تحتل مكة المشرفة منزلة في نفس كل مسلم فهي مهبط الوحي وفيها أول بيت وضع للناس مباركا ومنها انطلق الإسلام، ولذلك حظيت على مد العصور باهتمام المؤرخين والكُتاب المسلمين الذين وضعوا مئات وربما آلاف مصنفات التاريخ المكي، وتدرس طبوغرافيتها وما يتصل بها من مناطق، وتسرد فضائلها، أو تقص رحلة صاحبها إلى البقاع المقدسة.
والمصادر التي تناولت التاريخ المكي تتراوح بين المصادر العامة التي تتسم بالشمول وعدم التخصيص من مثل: كتب التاريخ العام، وكتب التراجم، والطبقات، والوفيات، والجغرافيا التاريخية أو المسالك والممالك، والمصادر الخاصة التي اقتصرت على دراسة أم القرى بمفردها أو من خلال سياق عام ضيق، أو في إطار مقارن مع المدن المقدسة في الإسلام كالقدس والمدينة المنورة ، وحديثنا في هذا المقال يقتصر على المصادر الخاصة بتاريخ مكة بغرض التعريف بأهم كتب المصادر والمؤرخين.
المؤرخون المكيون ومصنفاتهم
لا نعرف عن بدايات التأليف في تاريخ مكة سوى مؤلف للإمام الحسن البصري (ت: 110ه) المعنون (فضائل مكة المكرمة) وهو رسالة قصيرة حققت ونشرت منذ عقود وترجمت إلى بضع لغات، ويليه كتاب عثمان بن ساج (ت: 180ه)، وهو مفقود لكن يرجح أنه كان أحد مصادر الأزرقي في كتابه الشهير عن مكة.
ازدهرت حركة التأريخ للمدينة خلال القرن الثالث حيث عاش بمكة ثلاثة من كبار المؤرخين وهم: الأزرقي (ت: 244ه)، وله كتاب (أخبار مكة وما فيها من الآثار)، والزبير بن بكار (256ه) وهو صاحب (الأخبار) و (جمهرة أنساب قريش وأخبارها)، والفاكهي (كان حيا 272 ه) وهو صاحب الكتاب الذائع (أخبار مكة في قديم الزمان وحديثه) ويعرف كذلك باسم (تاريخ مكة) و(أخبار مكة).
أفاد المؤرخون اللاحقون من كتابي الأزرقي والفاكهي وصارا أساسا للكتابة التاريخية ردحا من الزمن فكتب ابن إسحاق الخزاعي المكي (ت: 350ه) (حاشية على تاريخ مكة للأزرقي)، وهناك أيضا (نظم تاريخ مكة للأزرقي) أعده عبد الملك الأرمنتي في القرن الثامن، واختصره يحيى بن محمد الكرماني في مستهل القرن التاسع.
انقطع تدوين هذا التأريخ بعد إسهامات الأزرقي والفاكهي من المؤرخين المكيين الذين اتسمت إسهاماتهم بالأصالة لأنها نتيجة معايشة وخبرة ذاتية مع الوقائع والأحداث، واقتصر التأريخ على ما يجود به المؤرخون المسلمون الذين أرخوا للمدينة تعظيما لها.
استأنف المؤرخون المكيون تأريخهم للمدينة في القرن التاسع حيث ظهر المؤرخ تقي الدين الفاسي المكي (832ه) أشهر مؤرخي مكة، الذي وضع كتابات صارت من أهم مصادر تاريخ المدينة ومنها: (شفاء الغرام بأخبار البلد) ويقع في أربعين بابا يتناول تاريخ المدينة وجغرافيتها ومدارسها وولاتها، وقد اختصره في كتاب (الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة)، وكتاب (العقد الثمين في تأريخ البلد الأمين: في تراجم أهل مكة ومن سكنها أو مات بها من الأعيان) الذي اختصره في كتاب (عجالة القرى بتاريخ أم القرى)، ثم ظهر بمكة نجم الدين بن فهد الهاشمي (ت: 885ه) ومن مؤلفاته (إتحاف الورى، بأخبار أم القرى) و(الدر الكمين بذيل العقد الثمين) و(معجم الشيوخ) يحوي تراجم علماء مكة وعالماتها في القرن التاسع الهجري.
وبرز بمكة خلال القرنين التاليين آل الطبري الذين خلفوا ورائهم سلسلة من المصنفات التاريخية من بينها (الأرج المسكي في التاريخ المكي) و(تحفة الكرام بأخبار عمارة السقف والباب لبيت الله الحرام) وهما لعلي بن عبد القادر بن يحيى الطبري (ت: 1070ه)، و(إتحاف فضلاء الزمن، بتاريخ ولاية بني الحسن) لمحمد بن علي الطبري (ت: 1173ه) عرض فيه لولاة مكة من القرن السابع إلى منتصف القرن الثاني عشر.
وفي العصر الحديث ظهر بمكة بعض المؤرخين نذكر منهم عبد الله الغازي المكي الفاسي صاحب (إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام) وهو كتاب ضخم يقع في بضع مجلدات، كما شاع اسم حمد الجاسر الذي عني بنشر وتحقيق التاريخ المكي وله إسهامات لا تنكر في هذا الباب.
المستشرقون وتاريخ مكة
قبيل ذكر أهم المصنفات التي تناولت تاريخ أم القرى ينبغي الإشارة إلى أن المستشرقين أولوا عنايتهم به قبيل التفات الدارسين المسلمين إلى ذلك، وهو الأمر الذي ما فتئ الأستاذ حمد الجاسر التنبيه إليه في كتاباته داعيا إلى العناية بتحقيق تراث مدينة مكة، ومن أوائل المستشرقين الذين اتجهوا إلى تحقيق التاريخ المكي المستشرق الألماني وستنفلد الذي نشر في منتصف القرن التاسع عشر تحت رعاية (الجمعية الشرقية الألمانية) وعلى نفقتها سفر جليل في أربعة أجزاء بعنوان (تواريخ مكة)، الجزء الأول يضم كتاب أخبار مكة للأزرقي، والجزء الثاني وهو المنتقى في أخبار أم القرى، وهو منتخبات من تاريخ مكة للفاكهي، وشفا الغرام للفاسي، والجامع اللطيف لابن ظهيرة، مع مقدمة بالألمانية، الجزء الثالث كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للنهرواني، مع مقدمة بالألمانية، والجزء الرابع وهو بالألمانية، ويضم لوحان، الأول بأنساب أشراف مكة، والثاني رسم لها، أما المستشرق الروسي إردمان فقد نشر (الملوك والخلفاء بدولة مكة الشرفاء) لتقى الدين بن على في عام 1882، ونشر المستشرق أوسكار لوففرين صفة بلاد اليمن ومكة المسماة (تاريخ المستبصر) لابن المجاور (690ه)، كما نشر المستشرق الهولندي سنوك هرخرونيه (أطلس مكة) وهو وإن كان ليس كتابا في التاريخ إلا أنه مجموعة من الصور التاريخية النادرة لمكة المكرمة التُقِطَت سنة 1884، وهو ما يعتبر إضافة مهمة لتاريخ مكة الحديث.
خارطة التصنيف الموضوعي
تفتح قائمة المصنفات بكتاب (فضائل مكة) للحسن البصري في مطلع الثاني وتمتد حتى عصرنا الراهن، وهي تتوزع على عدة موضوعات، هي: فضائل المدينة وشرفها، وتاريخ المدينة وتطوره، وذكر أعلام المدينة، ورحلات الحج التي قام بها الحجيج من خارجها وسجلوا فيها مشاهداتهم، وفي السطور التالية سأضرب بضع أمثلة لكل نوع مع مراعاة وضعها وفقا للترتيب التاريخي من الأقدم إلى الأحدث.
- كتب الفضائل: وهي أول أنماط الكتابة ظهورا وأوفرها عددا، وقد أعقب الحسن البصري كثيرون ساروا على نهجه في تتبع فضائل المدينة وما ورد بشأنها في النصوص الدينية والأحاديث والآثار النبوية، ومن أمثلتها: كتاب فضائل مكة لأبي بكر بن الزبير الحميدي (ت:219 ه) (فضائل مكّة) للمفضّل بن محمّد بن إبراهيم الجندي الشعبي (ت: 308 ه) و(فضائل مكة على سائر البقاع) لأحمد بن سهل البلخي (ت: 322ه)، وأخبار مكة والمدينة وفضلهما لابن رزين بن معاوية العَبْدري السرقسطي (ت:٥٣٥ه) وفضل مكّة لعلي بن الحسن بن عساكر الدمشقي (ت:571 ه) والجامع اللطيف في فضائل مكة وبناء البيت الشريف، لابن ظهيرة من أهل القرن التاسع، وعني به المستشرق وستنفلد كما أسلفنا، (خلاصة الرسائل في فضائل مكة) لمحمد بن بار الهندي البرهانبوري (1110ه)، و(العقد الثمين في فضائل البلد الأمين) لأحمد بن محمد المكي الهاشمي الحضراوي (1327 ه).
- التاريخ المكي: أخذت المصنفات التاريخية في الظهور منذ بدايات القرن الثاني الهجري ولعل أقدمها (أخبار مكة) لمحمد بن عمر الواقدي (ت: 207ه)، و (أخبار مكة شرّفها الله تعالى وما جاء فيها من الآثار) للأزرقي (ت: 223ه) وهو من أهم الكتب في التاريخ المكي، جمع مؤلفه بين منهج المحدثين في الرواية والسند، ومنهج المؤرخين في عرض الأخبار والفضائل والمظاهر العمرانية للبلد الحرام، وأول من نشره الجمعية الشرقية الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، و( كتاب مكة) لعمر بن شبة (ت: 262ه) ذكره ابن النديم في الفهرست ونقل عنه فؤاد سزكين، و(أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه) للفاكهي -كان حيا عام 272ه-، وهو من أهم وأوسع الكتب القديمة التي تناولت تاريخ مكة، إذ جاء في قسمين الأول ضائع وتدل النصوص التي نقلت عنه أنه يتناول تاريخ مكة القديم والسيرة النبوية، أما الثاني الموجود فهو يشتمل على واحد وعشرين فصلا ويتناول أخبار مكة وخططها وشوارعها ودورها ومظاهر الحياة بها، وكتاب (الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة) للفاسي (ت: 832ه) وهو مصدر رئيس من مصادر التاريخ المكي، وكتاب و(إتحاف الورى بأخبار أم القرى) للنجم بن فهد المكي(885ه)، ذكره حاجي خليفة في (كشف الظنون) بعنوان (اتحاف الورى في تاريخ مكة)، وهو أقدم كتاب في حوليات مكة وضعه مؤلفه على غرار كتب الحوليات كتاريخ الطبري وابن الأثير، وكتاب (إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام) لعبد الله الغازي (ت: 1365ه)، وهو يقع في بضع مجلدات.
- التراجم: وهي نمط شائع من أنماط الكتابة التاريخية، ومن التراجم المختصة بأهل مكة: (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) للفاسي وهو أكبر تآليفه جمع فيه تراجم المكيين من أقدم العصور إلى عهده، وهو يقع في ثمانية مجلدات، و(بغية المرام بأخبار ولاة البلد الحرام) كتاب جمع فيه النجم بن فهد (ت:885ه) تراجم ولاة مكة بداية من الصحابي عتاب بن أسيد، وتوفي ولم يتمه. و(تراجم أعيان الحجاز واليمن في القرن الحادي عشر لمحمد أمين بن فضل الله بن محب (ت:1111ه)، و(المختصر من كتاب نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة) لصاحبه عبد الله مرداد أبي الخير (ت:1343ه) وهو يشتمل على تراجم أهل مكّة منذ القرن العاشر حتى الرابع عشر الهجري.
–رحلات الحج: تحظى المكتبة التراثية بعدد لا يحصى من الرحلات التي تسجل مشاهدات الحجيج في الديار المقدسة، ومن أمثلتها (تاج المفرق في تحلية علماء المشرق) للبلوي الأندلسي (ت:767ه) و(في رحاب الحرمين: رحلات القطبي من مكّة إلى المدينة) لمحمد بن أحمد النهروالي (ت: 990ه) و(الرحلة العياشية للبقاع الحجازية) أو( ماء الموائد) لعبد الله بن محمّد العيّاشي (ت: 1090ه) الذي سجل رحلته إلى مكة والمدينة، و(الرحلة الحجازية) لأوليا جلبي الرحالة العثماني الشهير، و(الرحلة الحجازية) للسلجماسي (1175 ه)، و(الرحلة الرضوانية الدانية في الرحلة الحجازية الثانية) لمصطفى بكري الصديقي (ت: 1162ه)، و(الرحلة الحجازية) لمحمد حبيب البتنوني، التي وصف فيها رحلة حج الخديو عباس حلمي الثاني والي مصر سنة 1327ه، و(الارتسامات اللطاف) وهي رحلة شكيب أرسلان إلى الحج عام 1348ه.
يتضح مما سبق أن مكة المشرفة حظيت بعناية المؤرخين المسلمين الذين أرخوا لها من خلال عدد وافر من المصنفات لم تحظ به أي مدينة أخرى قديما أو حديثا.