في قلب الحي الثقافي كتارا، استقبل معرض المخطوطات الأدبية والتاريخية الموريتانية زواره، كاشفاً عن تراث لا يُقدر بثمن من المخطوطات النادرة التي تعكس قروناً من العلم والمعرفة في بلاد شنقيط. هذا المعرض ليس مجرد حدث ثقافي، بل هو نافذة مفتوحة على تاريخ طويل من الأدب، الفقه، والعلوم الإسلامية التي أبدع فيها علماء موريتانيا على مر العصور. فمعرض المخطوطات الموريتانية رحلة عبر الزمن لاستكشاف علومٍ وفنونٍ دُوِّنت على صفحات مخطوطات نادرة، لتبقى شاهدة على عطاء علماء موريتانيا وتاريخها الزاخر.

كان لمعرض المخطوطات الموريتانية بالغ الأثر على رواد الحي الثقافي كتارا الذي استضاف هذا المعرض محتفيا بمجموعة متميزة من المخطوطات الأدبية والتاريخية في بلاد شنقيط التي تزخر بكنوز علمية وثقافية وتاريخية يعود تاريخها إلى عدة قرون من الزمن. فهل تعرف أن موريتانيا تمتلك كنوزاً أدبية وتاريخية نادرة تعد هذه المخطوطات سجلاً حياً للأفكار والمعارف التي أثرت الحضارة الإسلامية، مما يجعل الحفاظ عليها وعرضها ضرورة ثقافية ومعرفية، ليس فقط لموريتانيا بل للأمة الإسلامية جمعاء.

معرض المخطوطات الموريتانية .. ما المميز؟

تمثل المخطوطات الموريتانية ذخيرة ثقافية لا تجد مثيلاً لها في أماكن أخرى، حيث يعود بعضها لحوالي 800 عام، وتضم مواضيع متنوعة من الفقه الإسلامي إلى الفلسفة واللغة. كما تتضمن رسوماً نادرة مثل رسم للحجرة النبوية الشريفة. هذا الإرث الثقافي يعكس روحاً من العطاء والالتزام بالعلم حتى في أحلك الظروف. فلماذا يجب أن نهتم بهذا التراث؟ الجواب ببساطة لأن المخطوطات ليست مجرد أوراق قديمة، بل هي سجل حي للأفكار والمشاعر والابتكارات التي شكلت حضارة أمة. عبر عرض هذه الكنوز النادرة، تفتح كتارا الأبواب أمام الباحثين والجمهور للتعرف على ثراء الثقافة الموريتانية ودورها البارز في نشر العلم والمعرفة الإسلامية.

تشتهر موريتانيا بلقب بلد المليون شاعر، وذلك لأن العديد من رجالها تميزوا بكتابة الشعر وعمل مؤلفات في اللغة العربية والفقه، بسبب انتشار الكتاتيب بها حتى يتعلم كل طالب علوم القرآن والأدب والسيرة والفقه و الأحاديث النبوية بشكل مجاني. لكن موريتانيا تشتهر أيضا بامتلاكها لآلاف المخطوطات، وهذا ليس غريبا على بلاد شنقيط التي أنجبت علماء عظماء أجلاء أبدعوا في ميادين الأدب واللغة والعقيدة الإسلامية والفقه والرياضيات والمنطق وغير ذلك من العلوم والفنون. حيث تعتبر بلاد شنقيط منارة شامخة ورباطا مقدسا بفضل ما أبدعه علماؤها الأجلاء وعباقرتها المؤلفون الذين شرحوا الوحي ونشروه في كل أصقاع العالم، واستنبطوا منه وقاسوا عليه ما أشكل عليهم من الأحكام المتعلقة بالدين والدنيا.

كنوز علمية ووثائق نادرة

شهدت موريتانيا نشاطا علميا ملحوظا على مر العصور، مما أدى إلى إنتاج آلاف المخطوطات التي لم يكن من السهل الحصول عليها في أماكن أخرى. فقد اهتم العلماء بجمع الكتب وتدوين المعارف ونقلها إلى موريتانيا، مما جعلها منارةً علميةً للعالم الإسلامي. وتعد هذه المخطوطات وثائق نادرة تحمل بين صفحاتها عصارة فكر العلماء على مر العصور.

وبحكم هذه الحركية العلمية في هذا البلد العربي الأصيل، ونظرا لعدة ظروف (لا يتسع المجال لذكرها) عرفت موريتانيا زخما كبيرا وملحوظا في حركة المخطوطات الأصيلة والفريدة من نوعها، في شكل كتب ووثائق نادرة لا يمكن الحصول عليها في أي مكان آخر.

معرض المخطوطات الموريتانية في الحي الثقافي بكتارا

هذه الكنوز  الغالية، ارتأى القائمون على الثقافة في موريتانيا، وفي مقدمتهم رئيس “جمعية المخطوط العربي والمحافظة على التراث في موريتانيا” عبد الله ولد محمد بلال، بحمل جزء بسيط منها، لعرضه في الحي الثقافي كتارا  في معرض أطلق عليه اسم “معرض المخطوطات الأدبية والتاريخية الموريتانية” فنون من الشعر والنحو والبلاغة والفقه والسيرة والحديث وعلوم القرآن والفلسفة استقرت في كتارا لتعيد للتاريخ رائحته وللعلم أصالته ودوره الكبير.

تم عرض أكثر من 200 مخطوطة في المعرض، اختيرت بعناية لتعكس تاريخاً يمتد عبر قرون، حيث تمثل المخطوطات سجلا كتابيا يختزن التاريخ والأفكار والمشاعر والمعارف، ويزخر بكنوز حضارة القلم التي تركت مادة كتابية هائلة دونت على مر العصور في قارات العالم القديم حتى أقصاها غربا في موريتانيا.

مخطوطات ملك للأمة

يقول الأستاذ عبد الله محمد بلال عن رحلة جمع المخطوطات وحفظها أنها رحلة طويلة وشاقة، وقدم عبد الله محمد للزائرين شروحا وافية عن المخطوطات والكتب المعروضة ومواضيعها العلمية وتاريخها، مبرزا دور “دار المخطوط العربي” في جمع وحفظ المخطوطات العربية النادرة.

وأضاف رئيس جمعية المخطوط العربي إن المخطوطات المعروضة لديهم “ملك للأمة”، معتبرا أن مهمتهم هي الحفاظ على المخطوطات وحراستها وتوصيلها للأجيال المقبلة وإتاحتها للباحثين بوصفها موروثا ثقافيا لا يقدر بثمن.

كما استعرض ولد محمد بلال بعض المخطوطات المختارة، وبينها مخطوطات عثمانية وفارسية ومخطوطات عربية قديمة، منها مخطوط يعود زمنه لقرابة 8 قرون مضت، وهو تفسير ابن عطية الأندلسي (481هـ-541 هـ)، الذي قال عنه ابن خلدون “وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.

وتوقف ولد محمد بلال عند مخطوط العلامة الموريتاني حبيب الله بن القاضي، وهو شخصية بارزة في الفقه الإسلامي والقضاء في موريتانيا. والمخطوط النادر هو “شرح على معين والده حبيب الله”، وهو عبارة عن طُرَّة (حاشية) على مختصر خليل، وهو من الكتب المهمة في الفقه المالكي. هذا الكتاب يعد امتدادا لعمل والده حبيب الله، مما يشير إلى استمرارية العلم والمعرفة في هذه الأسرة العلمية.

جهود العلماء الموريتانيين في اقتناء المخطوطات

وعلى هامش الحدث، أقيمت ندوة بعنوان “جهود العلماء الموريتانيين في اقتناء المخطوطات”، أدار ها الشاعر والباحث محمد المناعي، وتحدث فيها عبد الله محمد بلال رئيس “دار المخطوط العربي” بمورتانيا، عن دور العلماء الموريتانيين في اقتناء المخطوطات وجمعها من شتى أنحاء العالم. فقد كانت موريتانيا، بسبب موقعها الجغرافي، مركزاً للتبادل الثقافي والمعرفي، حيث نقل العلماء عشرات الآلاف من الكتب على ظهور الإبل من بلاد المغرب والمشرق وغيرها. ومن أبرز الشخصيات العلمية في هذا المجال، العلامة الشيخ عبد الله ولد الحاج إبراهيم العلوي، والعلامة الطالب أحمد ولد اطوير، الذين سافروا لجمع المخطوطات وضمها إلى المكتبات الموريتانية.

عبد الله ولد محمد بلال رئيس جمعية المخطوط العربي في موريتانيا

وقال المحاضر إن المخطوط العربي هو رئة الأمة التي فاح أريجها علما وأدبا وتاريخا وفنونا لا سقف لإبداعها، مشيرا إلى أن رحلة المداد كانت جزءاً من الهوية الإسلامية.

كما تحدث عن المخطوطات الموريتانية ودور علماء شنقيط في نقل عشرات الآلاف من الكتب النادرة والمصنفات الجزيلة من شتى أنحاء العالم على ظهور الإبل، داعياً دولة قطر إلى أن تعيد خطى المخطوط وتجدد رحلة المعرفة عبر مؤسساتها المهتمة بالثقافة والتراث العربي الأصيل.

“دار المخطوط العربي” ..  جهود في حفظ التراث

لعبت “دار المخطوط العربي” دوراً بارزاً في جمع وحفظ المخطوطات الموريتانية. وترأس هذه الجهود الأستاذ عبد الله ولد محمد بلال، الذي عمل مع فريقه على الحفاظ على المخطوطات النادرة وتنظيم معارض تتيح للباحثين وعشاق المعرفة استكشاف هذا التراث الفريد. يعتبر عبد الله بلال أن المخطوطات “ملك للأمة”، ويشدد على أهمية الحفاظ عليها للأجيال القادمة، ودور “جمعية المخطوط العربي والمحافظة على التراث في موريتانيا” في هذا المجال.

مخطوطات عمرها 800 عام

وذكر من علماء شنقيط العلامة الطالب أحمد ولد اطوير الذي عاد من رحلته بحمل خمسة وثلاثين بعيرا من الكتب، وكذلك العلامة الشيخ عبدالله ولد الحاج ابراهيم العلوي، والذي ذاع صيته بين علماء الأزهر، وكذلك الشيخ سيدي الكبير ورحلته إلى المغرب يلتمس اقتناء كتب ومخطوطات.

كما تحدث المحاضر عن “جمعية دار المخطوط العربي” والتي اسست بهدف المحافظة على المخطوطات الموريتانية والتراث والبيئة، وتحتوي مكتبتها على ما يزيد على 2700. مخطوط تشارك بها الدار في المعارض ليتعرف عليها الباحثين، مشيرا إلى أنه اختار من مخطوطات الدار 200 مخطوط فقط للعرض في كتارا بعضها يعود لأكثر من 700 عام.

رسم نادر للحجرة الشريفة والمسجد النبوي

ومن المخطوطات الموريتانية كذلك مخطوط عثماني يعود لعالم القراءات مصطفى الإزميري، الذي عاش في مدينة إزمير التركية في القرن الـ12 الهجري وأصبحت كتبه مرجعا في علم القراءات بعد ابن الجزري. ومن المخطوطات كذلك رسم دقيق ونادر للحجرة النبوية الشريفة والمسجد النبوي قبل ثلاثة قرون.

ولكل واحد من هذه المخطوطات الموريتانية قصة وحكاية، ومنها قصة الشيخ سيدي ولد عبد الله الموريتاني الذي أهداه حاكم مصر محمد علي باشا فرسا سوداء نفيسة (تسمى كحيلات مصر) لكنه من فرط حبه للعلم والمخطوطات باع الفرس واشترى بها كتابا يسمى “الحطاب”، ولا تزال عائلته تتوارث الكتاب في موريتانيا.

أهمية عرض المخطوطات في كتارا

تجدر الإشارة إلى أن المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا كانت قد سلطت الضوء في مناسبات عديدة على الثقافة والآداب الموريتانية من خلال عدد من الفعاليات والأنشطة، والتي نذكر منها: أسبوع الثقافة الشنقيطية حيث تم تقديم مجموعة من المحاضرات عن جوانب مختلفة من الثقافة الموريتانية العريقة، بالإضافة إلى عرض نماذج من اللباس الموريتاني التقليدي وغيره من التحف والمعروضات.

معرض المخطوطات الموريتانية بكتارا

كما تم تنظيم أمسية أدبية احتضنتها مكتبة كتارا للرواية العربية استضافت الروائي الموريتاني أحمد سيدي، بالإضافة إلى ندوة نظمت بعنوان “قافلة إشعاع شنقيط.. أوجه الاتصال والانفصال بين الثقافة الحسانية و الثقافة العربية” والتي كان قد نظمها مركز أزلاي الثقافي.

وتحرص كتارا على الانفتاح على مختلف الثقافات لمد جسور التواصل والحوار بين الشعوب. ويأتي معرض المخطوطات الموريتانية بكتارا كجزء من استراتيجية الحي الثقافي لتعزيز الحوار الثقافي بين الشعوب، وإبراز التراث العربي الأصيل. نظمت كتارا فعاليات مصاحبة لمعرض المخطوطات الموريتانية، مثل المحاضرات والندوات التي تركزت على جوانب مختلفة من الثقافة الموريتانية، وأسبوع الثقافة الشنقيطية الذي شمل عروضاً للأزياء التقليدية الموريتانية ومناقشات أدبية بحضور نخبة من الباحثين والشعراء الموريتانيين.

خلاصة

يمثل معرض المخطوطات الموريتانية بكتارا جزءاً من جهود مستمرة للحفاظ على التراث العربي والإسلامي، وتقديمه للجمهور والباحثين. معرض المخطوطات الموريتانية ليس مجرد حدث عابر، بل هو خطوة مهمة في سبيل الحفاظ على التراث الثقافي العربي، وتعزيز الوعي بأهمية هذه الكنوز. إذ أن المخطوطات التي عرضت في كتارا ليست مجرد وثائق قديمة، بل هي صفحات من التاريخ، تحمل معها قصصاً من العلم والإبداع والفكر الذي ترك بصمته في الحضارة الإسلامية. إن جهود جمع وحفظ هذه المخطوطات يجب أن تتواصل لتبقى شاهدة على عظمة الثقافة الموريتانية وإسهاماتها في الإرث المعرفي العالمي.