“العام” كوحدة زمنية يصلح أن يكون مناسبة لنتوقف عندها، ونتدبر: ماذا يعني انصرام عام ومجيء عام آخر جديد؟
فمرور الأيام ينبغي ألا يكون شيئًا عاديًّا عندنا؛ لأن الزمن هو عمر الإنسان، وهو “المجال المعنوي” الذي نتحرك فيه، بجانب “المجال المادي” أي المكان.. وكلا المجالين يفرض على المرء العاقل أن ينتبه ويتأمل، وأن يتوقف لأخذ العبرة.
وليس “العام” فقط هو الوحدة الزمنية التي من الممكن أن نتوقف عندها.. هناك “اليوم والليلة” أيضًا كوحدة زمنية مصغَّرة، بما فيهما من الصلوات الخمس التي جُعلت أيضًا محطاتٍ زمنيةً أشد صغرًا للتأمل والمحاسبة.. وما أجمل الحديث الشريف الذي شبَّه فيه النبي ﷺ الصلوات الخمس بنهر يبرأ فيه الإنسان مما أصابه، فقال: “أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا” (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
والتوقف الذي نريده عند انقضاء عام وبَدْءِ عام آخر- ونحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا- هو التأمل والتدبر والمحاسبة.. لكننا هنا نريد أن نخرج بهذه المفاهيم- التي هي مؤكَّدة ومطلوبة في المنظور الإسلامي، قرآنًا وسنةً- من معانيها الشائعة الضيقة إلى معانٍ أخرى أوسع أفقًا، وأكثر إلحاحًا؛ ومع ذلك قلّما ننتبه إليها..!
ونعني المحاسبة هنا أمرين مهمين:
– ألا تقتصر هذه المحاسبة على ذات الفرد، وإنما تتعدى إلى ذات المجموع.. وإلى الأمة..
– أن تتجاوز مجال الشعائر (والعبادات بالمعنى الاصطلاحي)، إلى كل ما في اليوم والليلة- وكل ما في العام- من سَعْي ونشاط.. وإلى موقعنا من التاريخ، والحضارة، والخرائط التي يتشكّل منها العالم..
إن من المؤسف حقًّا أن تسير أمتنا غافلة لاهية، تفعل فيها الأيامُ فعلها وهي لا تنتبه ولا تتأمل، ولا تحاول أن تُسائل نفسها: لم حدث ما حدث؟ وهل كان من الممكن ألا يحدث؟ وما البديل؟ وما الواجب؟ وما الممكن؟
كأنما دخلت الأمة في سبات عميق! أو ضُرب على آذانها فلا تسمع، وعلى عينها فلا ترى، وعلى قلبها فلا تعقل، وعلى جوارحها فلا تؤدي ما خُلقت له؟!
أو كأنما هو “التيه”؛ أُدخِلنا فيه فلا نبصر أمامًا ولا خلفًا.. ولا تسمع حركة ولا حسًّا.. ولا تلمس غاية ولا هدفًا..!
لقد عاب الله تعالى على المنافقين أنهم تمر عليهم الأحداث والمحن فلا يتدبرونها ولا يأخذون منها العبرة؛ بل كلما مرت عليهم محنة فكأنهما تَزيدهم غفلةً إلى غفلتهم، وإعراضًا على إعراضهم: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126).
جاء في تفسير الطبري: ” أو لا يرى هؤلاء المنافقون أن الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين، ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته، فيتعظوا بها، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم.
وقال ابن كثير: “أولا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يُخْتَبَرُونَ ثم لا يتوبون من ذنوبهم السالفة، ولا هم يذَّكرون فيما يستقبل من أحوالهم”.
وما قاله ابن كثير كلام في غاية الأهمية؛ لأنه يلفت أنظارنا إلى أن المطلوب ليس فقط المحاسبةَ على ما مضى والتوبةَ منه، بل أيضًا التفكر فيما هو آتٍ والاستعداد له..! حتى لا تتحول المحاسبة إلى نوع من جَلْد الذات، وإنما تكون دافعةً إلى العمل، وإلى تبصُّر مواطئ القدم، وإلى العزم على تدارك ما فات.. حينئذ تكون المحاسبة فعلاً إيجابيًّا نابضًا بالحيوية، وليس مجرد شعورٍ بالتقصير، وتألمٍ لما وقع.
أليس حريًّا بعلمائنا ومفكرين وصنّاع القرار أن يعقدوا الندوات والملتقيات ليتدارسوا حال الأمة وكيفية الخروج منه.. وعلى فترات دورية، أشبه بالتقارير التي تصدرها المؤسسات الاقتصادية عن أرباح العام وخسائره! وعن خطط التنمية والانتشار! وعن الشراكات مع الآخرين والاندماج معهم إن تطلّب الأمر، وعن توقعات التوسع أو الانكماش..!
إن مسيرتنا- كأمة لها رسالة، وذات منهج، وأمامها تحديات- لهي أولى من الشركات الاقتصادية فيما تفعله، وأشد حاجة لذلك.
وكثيرًا ما نادى المصلحون والمجددون بضرورة هذه الوقفات من التأمل والتدبر، لمسيرنا ومصيرنا.. محذِّرين من الغفلة الحضارية، ومن التيه الفكري، ومن التخبط في الرؤية والخطوات.
يقول الشيخ الغزالي رحمه الله، في نصٍّ بليغ؛ يفيض وعيًا، وحسرةً مما آل إليه حال أمتنا: “إننا لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوًا ولا تنفع صديقًا؛ وتيار الأحداث الزاخر يلطم الوجوه، ويطوي جماهير بعد أخرى، ونحن لا نربط النتائج بأسبابها، وما فكرنا في دراسات ذكية جريئة لمعاصينا …. ؛ ولا أدري: لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مستقبل أمة من مليار إنسان شيء هيِّن؟ هل النكسات التي عرت رسالتها غير جديرة بالتأمل!” (من كتابه: جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج، ص: 101، 102).
إن الأزمة الحقيقية- في حال الغفلة وعدم الانتباه لما يُوجبه مرورُ الأيام- لا تنحصر فقط في أننا لا نعرف سبب ما حلَّ بنا من نكبات في الماضي، ونكون عاجزين عن فهم أحداث التاريخ وعبره.. بل يمتد ذلك- وهذا أخطر- إلى أننا لا نحسن استقبال الأيام الآتية بما يليق بها من أهبة واستعداد.. وبالتالي، نكرر الأخطاء، ونعيد إنتاج الأزمات وبشكل مضاعف، ونقع في نفس الحُفَر وبنتائج أكثر مأساوية..!
لهذا، كان “العام” وحدة زمنية مناسبة للتأمل والتدبر والمحاسبة.. عسى الله تعالى أن يَهبنا من لدنه رحمةً ووعيًا ورشدًا..!