كثرت الكتابات المعاصرة في ( نقد نظرية الإجماع الأصولي)، وحاولت كثير من تلك الكتابات ( نسف الإجماع) وأنه لا وجود له أصلا، وإنما هو من (اختراع) الأصوليين، وأنه لا مكان له، بل كل ما قيل في الإجماع إنما يرجع إلى ( مستند الإجماع) من الكتاب أو السنة أو غيرهما.
النقد لتعريف الإجماع
وأول النقد ينصب على تعريف الإجماع، هل هو اتفاق أمة محمد، أم اتفاق علماء الأمة، أم اتفاق المجتهدين.
والنقد هنا يستعمل المذهب الظاهري في اللغة، لأن من قال اتفاق أمة محمد، لم يقصد به عوام المسلمين، ومن قال: اتفاق علماء الأمة لم يقصد بهم علماء النحو أو البلاغة أو الشعر، أو الحديث، أو علوم القرآن، وإنما قصد به الفقهاء، كذلك حينما يقال ” اتفاق الفقهاء” لا يقصد به كل الفقهاء؛ لأن الفقهاء تشتمل على المقلدين والمجتهدين، والمجتهدون درجات، فحين يقال اتفاق العلماء أو اتفاق الفقهاء، يقصد به اتفاق الفقهاء المجتهدون، وقد درج العلماء في كتاب التعريف أن يشرحوه ليعرفوا المقصود منه، فانصب النقد على ( صيغة التعريف) دون مراعاة لشرحه.
النقد لحجية الإجماع
وثاني نقد للإجماع يتعلق بحجيته، ولعل النقد الأول للتعريف هو الذي يبنى عليه النقد الثاني، فدعوى عدم الاتفاق على تعريف للإجماع يؤدي إلى أن القول بأنه ليس بحجة.
وهنا يجب التفريق بين حجية الإجماع باعتبار حصوله ووقوعه، وبين أنواع الإجماع، ونسبة الوقوع، وزمن الوقوع.
فقد يختلف حول بعض أنواع الإجماع، وأعلاها الإجماع السكوتي هل هو إجماع أم لا؟ وكذلك الإجماعات الأخرى، مثل إجماع الخلفاء الراشدين، وإجماع العمرين؛ أبي بكر وعمر، وإجماع أهل المدينة، وإجماع العترة، وغير ذلك من أنواع الإجماع، هذا بخلاف هل هذه الإجماعات حجة أم لا؟ فتلك نقطة، واعتبارها إجماعا نقطة أخرى، غير أن هذا لا يطعن في ذات الإجماع، والمسمى بالإجماع القطعي، فنفي اندراج كل الإجماعات – عدا الإجماع القطعي- لا يعني نفي الإجماع بالكلية.
وإن كان البعض يرى أن الإجماع القطعي هو المستند على نص من الكتاب والسنة، فالحجية هنا ليست في الإجماع وإنما هي في النص ذاته.
فهذا كلام مردود من جهة أن النص قد يدخله التأويل؛ لأن كثيرا من النصوص ظنية، ولكن إجماع مجتهدي فقهاء الأمة على فهم واحد يعني الاتفاق على أن مقصود الله من قوله كذا، أو مقصود رسوله ﷺ كذا.
فمثلا وجوب الصلاة بقوله تعالى:” وأقيموا الصلاة”، قد ينتقد بأن الصلاة ليست واجبة، وأن كل أمر في القرآن لا يحمل على الوجوب، فالأمر قد يكون للاستحباب أو الإباحة أو الإرشاد، أو التهديد والوعيد أو غيرها مما كتبه الأصوليون في دلالات الأمر، لكن لما فهم الفقهاء المجتهدون أن قوله ( وأقيموا الصلاة) للوجوب، ولم يختلفوا في ذلك، بل اتفقت كلمتهم على أن الصلاة واجبة، وأن الحج للقادر واجب، وأن الزكاة واجبة على الغني، وأن الصوم واجب على القادر، وغير ذلك، ولم ينقل خلاف بين الفقهاء في ذلك ارتفعت النصوص من الظنية إلى القطعية، وهذا مراد الإجماع، أن المسألة ليست محل خلاف.
النقد لحكاية الإجماع
ومما يطعن في الإجماع أن بعض العلماء ادعوا الإجماع ثم بان أنها ليست محل إجماع، فقد نقل ابن عبد البر، وابن المنذر، وابن حزم، وابن رشد وغيرهم الإجماع في مواطن، ثم بان أن المسألة محل خلاف وليست محل اتفاق.
وهذا الطعن هو إثبات للإجماع ذاته، ولكنه نقل للخطأ في موطن الإجماع، ولهذا حذر العلماء من ” الإجماع المدعى”، وأنه ليس كل ما ادعي فيه إجماع يصدق، ولا يطعن هذا في كل الإجماعات، وإنما يطعن في كل ما نقل فيه الخلاف، ولم يقف عليه الإمام.
ويذهب البعض إلى نفي حصول الإجماع في عصرنا، وهو كلام له نظر دقيق، فلم نجد إجماعا على بعض المسائل والنوازل المعاصرة، لكن بعضها قد يكون محل إجماع، مثل حرمة الاستنساخ البشري، أو حرمة تأجير الأرحام أو غيرهما، حتى ولو قلنا ليس هناك مسألة واحدة أجمع علينا في عصرنا، هذا لا ينفي الإجماع الأصولي.
الاستقراء خير دليل
مما لا شك فيه أنه ليس كل نقل للإجماع دليلا على أن المسألة محل إجماع، لكن المشكلة تكمن في رفض الإجماع بالكلية، وأنه ليس هناك شيء اسمه إجماع، وأنه ( اصطناع فقهي)، وليس دليلا شرعيا.
لكن معيار ثبوت الإجماع هو الرجوع إلى الكليات الفقهية، والفروع الفقهية، ولننظر: هل فيها مالم يكن محل خلاف بين الفقهاء، وأن هناك عشرات المسائل أو مئات المسائل محل اتفاق؟
فإن كانت هناك عشرات أو مئات المسائل محل اتفاق؛ فالوقوع دليل الوجود، ثم بعد ذلك لنا أن نطعن في بعض المسائل التي لم يثبت فيها الإجماع، مادام قد حكي فيها خلاف معتبر، لكن هذا لا ينفي حجية الإجماع، وكونه دليلا شرعيا، قدمه بعض الفقهاء على الكتاب والسنة عند الاجتهاد؛ لأن الأحكام لما كانت محل إجماع فلا مكان للاجتهاد في محل الإجماع، فيما قطع فيه بالحكم الشرعي.
ثم يبقى الإجماع نظرية كبرى، في تفاصيله ما هو محل إجماع، وفيه ما هو محل خلاف، مثل الإنسان، لا يختلف في وجوده، لكن الحكم عليه في تفاصيل أو قضايا، لا ينفي وجوده.