“وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً” هل عمر نوح عليه السلام هو معجزته؟ فقد عاش عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وأحسب أن هذا العمر اختص به نوحٌ وحده دون سائر قومه، فلا يعرف إنسان بلغ هذا العمر من قبل ومن بعدُ، ولأنه بلغ هذا العمر الطويل كله فقد مرت به أجيال كثيرة من قومه في حياته الطويلة تزيد عن ثلاثين جيلاً ، وهذا دهر طويل جداً في حساب الأمم.

صبر نوح عليه السلام طويلاً على قومه الذين لم تتحسن سلالتهم، ولم تنضج فكرتهم، ولم ينفتح باب الإيمان في قلوبهم ، وذاك أن الضلال متمكّن فيهم حتى تجاوزوه إلى الإضلال فكانوا ضالين ومضلين، وفاسدين ومفسدين؛ وهنا جاء البيان الإلهي واضحاً: [وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلاَّ مَن قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] فعند ذلك تقرر لدى الخالق أنه لا جدوى من دعوة هؤلاء الناس ولا بركة فيها ولا خير ، فليكن البلاغ الأخير لهم بإنذارهم بالغرق؛ وغسل الأرض من فسادهم الذي خلّفوه فيها، وهذا الإنذار فرصة أخيرة لهم بالنجاة.

وبالشروع في صناعة الفلك انتهى زمان الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبدأ زمان الإنذار والبلاغ الشديد، وأتيح لمن يرغب في النجاة أن يركب الفلك فيدخل في جملة المؤمنين وينجو ببركة إيمانهم؛ ويظهر لي أن صناعة الفلك أخذت مدى زمنياً طويلاً لمنح الجيل الأخير وما قبله فرصة غير مباشرة للتبصُّر والتفكير في صنيع هذا النبيّ الصابر المصرّ على بلاغ الرسالة وسط تكذيب طويل؛ وأحسب أن ذلك استغرق منه خمسين عاماً توقف فيها نوح عن دعوة قومه واكتفى بنفر من المؤمنين معه وانشغل بصناعة الفلك على غير مثال سابق والتخطيط ليوم الجزاء العظيم الذي سيغرق فيه هؤلاء القوم المتجبرون، وقد سماها القرآن عاماً لأن البلاغ قد توقف ، واستراح نوح من معاناة تكذيب قومه وجحودهم المبين في كل اتصال معهم، ولم يبق له إلا أن يصبر على سخريتهم التي لا تقارَن بما كانوا يفعلونه من وسائل تكذيب عظيمة وانغماس في عبادة الأصنام والاعتصام بشركهم.

لقد كان معجزة نوح – عليه السلام – في طول عمره بين قومه، وليس ثمة دليل على أن قومه يقاربونه في طول العمر بل الأصل عدم التفاوت في أعمار البشر (ما تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ )؛ وكان نوح من أولي العزم من الرسل لأنه صبر على تكذيب قومه وشدة إعراضهم كل هذه الأجيال دون أن ييأس، حتى أوحى إليه ربه أنه لا أمل في إيمان هؤلاء القوم، ولن يؤمن به أحد سوى من قد أمن معه قبلاً، وأحرى بنوح أن يختم دعوته لهم بإنذار وتهديد فما ازدادوا إلا كفراً وعناداً .

وقد استعمل القرآن دلائل دقيقة لوصف هذه الحالة، فقال: “لبث” واللبث إقامة في المكان في زمن يميل للطول غالباً، وقد فهمنا هذا المعنى لأن لفظ اللبث يفهم منه البطء والتأخير .

واستخدم أيضاً لفظ “سنة” ولها مدلول زماني مقترن بمعنى الشدة والقسوة واليأس، واستخدم لفظ “عام” وهو مدلول زماني مقارب للسنة إلا أنه جاء بعد إعلان نهاية المهلة والشروع في الاستعداد للوعد الأخير بالطوفان؛ بل إن المدلول الوضعي اللغوي لاسم “نوح” ذو جذر لغوي قديم يعني الدوام والبقاء والخلود والأبدية، وكأنه مأخوذ من “ناخ وأناخ” بإبدال الخاء حاءً.

وهذا المعنى موجود في اللغات السامية القديمة وفي المصرية القديمة، وفي النوبية الموجودة اليوم إذ نجد فيها أن كلمة “نوح” أو “noa ” كما يلفظونها -حيث لا يوجد عندهم حرف الحلق الحاء- تعني الجد الأكبر؛ وهذا يوافق ما ذهبنا إليه من اختصاص نوح وحده بطول العمر بين قومه حتى اشتهر بذلك فطغى وصفُه على اسمه وسُمّي به.

وبخلاف مسألة عمر نوح عليه السلام، فإن صناعة السفينة والنجاة من الطوفان العظيم فهي آيات مرتبطة بالعقوبة الإلهية الختامية وقد أدركت آخر جيل مستهدَف بالدعوة.

إن هذا التأويل أولى مِن جعلِ السنة بمعنى الموسم الزراعي، أو جعلها شهراً قمرياً في منازل القمر، أو المبالغة في أعمار الأمم . والله أعلم