أخذ “المثقف” مساحةً كبيرةً من اهتمامات المفكرين الغربيين والعرب على حد سواء منذ ردحٍ من الزمن، فنتجتْ عن ذلك دراساتٌ كثيرةٌ غنيّة بالأفكار والنظريات، لكن ليس من مهمتنا هنا محاولة حصرها، وإنما سنكتفي بالتذكير بأن من أشهر من كتب في هذا المجال المهم: علي شريعتي، وعلي حرب، وإدوارد سعيد، وجورج طرابيشي، وعبد الله العروي، ونعوم اتشومسكي، وريتشارد بوزنر، وبسكال بونيفاس، وجيرار ليكرك.
ولعل آخر كتاب صادر في هذا السياق هو كتاب “مسوؤلية المثقف” للدكتور محمد حامد الأحمري، الذي سنحاول من خلال السطور التالية أن نقوم بجولةٍ موجزةٍ بين دفتيْه، لنُقدّم للقارئ نبذةً عن هذا المولود الجديد؛ الذي يمثّل إضافةً نوعيةً إلى ما يمكن أن نُطلق عليه هنا “مكتبة المثقف”{[1]}، ونعني بـذلك أن عناية الكُتّاب والمفكرين بموضوع “المثقف” أدّت إلى إيجاد مكتبةٍ خاصةٍ بـ “بالمثقف”، باعتباره يشكل موضوعًا قائمًا بذاته على شاطئ بحرٍ من الموضوعات المختلفة.
صدر كتاب “مسوؤلية المثقف” -الذي نحن بصدد الحديث عنه- عن منتدى العلاقات العربية الدولية 2018ـ، وقد تمثلت خطته في مقدمة وتمهيد، وأربعة عناوين كبرى، تدور حول “تعريفات أساسية”، و”تكوين المثقف”، و”فاعلية المثقف”، و”قضايا ثقافية”، تلتها خاتمة وملحق عبارة عن “رؤية في العلاقة بين المثقفين والسلطة”، وقد جاء الكتاب في (253 صفحة).
تعريفات أساسية
خصص الأحمري المحور الأول: “تعريفات”؛ للوقوف مع بعض التعريفات الأساسية، فتحدث عن جملة مفاهيم، منها مفهوم “الثقافة”، و”الكاتب”، و”المثقف”، و”المفكر”، و”الفيلسوف”، و”وظيفة الثقافة”، ويبدو أن الأحمري قد اعتمد في محاولة تفسيره لهذه المفاهيم على بعض القواميس اللغوية، والكتب الثقافية النوعية، فاستعار بعض التعريفات التي نثرها بعض المفكرين في كتبهم، مثل: عبد الوهاب المسيري، ومالك بن نبي. كما عرّج الأحمري على إشكالية توزيع هذه الألقاب (مثقف، مفكر، فليسوف..إلخ) عند بعض المجتمعات، فقال إن المجتمعات الفرنسية تتميز بكرم كبير أو تساهل في توزيع الألقاب، بخلاف الأمريكيين والبريطانيين؛ الذين يعتبرون أكثر تحفظًا من غيرهم في توزيع الألقاب{[2]}.
وبما أن موضوع “المثقف” مطروق بشكل لافتٍ، كما ذكرنا آنفًا، كان من اللاّزم على الأحمري أن يَدخُل إلى حقل “المثقف” من زاوية معينة، لكي يستطيع أن يضيف جديدًا في هذا المجال المهم، فقام بالتصريح بالطريق الذي أراد أن يسلكه في كتابه هذا، وذلك حين قال: “عندما اخترتُ الكتابة عن مسؤولية المثقف أردتُ أن يكون الحديث عن واجباته، وعن الأشياء التي يُسأل عنها حاضرًا في حياته أمام نفسه، ثم أمام مجتمعه وضميره، وهي في النهاية مسؤوليته أمام ربه”{[3]}.
ويبدو جليًا لقارئ كتاب “مسؤولية المثقف”، إيمان الأحمري القوي بضرورة فاعلية المثقف، ونبذه لجموده وخموله، وميله إلى السلبية، وعدم وعيه بالأحداث، ووقوفه مكتوف الأيدي دون مواجهة سلطة المجتمع والسلطة العامة حين تقتضي الضرورة ذلك، ولعل السبب في هذا الأمر أن الأحمري يرى أن “الأصل في المثقف أن يكون عمليًا لا نظريًا، فليست الثقافة مجرد متعةٍ ذهنيةٍ، ولا هي معالجة نصوصٍ فلسفيةٍ، بل المثقف هو من يجمع بين العمل والفكر، وقيمة أفكاره أنه يمتحنها يوميًا في مجتمع الناس، يَقبل ويَرد، يُخطئ ويُصوب”{[4]}.
وفي سياق حديثه عن نماذج من المثقفين والعلماء الذين كان لهم دور في انتزاع الحرية والعدل وهدم “الثقافة الطاغوتية”، أشار الأحمري إلى جانب من شخصية الإمام الشافعي قد يكون غير معروفٍ عند البعض، يتمثل في ثورية الشافعي، وأنه قد “حاول الثورة على العباسيين أولاً قبل العلم”، كما صرّح الأحمري بأن “الشافعي قام بدور المثقف في أعلى مجالاته، وهو ما جعل القدماءَ يكثرون من وصفه بما يزيد عن وصف عالم، كمن وصفه بأنه فيلسوف، أو رباني، أو عامل، أو ثائر”{[5]}.
تكوين المثقف
في المحور الثاني: “تكوين المثقف”، وقف الأحمري مع جملة أمور، من بينها: “التكوين المعرفي”، و”الحوار الثقافي”، و”المقاهي والصالونات منفذًا للحوار”، و”مجتمع الحوار الثقافي”، و”دور الجامعات الحرة الثقافي”، و”الأكاديميون ودور المثقف”، و”بيئة المثقف”، و”غربة المثقف”، بيدَ أننا سنركز هنا على نقطتين رئيسيتين، هما: “الحوار الثقافي”، و”غربة المثقف”.
في سياق حديثه عن “الحوار الثقافي”، أكد الأحمري على ضرورة الحوار، واعتبره “من أهم موارد المثقف في عمله”. وللتدليل على أهمية الحوار في بناء المجتمعات، قام الأحمري بجولةٍ في تاريخ الحوار في بيئات مختلفة، وسرد مجموعة من النماذج التي تعكس تاريخ “الحوار الثقافي”، حيث ذكر أن أحمد بن حنبل كان يترك قيام الليل لنقاش أبي زرعة الرازي، وأن الجاحظ كان يخرج إلى الفلا للمناظرة، كما كان عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي يعودان إلى المسجد بعد صلاة العشاء، ويستمران في النقاش –في بعض الأحيان- حول طريقة تحرير الجزائر؛ حتى طلوع الفجر. ثم عرّج الأحمري على حوارات طويلة خارج السياق العربي كانت لها آثار على سياسات العالم وخططه المستقبلية، مثل حورات الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، و”ماركس” و”إنجلز”، و”كارل غوستاف” و”سيغموند فرويد”{[6]}.
أما في سياق حديثه عن “غربة المثقف”، فركّز الأحمري على نقاط مهمة ترتبط بحياة المثقف المغترب وما يعانيه من مشكلات، حيث صرّح بأن “المثقف المغترب قد يحمل على عاتقه مشكلة غربته التي تضعفه وتثقله بأسئلة ومبررات وجود”، لكن المفارقة أن “المثقف تقوى فكرته كلما قلت علائقه وحساباته، وخفت شجونه المحلية”{[7]}، وهو ما يدفع المثقف إلى أن يتخذ من الثقافة موطنًا، فيعيش فيها بطريقته الخاصة، ومع الوقت يكتسب “حالًا وخلقًا آخر”.
وقد أوضح الأحمري أن المثقفين المغتربين نموذج متعدد عبر القارات، حيث “كانوا نقلةً للمعرفة، وكانوا ملح الشعوب، ورواد الإصلاح، وسببًا لكثير من الخير والشر لمجتمعاتهم، ولو أن مساوئهم لا تُذكر إلى جانب ما قدموه للعالم عبر الدهور”{[8]}. لم يقتصر الأحمري على هذا الادعاء، وإنما قدم عليه أدلة ناطقة، فذكر مجموعة من المثقفين (في القرن العشرين) كنماذج على المثقف المغترب الإصلاحي، مثل: فولتير، ومازيني، وماركس، والأفغاني، وشكيب أرسلان، وإنجلر، ولينين، ومحمد أسد، ومرمادوك بكثال، ومالك بن نبي، ولويس ألتوسير، وإدوارد سعيد، وتيزفيتان تودوروف، وجاك ريدا، ويوسف القرضاوي، وراشد الغنوشي، ومحمد أركون {[9]}.
فاعلية المثقف
يمكن القول إن الأحمري ركّز في المحور الثالث: “فاعلية المثقف”؛ على نقطتين كبيرتين، هما: “التزامات المثقف”، و”أنماط المثقفين”. في النقطة الأولى، وقف الأحمري مع التزامات المثقف وقسمها إلى قسمين، القسم الأول: تجاه نفسه، ويتمثل من وجهة نظر الأحمري في “العمل الجاد المستمر على تنمية قدراته في المعرفة والعلاقات”، ثم “الجد في تهذيب نفسه”، والقسم الثاني: تجاه أفكاره، ويتمثل في جملة أمور، منها: الحرص على مصالح المجتمع كافة، والقدرة على التعبير عن أفكاره، والانفتاح على وجهات النظر الأخرى، والقيام بالدور الممكن لا المتخيل{[10]}.
أما في النقطة الثانية، فعرّج الأحمري على “أنماط المثقف”، وصرّح بأن دور المثقف ليس محصورًا في جانبٍ معينٍ، واستدل على تعدّد أدوار المثقف بأن الحاجة تُلزِمه أن يكون “شاهداً مرة، ومدعيًا مرة، ومدافعًا مرة في موقف ثالث، وجنديًا مرة، وقياديًا مرة أخرى”{[11]}. وبعد ذلك، بدأ الأحمري يُعدّد أنماط المثقف، فوقف مع “المثقف مصغرًا”، و”المثقف نخبويًا”، و”المثقف منبهًا”، و”المثقف نقيًا”، و”المثقف تابعًا”، و”المثقف قاسيًا”، و”المثقف صحافيًا”، و”المثقف فاسقًا”، و”المثقف شعبويًا”، و”المثقف مجددًا”، و”المثقف ناقدًا”، و”المثقف سلعةً”، و”المثقف زينةً”، و”المثقف ساخرًا”، و”المثقف متغربًا وإسلاميًا”، و”المثقف موظفًا”، و”المثقف مغفلًا”{[12]}.
قضايا ثقافية
في المحور الرابع والأخير: “قضايا ثقافية”، ناقش الأحمري جملةً من القضايا الثقافية المهمة، من بينها: “العلاقة بين التدين والعلمانية”، و”الفرق بين المثقف وعالم الدين”، و”ظاهرة المثقفين اليهود في أمريكا”، و”الثقافة والفعالية”، و”الثقافة بين الحرفة والرسالة”، و”التحيز الثقافي”، و”خيانة المثقفين”، و”الأيديولوجيا الاحتلالية الديماغوجية”، و”مثقف القبلية أو الحزب أو الحكومة”، و”مثقف الهزيمة”، و”التقنية والثقافة”، و”المتواصل أو ما بعد المثقف”.
وقد استطاع الأحمري أن يُقدّم من خلال هذه العناوين الفرعية جملةً من الأفكار القيّمة، التي لا شك أنها ستُسهم في فهم بعض القضايا الثقافية المختلفة الحساسة، كما أنها ستُثري “مكتبة المثقف”، وستساعد في تعريفه على أبعاد مجموعة من القضايا الثقافية المهمة، التي يحتاج المثقف أن يستوعبها استيعابًا دقيقًا، يدفعه إلى النهوض بمسؤولياته النبيلة على أحسن وجه.
وفي خاتمة الكتاب، جاء الأحمري ليقول إنه يَفهم أن قول النبي ﷺ: “أنتم شهداء الله في أرضه”، يشير إلى أهمية تعبير الإنسان عن رأيه، لأن الإنسان شاهد على الزمان وقضاياه، وشاهد على الحق الذي يجب عليه أن يناصره، وشاهد على الباطل الذي يجب عليه أن يحاربه ويقف في وجهه، وهكذا فإن المطلوب من الإنسان أن يقول ما يؤمن به مما يصلح المجتمع، فالصامت عن الحق شيطان أخرس{[13]}.
وقد كان الأحمري صادقًا حين قال إن “من أهم الأدوار ذات الأولية والأهمية القصوى للمثقف أن يقف ضد طغيان المؤسسات في مجتمعه، فهو ناقد ومراقب، ويستمد شرعيته ودوره الأهم من رقابته على هذه المؤسسات التي تغتال حريات الشعوب”{[14]}. وهذا الكلام يؤكد ما أشرنا إليه آنفًا، حين قلنا إن الأحمري يؤمن بالمثقف الإيجابي، الواعي بمسؤوليته، الساعي للتغيير والبناء، الذي لا يقبل بالخنوع ولا الخضوع، وسنختتم حديثنا بدليلٍ آخر على هذا الزعم؛ يتمثل في أن الأحمري يرى أن “المثقف الحق فيه بذرة عصيان، بل له سلاح صارم من العصيان والجفاء للتبعيات والانحيازات والهزائم المجتمعية، إنه يعصي ليبني، ولا يعصي ليشتهر، يعصي لا ليخالف، ولكن لأن لديه نورًا بعلم وصدق وحدس، ويُصرُّ على أن يدل عليه”{[15]}