من المملكة التي لا تغيب عنها الشمس رحل مرمدوك باكثال قبل أن يكمل العشرين ميمما شطر الشام التي زرعت فيه حب الشرق ثقافته ومجتمعه وحياته التي اندمج فيها بسرعة، ظل ذلك الحب الشرقي يكبر بداخله ليتحول إلى عقيدة فأعلن إسلامه لله يوم 29 نفمبر 1917 في ختام سلسلة محاضرات كان يلقيها تحت عنوان : (الإسلام والتقدم) أمام الجمعية الأدبية الإسلامية في نوتينغ هيل (Notting Hill)  غرب لندن، وسمى نفسه محمد.

ذلك هو مرمدوك باكثال ابن الأسرة البريطانية المُعرِقة في المسيحية والمسلم المدافع عن قضايا الشرق وصاحب أول ترجمة للقرآن الانكليزية لغة كاتبها الأم، فأبوه هو القس تشارلز غرايسن باكثال وأمه السيدة ماري أوبراين مسيحية ملتزمة، ولد باكثال قرب لندن في الرابع من إبريل 1875، في سنة 1892 وقبل أن يكمل عشرين سنة أرسلته والدته إلى القدس مع القس توماس داولنج ليعمل في الأسقفية، فتعرف على الشرق وأعجب بحياة أهله وتجول في مختلف قرى ومدن الشام. وكانت له موهبة مدهشة في تعلم اللغات فتعلم العربية ولغات مشرقية أخرى في فترة وجيزة.

قضى باكثال حياته متنقلا بين بريطانيا والشام وتركيا والهند التي استقر فيها أعوامه الأخيرة، وقد دون ملاحظاته عن الشرق وحياته وثقافته ومحاسنه وأخلاقه في أكثر من 14 رواية أدبية، ليكون بذلك رائد الرواية الشرقية في اللغة الانجليزية، حتى قال عنه الروائي إي. أم. فورستر إنه الروائي المعاصر الوحيد الذي يفهم الشرق الأدنى، كما دافع باكثال عن قضايا العالم الإسلامي منتقدا سياسة الغرب الاستعمارية ومهاجما أوروبا الساعية لتفكيك الخلافة العثمانية في كثير من المقالات والمحاضرات والحوارات التي جمعته بالنخبة والجماهير على حد السواء.

أسرته الحياة التركية وكان مدركا لدور تركيا الاستراتيجي وأهميتها لأوروبا وللعالم الإسلامي على حد السواء، لذلك عارض بشدة إعلان بريطانيا حربها ضد الأتراك وكتب مقالات منتقدا فيها ذلك الموقف، كتب ذات مرة:”تركيا في الوقت الحاضر هي الرأس لحركة تقدمية تنتشر في أنحاء آسيا وإفريقيا وتركيا هي الأمل الوحيد للعالم الإسلامي”.

إعجابه الشديد بمحمود شوكت باشا جعلته يرى فيه صفات المسيح (كان ذلك قبل إسلامه)، كتب عنه بعد اغتياله يقول:”كان أكثر الوطنيين عملا جادا وإخلاصا، وكان الرجل الذي عرفت أن لديه الإرادة والقدرة لإنقاذ بلده من مئات الأعداء الذين يهددون وجوده في الداخل والخارج ولإنقاذ الإسلام من الإهانة غير المستحقة “.

مقت مرمدوك باكثال التعصب الديني وتعرض لمروجيه، حتى قبل إسلامه ، عندما كتب الشاب أرنولد توينبي كتيبا عن أزمة الأرمن 1915  مسلطا الضوء على الجانب الديني للقضيةعند حديثه عن الإهانة التي تعرض لها بعض نساء الأرمن:”… هؤلاء الفتيات هن نساء مسيحيات، متحضرات ولطيفات كنساء غرب أوروبا وقد تم بيعهن إلى المهانة”، كتب باكثال رادا عليه في مجلة (The New Age): “… ماذا يعني توينبي بذلك؟ هل يعني أن الفتيات والنساء القرويات الأرمن متحضرات وراقيات مثل السيدات الانجليزيات من الطبقات الثرية، أو كنساء وفتيات قرية سفُك، أو مثل العجائز المشاكسات في حي الفقراء بلندن، أم كعاهرات لندن وباريس؟ هذه العبارة لا داعي لها، إنها تبدو لي مؤسفة، لأنها تنطوي على إثارة التعصب الديني، إنها مبنية على افتراض متعصب وخاطئ وهو أن المسيحيين جوهريا أفضل من المحمديين، وأن حياتهم أكثر استحقاقا”.(ص73)

في كثير من الدوائر الرسمية أثناء الحرب، اعتبر أن باكثال يشكل خطرا أمنيا، مواهبه كلغوي بارع في اللغات، واعتباره مرجعا عن سوريا وفلسطين ومصر، كانت ستتيح توظيفه، إلا أن سمعته كـ”محب مندفع للأتراك” حرمته من الحصول على وظيفة في المكتب العربي في القاهرة، ونال الوظيفة عوضا عنه تي أي لورانس.(ص73)

كان مرمدوك باكثال معروفا بصلابة التدين والإحساس بالمسؤولية، الذين عرفوه يقولون إنه “كان مسلما جيدا”، كانت هناك أمانة وصدق في كتاباته القصصية وكانت هناك أمانة وإخلاص في حياته الدينية، شخصيته المنسجمة يعبر عنها التزامه الديني في شطري حياته، شطرها المسيحي وشطرها الإسلامي.

كمثقف واع بالأفكار تبوأ باكثال بعد إسلامه مكان الريادة بين المسلمين البريطانيين، خلال أشهر معدودة أصبح إماما للصلاة بمسجد لندن وكان يخطب فيه الجمعة، حطب باكثال تميزت بسعة اطلاعه ومعرفته الواسعة، كما تميزت بشرحه البارع والمتمكن لموضوعات مألوفة في القرآن الكريم، وكان ترتيله للنص العربي للقرآن الكريم الأكثر تأثيرا، وقد كانت لباكثال بعض الآراء المتعلقة بالإسلام وبهموم الجالية المسلمة الأصلية والمهاجرة في بريطانيا.

تطورت علاقة باكثال بالإسلام بعد هجرته إلى الهند حيث تقلد تحرير صحيفة بومباي كرونيكل (Bombay Chronicle) خلفا لـبينجامين غاي هورنيمان، أقام في فندق تاج محل ببومباي مع زوجته ميورل التي كان تزوجها عودته من الشام عام 1896 ودخلت الإسلام بعده بقليل، كان العمل في تحرير الصحيفة منهكا ولكنه كان مع ذلك يشارك في أنشطة سياسية ودينية.

في ذات الفترة كان غاندي يعمل على مد جسور التواصل بين المسلمين والهندوس، وكان باكثال قريبا منه دائما كما شارك معه منابر خطابية، ترأس باكثال عام 1921 مؤتمرا للخلافة في السند وقبل برئاسة هندوسي لحركة إسلامية، ينسجم هذا مع فكر باكثال الذي يقول:”…أعتقد أن قديسا هندوسيا يعيش في الأفق الأعلى أفضل لقيادة المسلمين من مسلم مذنب يعيش في المستوى المنحط”.

في بومباي كتب باكثال قصتين عن الحياة في الهند هنا: الغبار وعرش الطاووس، في عام 1924 بيعت صحيفة بومباي كرونيكل وانتقل باكثال إلى حيدر أباد وهناك بدأ مسار آخر من حياة باكثال كان أبرزه ترجمته للقرآن الكريم، كما شغل فيها منصب مدير لمدرسة عليا ولمركز لترجمة المقررات العلمية إلى اللغة الأردية التي كان باكثال يتقنها جيدا.

حينما أنهى باكثال ترجمة القرآن الكريم أراد أن يجعل من ترجمته مرجعا معتمدا فرحل إلى الأزهر كي يعرضها على علمائه، لكنهم قابلوها بالرفض حيث اعتبروا أن القرآن لا يمكن أن يترجم وقد أثارت مواقفهم جدلا في الصحافة المصرية وقال العلامة محمد شاكر رحمه الله كلمته المشهورة:”إنه كان من الأفضل للكاتب أن يترجم تفسير الطبري”، لكن باكثال استعان عليهم برشيد رضا الذي استطاع أن ينتزع موافقة شيخ الأزهر حينها المراغي.

في عقده الأخير  ساءت صحته وأصبح لديه التهاب حاد بسبب الملاريا، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة نضاله الفكري في الصحف والمجلات العالمية، وكذا كتاباته الأدبية التي بلغت 28 قصة ورواية كان أغلبها عن حياة الشرق الأدنى وثقافته وأحداثه التي آل إليها بعد الاستعمار الأوروبي، إضافة إلى مقالات كثيرة وخطب ومحاضرات عديدة، فقد كان الرجل شعلة نشاط وحيوية.

توفي مرمدوك باكثال في 19 مايو 1936 متأثرا بانسداد في الشريان التاجي، بعد وفاته وأثناء تنظيف مكتبه وجدت زوجته مراجعته لمسودات محاضرات كان يعدها عن الجانب الثقافي في الإسلام  وكان آخر سطر كتبه قوله تعالى:”بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون”.

وقد رثاه غاندي في رسالة لزوجته، كما رثاه رئيس مجلس تطوير حيدر أباد بأبيات من الشعر الكلاسيكي تقول:

جنديَ الإيمان! وخادمَ صدق للإسلام!

قدرك أن تهجر ظلمات الليل

وأن تمضي قدما نحو النور

مقداما بالروح، وبقلب يملؤه اطمئنان وسكون!

 رحل مرمدوك أو محمد كما سمى نفسه، البريطاني الذي محض حياته للشرق، وزميل تشرشل في الدراسة الذي كان يسخر من لثغة لسانه في الصغر ومن سياساته الحمقاء بعد أن كبر، أسس مدارس ومجلات ومن مجلاته مجلة الثقافة الإسلامية (Islamic Culture) التي عهد بها قبل عودته لبريطانيا إلى محمد أسد في حيدر أباد، وما يزال المسلمون البريطانيون يذكرونه فقد احتفل بذكراه وأعماله في 15 مايو 2015 بمدينة براد فورد، وأعيدت طباعة بعض كتبه.

رحمه الله وتقبل منه جهاده وصبره.