهيين قاموا بقطع البريد ليخفوا عن الخليفة أخبارهم حتى استطاعوا في النهاية غلبة الدولة.
وأما في العصر المملوكي فكان البريد موضع عناية السلاطين، ذلك أن هجوم التتار على بغداد قد قطع البريد الوارد منها وانقطعت معه الأخبار فكانت هناك حاجة ماسة لتقصي الأخبار بطرق أخرى، ويروى أن السلطان بيبرس أراد تنظيم أركان دولته وكان البريد من جملة ما اهتم به فعين الصاحب شرف الدين القلقشندي -عم المؤرخ شهاب الدين القلقشندي- كاتبا للإنشاء، ونقل القلقشندي عن عمه أنه أوصاه أن ينقل له الأخبار عن التتار والفرنج أولا بأول قائلا: “إن قدرت أن لا تبيتني كل ليلة إلا على خبر ولا تصبحني إلا على خبر فافعل”، وكان بيبرس يتلقى الرسائل ويرد عليها من فوره إذ يذكر ابن شداد كاتب سيرته أنه كان يرد على الرسائل متى وصلته حتى أنه كان يدع طعامه لهذا الغرض.
ديوان البريد: المهام والمكونات
اعتبر ديوان البريد من أهم الدواوين في الدولة الإسلامية فهو الذي كان ينقل الأخبار من الأمصار المختلفة إلى دار الخلافة، وكان عمال البريد عيونا على الولاة يراقبون أحوالهم وكيفية تصرفاتهم مع الرعية ويرفعونها إلى الخليفة، كما كانوا ينقلون أخبار تقدم الجيوش وسير الحروب إليه، ويعودون بتعليمات الخليفة إلى قواده وأمراءه، وأخبار الفتن الداخلية والحركات السرية، وإبلاغ الخبر بمن توفي من الحكام حتى يعين الخليفة من يخلفه، مما جعل دار الخلافة قادرة على متابعة سير الحوادث في الولايات التابعة لها، وعلى علم بما يجري فيها على نحو يؤهلها لاتخاذ قرارات تلائم هذه الحوادث.
وعلى هذا بالغ الخلفاء في الاهتمام بهذا الديوان وتحروا الدقة في اختيار من يتولى أمره واشترطوا فيه شروطا دقيقة؛ في مقدمتها الديانة والثقة، فقد ذكر ابن قدامة أنه ينبغي لصاحب البريد ” أن يكون ثقة، إما في نفسه أو عند الخليفة القائم بالأمر في وقته، لأن الديوان ليس فيه من العمل ما يحتاج معه إلى الكافي المتصفح وإنما يحتاج إلى الثقة المتحفظ”، وكلام ابن قدامة دقيق في فهم طبيعة عمل هذا الديوان الذي لا يحتاج إلى عالم متبحر درس العلوم وأمضى عمره في تحصيل دقائقها وإنما يحتاج إلى شخص تتوافر فيه الثقة ويؤتمن على أسرار الدولة.
وإلى جوار الثقة ينبغي أن تتوفر في رجل البريد شرائط أخرى من مثل الفراسة والحدس العقلي ليدرك ما يكتمه الولاة والأعداء في أحاديثهم إليه وأن يستدل على بعض الأمور ببعض، وأن يكون كثير الحيلة والدهاء، وأن يكون ذا معرفة بالبلاد التي يرسل إليها وعلى دراية بلسان أهلها حتى يرفع معلومات دقيقة عنها إلى الخلافة، وكذلك معرفة طبائع الحمام والخيل والبغال لأنها وسائل البريد الشائعة، ويشترط فيه كذلك أن يكون ذا جلد وله قدرة على التحمل حتى إذا ظفر به العدو لا يبوح بأحوال مرسله ولا يطلعه على وهن فيه أو في جيشه.
ويتألف ديوان البريد من بنية إدارية متكاملة من العمال ومن الإدارات ووسائل النقل، وأما من حيث العمال فيمكن القول أن العمال البريديون كانوا يشكلون هرما يتألف من:
- صاحب البريد: وهو المشرف على الديوان في دار الخلافة وهو يعين من قبل الخليفة شخصيا، وهو يتولى إيصال مكاتبات الخليفة إلى الولاة والعمال بالأمطار ويتلقى الرد عليها، ويشرف على العمال والموظفين بالديوان، كما كان يجمع الأخبار عن دول الأعداء، ويعد التقارير عن أعمال الولاة والعمال، ويرفع الحوادث وأنباء الثورات والفتن والحروب، وعلى هذا اعتبر صاحب البريد بمثابة عين الخليفة المبصرة وأذنه السامعة.
- عمال البريد في الولايات: وهم في المرتبة التالية، ومقرهم في ولاياتهم التابعة للخلافة، وهم يضطلعون بمهمة جمع الأخبار عن الولاة والرعية.
- الفروانقين: وهي كلمة محرفة عن برونك الفارسية ومعناها الدليل أو المنذر، وهؤلاء الموظفون أشبه بالمفتشين فهم مطالبون بتقديم تقارير مفصلة عن كل ما يحدث في خطوط البريد ومحطاته إلى ديوان البريد ، ومراقبة مسار الرسائل وتنظيمها وإرسالها إلى دار الخلافة.
- السعاة أو البريديون: وهم الذين يحملون البريد سيرا على الأقدام، وكانوا يتمتعون بخفة الحركة بل والرشاقة لأنهم يعدون ويهرولون بالرسائل، وقد تهافت الشبان في الطبقات الدنيا على هذه الوظيفة لأن مخصصاتها المالية كانت وفيرة.
- الوكلاء والمخبرون: وهم يساعدون عمال البريد في الولايات عن طريق جمع الأخبار عن الولاية.
- السفراء: وهم المختصون بالعلاقات الخارجية ويختار الخليفة من يحمل رسائله للحكام والأمراء من كبار رجال الدولة.
أما من حيث وسائل البريد فقد تعددت هي الأخرى، فكان لدينا بضع وسائل:
أولها، بريد الخيل ويطلق عليه اسم “الولاق”، وهو خيل تكون للسلطان في كل مسافة أربعة أميال، وقد استخدم المسلمون الإبل في صدر الإسلام لكنهم استعاضوا عنها بالخيل لسرعة عدوها، وكان قطار البريد يتألف عادة من أربعين أو خمسين دابة، وقد استخدم في الحالات الحرجة لنقل المحاربين والنجدات العسكرية سريعا، ولأجل ضمان تدفق البريد أعدت عبر طرق البريد مبان سميت بالمراكز البريدية يقف عندها رجال البريد من أجل تغيير الخيول.
وثانيها، “بريد الرجالة” الذين يقوم به رجال خفاف الحركة موفوري الصحة، وقد نشأ في عهد البويهين، وقد تحدث عنه ابن بطوطة في رحلاته وذكر بعضا من ترتيباته،
وثالثها، البريد الجوي المسمى “البريد المجنح” الذي كان ينقله نوع من الحمام يسمى الحمام الرسائلي أو الزاجل ويتم تدريبه وفق أساليب مقررة، ويراعى فيه شروط جسدية ذكرها الجاحظ في كتابه (الحيوان) وشروط أخرى من ثبات النظر وشدة الحذر والتلفت وخفة النهوض في الارتفاع وعدم الاضطراب أثناء الطيران، وما إلى ذلك، وكانت الرسالة تشد تحت جناح الحمامة بإحكام أو إلى ذيلها، وجرت العادة أن ترسل الرسالة الواحدة مرتين مع حمامتين تطلق أحدهما بعد الأخرى بنحو ساعتين خشية أن تضل إحداهما طريقها أو تقتنص بيد الأعداء أو تفترسها الجوارح.
وختاما يمكن القول أن مؤسسة البريد كانت مؤسسة حيوية في الحضارة الإسلامية، أسهمت في تماسك ديار الإسلام بربطها بين الولايات ودار الخلافة، وفي حمايتها من الأخطار والاضطرابات بنقلها أنباء العصاة وتحركات الأعداء.