للإنخراط في التفكير العملي وسياسة الإنجاز لابد أن نتجه أولا إلى قراءة السيرة العملية والأخلاقية لحياة المفكرين وفلاسفة الحضارة الإسلامية وكيف كانت حياة الشهداء الأبرار، يُحدثنا التاريخ عن سير العظماء، كيف خلدت خطواتهم في التاريخ، فلم تكن أعمارهم ساكنة وراكدة بل كانت أعمارهم متحركة وثورية لأنها فجرت طاقاتها الإيمانية والعمرانية، فيجب أن نسقي أنفسنا من عين تجارب هؤلاء ونشخذ من حكمهم وفلسفتهم، فمثلا من اللازم قراءة أولا سيرة النبي محمد ﷺ ونتبصّر منهجية تفكيره وتعامله مع الآخرين، بعدها نتجه إلى قراءة سيرة المفكرين والعظماء، مثل سيرة أبي حامد الغزالي، ابن خلدون، أبي الحسن العامري… أو قراءة سيرة مالك بن نبي وسيرة ابن باديس،…الخ من أجل أن نتجدد ونسأل أنفسنا ماذا أنجزنا ؟ ولماذا نحن هنا؟
قراءة السيرة من أجل إثارة الحماسة وقوة الإرادة في نفوس الأبناء، فنجد من إشتهر بفعله الإعتزالي، و هناك من اشتهر بإخلاصه في العمل، أو لحكمته الفائقة، وغيرها من الأفعال الشذوذية، وهنا طه عبد الرحمن يُفرق بين الشذوذية الإيجابية، والشذوذية السلبية، “الشذوذية الإيجابية، وهي التي تُحيي أو تُرسّخ قيم الصدق والعمل والعلم والحكمة، في المجال التداولي للفيلسوف، فتكون هذه الشذوذية الأولى خادمة للنموذجية[1].
عندما نقرأ سيرة مالك بن نبي ونتفحص أسلوب تفكيره ومنهجية عمله ونتأمل في تساؤلاته الفلسفية التي يطرحها كل يوم على نفسه سنجد عقولنا دون الكذب وعي منا تتسول لشحذ الهمة، وكذا أنفسنا وأفكارنا تشحن بالطاقة الأخلاقية وبقوة الإرادة بلا شعور منا، وهنا يمكننا أن نقتبس بعض أقواله من كتاب مذكرات شاهد للقرن، فيقول” فكانت والدتي كأنها حاضرة معي، يدفعني حضورها إلى العمل ويذكرني أنها تنظر رجوع ابنها مكللا بالنجاح، حاصلا على الشهادات التي تحقق المركز المرموق، فيزداد نشاطي حرارة، وتصميمي على تحصيل درجة مهندس مساعد، ولعل طموحا غامضا بدأ منذ تلك الفترة يخامر نفسي، يحدثني بتحصيل درجة أعلى ويجعلني أتساءل عن مؤهلاتي الفطرية: هل أنا ذكي؟
لقد أصبح هذا السؤال يتقلّبُ في نفسي، بصورة أعنف من تلك التي عرفتها في المدرسة بقسنطينة وفي السنوات التالية، عندما كنت أتساءل: ماذا أفعل؟ “[2]، كما بيّن لنا قيمة و أهمية الكتب التي قرأها والتي ساهمت في تغيير مسار تفكيره و بناء شخصيته، وذكر أيضا كيف يساهم المعلم أو الشيخ في ترك الأثر والعبرة في نفسية الطالب، فيقول “في الواقع فقد قرأت هذه السنة (التلميذLa Disiple ) لـ ( بيار بورجي ) و لهذه القصة فتحت أمامي عالم النفس الذي أتاح لعقل فتيّ كعقلي أن يتخلى عن شيء من أوهامه وسذاجته، وكان لهذا الإتجاه أن يأخذ بي أبعد من ذلك، لولا دروس الشيخ ( مولود بن موهوب) في التوحيد وسيرة النبي، وتلك للشيخ ( بن العابد) في الفقه، فقد كانت هذه مذكّرا قويّا يعود بروحي إلى الطريق الصحيح وكان آخر هذه المؤثرات كتابان عثرت عليهما في مكتبة النجاح أعدهما الينابيع البعيدة والمحددة لاتجاهي الفكري، أعني بذلك كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا و(رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده…هذه القراءات شكلت بالنسبة إلى قوة أخرى من التنبيه في المجال الفكري، إذ حالت دون إنحرافي في الرومانطيقية التي كانت شائعة في ذلك الجيل من المثقفين الجزائريين[3]، أما حديثه عن أثر المعلم في تفكير ونفسية المتعلم فيقول مالك بن نبي: “( بن الساعي) الذي كان يكبرني لم يكن مخلصا ذكيا و مثقفا بالعربية والفرنسية فحسب، بل كان شخصا مثالا وقدوة، ولعله مما يُدهش أن نقرأ بعد قرن من الزمن كتابا ذكر فيه مؤلفه (بن الساعي) على أنه ( معلمي)، ولهذه الدهشة سببان: الأول أنه ليس مألوفا في الجزائر أن نرى مثقفا يعترف بشرف واحترام لمثقف آخر بما يعتقد أنه مدين له، والثاني لأن ( معلمي) (وشيخي) الذي سقط إبان دراسته لأسباب نفسية واجتماعية، لم يقدم لمواطنيه الصورة نفسها التي كنت أراه فيها وأنا في السادسة عشرة من العمر، ومع ذلك فقد ترك في نفسي أثرا خاصا حينما تعرفت عليه شخصيا بعد عدة أشهر ففي نزهاتنا معه أنا وفضلي بين غابات الصنوبر، كنت أستمع إلى طريقته في توجيهه الآيات القرآنية لتتخذ تفسيرا اجتماعيا لحالى المجتمع الإسلامي الحاضرة، وكان ذلك يؤثر في نفسي كثيرا”[4].
النموذج الثاني الذي يمكننا أن نقرأ من سيرته النموذجية والتي تُمجّد قِيَمًا عملية، هو الفيلسوف التكاملي أو الموسوعي أبي الحسن العامري، لتكون فلسفته جامعة بين الفضائل الخلقية والعملية وناهجا في سيرته بمنهج التكامل بين العلم والعمل، لذا لُقِّب بالفيلسوف التام، فكان من بين من نادوا بوحدة الفلسفة والشريعة،” تفلسف بخراسان، وقد قرأ على أبي زيد أحمد بن سهل البلخي.. و قصد بغداد، وتصدَّر بها، وإنْ لم يرض أخلاق أهلها، وعاد وهو فيلسوف تام،…وتشير العبارة الأخيرة إلى ما جرى للعامري بعد مناظراته للفلاسفة البغدانيين سنة 364ه، فاذا قال المترجم عقبها “وعاد وهو فيلسوف تام”فُهم من هذا أنه رجع بعد تلك المناظرات وقد اعترف له بأنه فيلسوف تام”[5]، وتناقلت سيرته الفاعلة بين الفلاسفة، فنجد التوحيدي تحدّث عن مناظرته الشهيرة مع أبا السعيد السيرافي، فيقول التوحيدي “وخاصة ما جرى للمتفلسفين مع أبي الحسن العامري… فمن طريف ما جرى.. انعقد المجلس في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وثلثمائة، وغصَّ بأهله، فرأيتُ العامري وقد انتُدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله الرحمن الرحيم؟، فعجب الناس من هذه المطالبة، ونزل بأبي سعيد ما كاد يشد به، ولا يذكر التوحيدي رد السيرافي، لكنه ينقل تعليقه على المناظرة، فيقول:”لمّا خرجنا قلت لأبي سعيد السيرافي: أيها الشيخ أرأيت ما كان من هذا الرجل، الخطير عندنا، الكبير في أنفسنا؟، فقال ما دُهيتُ قط بمثل ما دُهيت به اليوم، ولقد جرت بيني و بين أبي بشر متى.. مُلحة، كانت هذه أشوس وأشرس منها”[6]،فأراد العامري أن يتحدى السيرافي في صميم ما يتقوّى بمعرفته له، وتفوقه فيه وهو معاني الحروف.فناظر مع الكثير من الفلاسفة في قضايا المنطق، و الميتافيزيقا، والأخلاق..
ويُبيّن التوحيدي على قوة مناظرات أبي الحسن العامري وانتصاراته مع الفلاسفة والمناطقة، لذا “تحدث التوحيدي في مقدمة المناظرة عما جرى للمتفلسفين مع أبي الحسن العامري، وليس عما جرى للعامري مع المتفلسفين، فالصيغة الأولى أدلُّ في الإعراب عن الهزيمة التي لحقت بهم على يديه[7]، فكانت تآليفه المتنوعة دليل على رؤيته التوسُعية للعلوم وحكمته العملية في الحياة، لذا” تبوأ العامري منزلة متميزة بين كبار الفلاسفة في الإسلام، وعدّه الشهرستاني ضمن صفوة الفلاسفة المسلمين أمثال مسكويه والكندي، والحراني والفارابي وابن سينا والمقدسي”[8]،ومن أقواله المأثورة في وجوب العمل بالعلم المحصّل يقول”فإن العلم مبدأ للعمل، والعمل تمام العلم، ولا يُرغب في العلوم الفاضلة إلا لأجل الأعمال الصالحة، ولو زيَّن الله تعالى الجبلة البشرية مقصورة على تحصيل العلم دون تقويم العمل لكانت القوة العملية إمّا فضلا زائدا، وإمّا تبعا عارضاً ولو أنها كانت كذلك لما كان عَدمُها ليُخلّ في عمارة البلاد، وسياسة العِباد”[9]،لأن العمل هو استصلاح للنفس ورياضة على الأعمال الصالحة، وهنا تظهر لنا الأقوال والأفعال الفلسفية في هذه السيرة الفلسفية موافقة للنموذجيةالإيجابية.