شاءت الظروف التاريخية أن تتشابك مصائر العرب والترك في السرّاء والضرّاء لما يزيد على ألف عام. لا يسمح المقام هنا بتتبع جذور هذه العلاقة، بل يكفي القول إنّ هذا التشابك سابق على الفترة العثمانية ولم يكن دوماً انعكاساً لموازين القوى بين الطرفين. فقد كانا شريكين، كما كانا حكاماً لمحكومين، وفي أحيان أخرى الأخوة الأعداء. وجمع بينهما تاريخ مشترك كما جمعت غالبيتَهما الرابطةُ الدينية وفرقت بينهما المصالح، بخاصة في أواخر أيام الدولة العثمانية وما تلا انهيارها من قيام دول المنطقة الحديثة على أنقاضها.
وأنتجت هذه المستويات المختلفة لهذه العلاقة العربية التركية وتعقيداتها، بخاصة بعد نهاية الحقبة العثمانية، تباعداً بل جفاء بين العرب والترك انعكس في نظرة كل طرف إلى الآخر نظرة عدائية عكست نفسها على الحقبات التاريخية السابقة لهذا التشابك، وبخاصة على الفترة الأطول زمنياً، والأغنى تفاعلاً ثقافياً، أعني الفترة العثمانية التي جمعت العرب والترك في اطار جامع سياسياً وثقافياً لفترة تغطي أربعة قرون كاملة.
لن اتطرق هنا الى نظرة الأتراك الى العرب وإن كان هناك الكثير مما يقال في هذا المجال. فما يعنيني في هذه العجالة نظرة العرب الى الأتراك.
فإلى زمن قريب، بل الى يومنا هذا في حالات كثيرة، انطوت النظرة العربية الى ذاك الماضي العثماني المشترك، وفي هذا يستوي العامة والمؤرخون بل جل القادة السياسيين، على رغم المثالب التي ينطوي عليها هذا التعميم، من أمر كاد يصبح بديهياً لفرط ما شاع وتكرر، ويمكن تلخيصه بأن العصر العثماني، الذي امتد على مدى أربعة قرون بما انطوت عليه من الحسن والسيء، هو عصر انحطاط بامتياز. ويعود السبب في ذلك، الى جانب العوامل السياسية الدولية في مطلع القرن العشرين، الى ان الحركة القومية العربية، الى جانب الحركات القومية الأخرى وفروعها المختلفة، صورت الحكم العثماني على أنه استعمار تركي. وانتشرت في كتب التاريخ المدرسية ولدى الكثيرين من المؤرخين العرب تعابير من قبيل “النير العثماني” أو “النير التركي”.
وأتُهم العثمانيون أو الأتراك بمحاولة طمس اللغة العربية وفرض التتريك. كما صُوّرت كل أعمال العصيان في مختلف المراحل، ومن دون النظر الى دوافعها والإطار الذي حصلت فيه، على أنها حركات تحررية في سبيل الاستقلال العربي أو الاستقلال اللبناني وما الى ذلك.
وربما كان ذلك مفهوماً في العقدين او الثلاثة الأخيرة من الحقبة العثمانية وفي اطار ما اصطلح على تسميته الثورة العربية الكبرى ومشاريع بناء الدولة العربية الوحدوية أو الدول الوطنية. فهذا ما قامت به الحركات القومية التي نشأت على أنقاض الدولة العثمانية أو غيرها من الدول غير القومية من حيث تعاملها مع تلك الدول البائدة. إلا أن النظرة العربية السلبية الى العهد العثماني لم تقتصر على الجانب السياسي بل امتدت لتغطي كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى أصبح العثمانيون (وفي الفهم العربي لا تمييز بين هؤلاء والأتراك) هم سبب التخلف العربي حيث وُجد، وهم المسؤولون عن شيوع ممارسات سلبية في المجتمعات العربية. ويستوي في هذه النظرة الكثيرون، وأكاد أقول الغالبية العظمى، من المؤرخين وكتّاب الرأي من الصحافيين وكتاب النصوص المسرحية والروايات.
وهنالك الى جانب ما سبق مدرسة في التاريخ العربي، كانت في عصر ازدهار المشاريع القومية، تمثل أقلية. هذه المدرسة رأت في الدولة العثمانية آخر دولة للخلافة الإسلامية الشرعية: دولة عملت على نشر الإسلام ورفع رايته والدفاع عنه، ولهذا استهدفتها الدول الأوروبية، غربيها وشرقيها، التي تآمرت عليها. وبناء على هذه المقولة، اختُصر التاريخ العثماني، وبخاصة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بأنه سلسلة متصلة من المؤامرات التي حاكتها الدول الأوروبية للتخلص من الدولة العثمانية بما تمثله للإسلام والمسلمين، وتُقرأ «الثورة العربية الكبرى» وما شابهها من حركات على أنها مجرد نتاج للمؤامرات الدولية.
كما وجد في السنوات الأخيرة اتجاه لدى عدد متزايد من المختصين بالدراسات العثمانية، ومن بينهم بعض العرب، ينظر الى الدولة العثمانية نظرة فيها الكثير من الحنين الى ماضٍ ذهبي مُتخيل. فهناك وجد الكومونولث العثماني الذي كان من سماته المجتمع التعددي حضارياً والمتسامح دينياً. وهو اتجاه ذو وقع جذّاب ويلقى مزيداً من الآذان الصاغية، خصوصاً عند أخذنا في الاعتبار المحنة العربية الحاضرة.
الاتجاهات التأريخية السالفة الذكر، كل من منطلقه ولأسبابه، يغلّب الاعتبارات السياسية الآنية في قراءته للحقبة العثمانية في المشرق العربي، هذا الى جانب القصور المنهجي الذي تشكو منه معظم الدراسات التي تنتج منها. وهي لهذه الأسباب تنتج تاريخاً مشوهاً في أفضل الأحوال لا يتمتع بالحد الأدنى من الأصول البحثية المتعارف عليها. ومن الأمثلة الفاقعة الغباء التي يمكن ايرادها للتمثيل على هذه المدرسة في كتابة التاريخ ما أوردته وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية من تغييرات أُقرّت في تناول كتاب التاريخ المدرسي للفترة العثمانية في إحدى المراحل التعليمية في سورية. وقد طاولت هذه التغييرات أسماء بعض السلاطين وتوصيف بعض الأعمال. وعليه نُزعت صفة “الفاتح” عن السلطان محمد ليصبح محمد الثاني فقط، وأصبح ما اصطلح على الإشارة اليه بـ “فتح القسطنطينية” دخول القسطنطينية أو الاستيلاء على القسطنطينية. وانسحب ذلك أيضاً على البلقان.
ولا تشير التقارير الإخبارية التي أمكنني الوصول اليها الى كيفية توصيف دخول العثمانيين الى بلاد الشام، ولكن ليس من الصعب تخيل ما يمكن ان يرد في هذا المجال. ويبدو أن مصر سبق أن فعلت ما فعلته سورية مؤخراً، في 2010. اذ ترد في عدد “اليوم الجديد” الصادر في 8 آب (أغسطس) الجاري مقالة بعنوان: “فعلتها مصر في 2010: بشار يرد على اردوغان في منهج التاريخ”، حيث يتطرق الكاتب حسن خالد الى التغييرات التي طرأت على كتاب التاريخ المدرسي السوري ويستعيد بالمناسبة ما قامت به مصر في 2010 من تغيير في منهج الدراسات الاجتماعية للمرحلة الثانوية. فقد تغير عنوان أحد الدروس، مثلاً، من الفتح العثماني لمصر الى الغزو العثماني لمصر.
ولست هنا في صدد مناقشة صحة او خطأ هذه التغييرات، لكن الإشارة اليها تأتي في معرض ايضاح الدور السياسي في النص التاريخي. وطبقاً لذلك تتغير نظرتنا للتاريخ العثماني، ليس بتغير أدوات البحث التاريخي أو مصادره، بل بتغير العلاقات بين حكام تركيا الحديثة والحكام في الدول العربية المختلفة، وهي تغيرات من المتوقع استمرارها ما استمرت هنالك دول عربية ودولة تركية تلتقي مصالحها او مصالح حكامها وتفترق من فترة الى أخرى.
من بديهيات البحث التاريخي المعرفة المعمقة للإطار التاريخي لموضوع البحث والإلمام الكافي بمصادره وعدم اسقاط الحاضر على الماضي. وليس من قبيل الافتئات على هذه التغييرات الطارئة على مصطلحات متعارف عليها في التاريخ العثماني القول إنها لا تقوم على اية أسس تاريخية بل هي كيدية سياسية غير مقنعة.
لكن كيف يمكننا ان نصف “الفتح” أو “الدخول” أو “الاحتلال” العثماني ونكون أقرب الى فهم الشامي أو العربي الذي عايش هذا الانتقال من عصر الى آخر؟ ليس أفضل في هذا السياق من أن نسمع أو نقرأ شهادة من عاش في فترة التحولات هذه ونقل الينا مشاعره. إلّا أن صدقية الشهادة تتطلب ان يكون الشاهد منزّهاً عن الأغراض وفي موقع يتيح له الاطلاع على مجريات موضوع الشهادة. والشاهد هنا عالم دمشقي، يعدّ مؤرخ دمشق الأول بلا منازع في أواخر العهد المملوكي وأوائل العهد العثماني. وهنا أقدم نصه في محاولة لفهم النظرة الشامية وربما العربية اجمالاً الى التحول السياسي الهائل الذي طرأ بفعل “الفتح” أو “الدخول” العثماني الى المشرق العربي.
من المهم الإشارة الى أن هذا المؤرخ، شمس الدين محمد ابن طولون، وعلى رغم مكانته العلمية المتقدمة في مجتمع دمشق في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ابتعد عن المناصب الرسمية في العصرين المملوكي والعثماني ووقف حياته على التدريس والتأليف. وهو دمشقي المولد والمنشأ والوفاة، ولد في دمشق المملوكية سنة 880 هـ (1476 م) وتوفي في دمشق العثمانية سنة 953 هـ (1546 م).
وهو كان من أغزر علماء عصره إنتاجاً، وضع ما يزيد على ٧٥٠ من المؤلفات المختلفة المواضيع. وقد تمحورت مواضيع العديد من كتبه ورسائله على ما يتعلق بمدينته دمشق من حيث تاريخها وقضاتها وبعض أحيائها، وقد نُشر له في الفترة الحديثة العديد من الكتب وبخاصة ما يتعلق منها بتاريخ دمشق في العصرين المملوكي والعثماني.
وتكمن أهمية ابن طولون كمؤرخ في أنه يكتب عما عاصر من أحداث وينقلها لنا كما شاهدها أو كما وصلت الأخبار بها إلى دمشق على شكل تدوين يومي (يوميات). كان ابن طولون يعيش في دمشق سنة ١٥١٦، وقد نقل إلينا مشاهداته قبيل معركة مرج دابق، من وصول العساكر والسلطان المملوكي إلى دمشق وخروجه للقاء العسكر العثماني وما تلا ذلك من وصول أخبار هزيمة المماليك، ومن ثم وصول العسكر العثماني والسلطان سليم الى دمشق. الأهم من ذلك، أن ابن طولون نجح في أن يوصل إلينا شعوره كدمشقي تجاه السلطان المملوكي ثم تجاه السلطان العثماني والعثمانيين “الفاتحين” أو “المحتلين” بطريقة غير مباشرة ومن دون أن يتخذ موقفاً صريحاً، تأييداً او اعتراضاً، وذلك عبر مشاهداته المباشرة. وهو بذلك كان أقرب إلى نقل مواقف ومشاعر أهالي دمشق، وربما عموم أهالي بلاد الشام مما كان يدور حينذاك. إذاً، نحن أمام شهادة عالم من أهم علماء عصره، والعلماء حينذاك لسان حال ما يمكن تسميته “الرأي العام”.
يقول ابن طولون في كتابه (مفاكهة الخلان في حوادث الزمان) حول خلفيات معركة مرج دابق ما يلي:
“وفي هذه الأيام تواترت الأخبار بأن السلطان (قانصوه الغوري) بقلعة حلب… وفي بكرة يوم الجمعة ثالث عشريه (رجب 922 – 11 آب – أغسطس – 1516) ورد مرسوم مؤرخ بثامن الشهر من حلب من السلطان، وفيه انه عزم على التوجه الى ملاقاة ملك الروم سليم خان، وأنه يسأل الدعاء من أهل دمشق له، وأن ملك الروم قد جهز عساكر كثيرة من النصارى والأرمن وغيرهم له. فاجتمع قضاة دمشق الأربعة، والشيخ عبد النبي، ومن يلوذ به من المرائين، في جامع بني أمية بعد صلاتها في المقصورة، وكذا يوم السبت والأحد، وقرأوا سورة الأنعام، ودعوا للسلطان وعسكره، وخصوصاً بين الجلالتين، ولم يحضرهم أحد من المباركين، وألسنتهم ناطقة بالدعاء لمن قصده الخير منهما.
وشاع بين الناس أن سبب توجهه، بعد ان كان قصده الصلح، توجه ملك الروم اليه، وأخذ قلعة الروم، وما والاها الى عينتاب، بسبب انه اطلع على مطالعات من سلطاننا الى الخارجي اسماعيل الصوفي يستعينه على قتال ملك الروم سليم خان.
وفي عشية يوم السبت ثاني شعبان منها، وصل الخبر على يد هجانة الى دمشق، أن سلطاننا التقى مع ملك الروم في مرج دابق، بموضع يعرف بتل الغار، وقيل بمرج الطبقة، فوق أرض مرج دابق، يوم الأحد رابع عشري رجب الماضي،… وأنه كانت النصرة أول النهار لسلطاننا، وفي وقت الظهر اشتغل عسكره بالنهب، فرجع عليهم ملك الروم بالبندق الرصاص فكسرهم.
فلما رأى سلطاننا ذلك دعا بماء فشرب، وأغمي عليه، ثم سقط ميتاً بالقولنج، وهو يستغيث بالأغوات، وقيل انه سقط وبه رمق من الحياة، فأركب ثم سقط ثانياً ميتاً… وأما سلطاننا فقطع رأسه ووجه إلى إستانبول، كما قال لي المحبّ ناظر الجيش، وجثته قيل دفنت عند الشيخ داود بأرض دابق، وقيل حملت الى حلب ودفنت بتربة له فيها، كانت قديماً، لما كان متولياً الحجوبية الكبرى بها، والصحيح أنه لم يعلم حاله.
وشاع بدمشق أنّ ملك الروم سليم خان دخل قلعة حلب، وتسلم المال الذي بها ووزنه وأرصده، وأقام بالقلعة نائباً له… ثم سدّ أبواب حلب خلا بابين، أحدهما من جهة الروم، والآخر من جهة دمشق، وسكن في القلعة… وأخذ كل ما فيها من الودائع عند أهلها للمنهزمين، وأحسن الى فقهائها وفقرائها“.
نلاحظ في الاقتباس السابق ما يلي:
أولاً، الدقة والأمانة العلمية عند ابن طولون في ايراد المعلومات: فالأخبار “تواترت”، ثم الاقتباس من مرسوم ورد من السلطان المملوكي من حلب، فوصول أخبار معركة مرج دابق “على يد هجانة إلى دمشق”، ثم حول مصير قانصو الغوري “كما قال لي المحب ناظر الجيش”.
ثانياً، يتضح موقف ابن طولون من السلطة المملوكية من دون أن يصرح به مباشرة، اذ يقول إن حضور الدعاء بالنصر للسلطان والجيش المملوكي، بالإضافة الى الرسميين، اقتصر على “المرائين” “ولم يحضرهم أحد من المباركين، وألسنتهم ناطقة بالدعاء لمن قصده الخير منهما”.
ثالثاً، الدقة في التوصيف: فقانصو الغوري «سلطاننا» حتى بعد قطع رأسه، وسليم خان هو ملك الروم حتى بعد هزيمة المماليك ودخول سليم الى حلب. ليت مؤرخينا الجدد يقتدون بذلك.
يورد ابن طولون ما قام به السلطان سليم من اجراءات وإحسانه الى الفقهاء والفقراء من دون تعليق، فليس هنالك استحسان أو استنكار لها.
رابعاً، ما يورده ابن طولون حول خلفيات معركة مرج دابق من حيث الاتصالات المملوكية – الصفوية، وهو ما “شاع بين الناس”، أصبح الآن أمراً مثبتاً تاريخياً. كذلك مسألة عدم العلم بأي أرض دفن جثمان الغوري، فالأمر ما زال مجهولاً.
ننتقل الآن لنرى كيف تعامل ابن طولون مع “«الفتح” أو “الدخول” أو “الاحتلال” العثماني لدمشق:
ثم في يوم الجمعة خطب على منبر الأموي الولوي بن الفرفور باسم ملك الروم، وكذا في سائر الجوامع. ثم تتابع دخول العسكر، فذهب بعضهم ونزل على أناس خارج دمشق كرهاً، فذهبوا واشتكوا عليهم، فجاء ربطهم في حبال، ثم ذهب بهم الى ضفة الخضر وضرب أعناقهم، فارتدع بقية العسكر بهم.
وفي بكرة يوم السبت مستهل رمضان منها (922 هجرية)، وصل ملك الروم سليم خان بن با يزيد خان… الى المصطبة لصيق القابون الفوقاني، في عساكر عظيمة لم نر مثلها، ويقال إن عدتها مئة ألف وثلاثين ألفاً، ما بين أروام وأرمن وتتر وسوارية وإفرنج وغير ذلك.
وقدّامه ثلاثون عربة، وعشرون قلعة على عجل، يسحب كلا منها بغلان. ولما أطلقوا البارود في المصطبة، ظنت أهل دمشق أن السماء انطبقت على الأرض، وخلفهم النايات والطبول النقّارة، وخلفهم المشاة رماة البندق، وخلفهم الخنكار الملك المذكور، وخلفه السناجق والطوخان والعساكر على وفق طبقاتهم.
ولما نزل لم يجتمع به أحد، ولكن قضاة دمشق الأربعة، كانوا باتوا تلك الليلة عند القاضي كريم الدين بن الأكرم، ثم سروا من عنده، فاجتمعوا في الدرب بقاضي العسكر، فجاء بهم الى الخنكار، فباسوا يده، الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي.
وفيه (يوم الأحد 2 رمضان 922) ذهبت إلى وطاق الخنكار، قاصداً الاجتماع بالمدرسين الذين معه، ويقال أن عدتهم ستة وثلاثون مدرساً حنفيّاً، فلم يتيسّر ذلك لعدم المعرفة بلسانهم، فدرت فيه فذهلت من كثرته، وتعجبت من الأسواق التي فيه، وقلما تروم شيئاً لا تجده فيها، وهي سائرة معه من بلاده، فمن صنف اللحامين خمسة عشر قالياً للحم، ومثلها من الطبّاخين لألوان عدة، ومثلها حكماء، ومثلها جراحية، ومثلها بياطرة، ومثلها أساكفة، ومثلها حدادون، ومثلها علاّفون، وهذه الأعداد تقريباً وغالب ظني أنها أكثر من ذلك. الى غير ذلك من السوقة.
ثم ذهبت إلى العربات والقلاع، فتفرجت فيها، ولم أرها قبل ذلك. فإذا هي أمر عجيب تدل على تمكنه، والعربات مجنزرة، بعضها في بعض، بحيث إذا صفت تكون كالسور، وكل عربة ترمي بندقة ملء كف الرجل من رصاص، ولهذا البندق صندوق تحتها، وهي مركبة عليه في طول الشخص. ثم ذهبت الى مخيم الخنكار فلم أمكن من القرب به، وتفرجت على طبوله، فإذا كل طبل قدر حمولة رجلين، يحمل كل اثنين منهما على جمل، ومخيمه على نفس المصطبة، والعسكر بالبعد منه قدر رمية حجر من كل جانب، وهم محتاطون به كالسور على البلد.
وفي يوم الخميس سادسه (رمضان) دخل الخنكار من المصطبة الى حمام الحموي، الكائن بعمارة السلطان قايتباي، بمحلة مسجد القصب، ودخله وأعطى لمن حلق له خمسمئة درهم، ولمعلم الحمّام مثلها، ونودي له بمعلم الحمّامين، وكان قدامه من الخاصكية جانب كثير، وخلفهم رماة البندق، وخلفهم الشاووشية، ثم هو، وخلفه أمردان بشعور لابسين على رأسيهما كوفيتين من ذهب، وخلفهما جمع من عسكره، وكان قبل دخوله بلحية لطيفة، فلمّا خرج من الحمّام رأيناه قد حلقها كغالب عسكره، ثم ركب ورجع الى المصطبة“.
وهذه الرواية تنبئنا بالكثير حول شعور سكان دمشق تجاه سلطانهم ودولتهم الجديدة. اذ يوضح المؤلف أن أهل الحل والعقد توافقوا على تسليم المدينة من دون قتال: “وقد كان اجتمع قبل هذا اليوم شيخنا عبدالنبي، والشيخ حسين الجناني، والشيخ مبارك القابوني، وخلق، في المصلى بميدان الحصى، واتفقوا هم ومشايخ الحارات على تسليم البلد، فتلقت الخلق لهذين الخاصكيين، ومن معهما، مع تهليل ومشاعلي ينادي بالأمان،… فسلمتهم الناس البلد، ودخلوا اليها وفتحوا ابوابها، وكان لها من يوم السبت مغلقة“. وهكذا لم يحدث أي قتال في دمشق أو بالقرب منها.
كذلك لم يجر التعامل مع المدينة كمنطقة معادية تم احتلالها للتو ولم تستبح بأي شكل من الأشكال. فعندما نزل بعض العساكر على أناس خارج دمشق كرهاً، واشتكى الناس عليهم، عاقبهم متسلم دمشق أشدّ العقاب اذ “ربطهم في حبال، ثم ذهب بهم الى ضفة الخضر وضرب أعناقهم، فارتدع بقية العسكر بهم“.
إلاّ اننا نتلمس في رواية ابن طولون ما هو أعمق وأهم من ذلك، اذ إنه توجه الى المنطقة التي أقام فيها العثمانيون سرادق السلطان بقصد الاحتماع الى العلماء. وهو فعل ذلك في اليوم الثاني لوصول السلطان الى خارج دمشق من دون الحصول على أي اذن او وساطة من أحد ومن دون تردد أو تهيب. وهذا الفعل أبلغ من أي توصيف اذ يوضح لنا نظرة أهل دمشق الى السلطة الجديدة والجيش “الفاتح”» وهي هنا لا تحتاج الى اي ايضاح او تعليق.
وصف ابن طولون لما رآه لدى زيارته للمخيم العثماني ينم بوضوح عن أقصى درجات الانبهار بما رآى من مظاهر القوة والبذخ. فبالإضافة الى الأعداد الهائلة للعسكر يصف ابن طولون المدافع الضخمة والطبول الكبيرة وصولاً الى ما يسميه “الأسواق” التي في منطقة سرادق السلطان. ومن المعروف في التاريخ العثماني أن دوائر القصر السلطاني في اسطنبول، كانت ترتحل مع السلطان عندما يقود شخصياً الجيش العثماني.
وعلى رغم مظاهر القوة والعظمة لجيش كان قد وصل الى دمشق قبل يوم واحد فقط، لم يخامر ابن طولون اي شعور بالخوف وهو يتجول في أرجاء مخيم الجيش “المحتل”، بل ان وصفه يترك لدينا الانطباع بأن ما كان يفعله أقرب الى “سيران” باللغة الدمشقية.
وكان قصد ابن طولون من زيارة الوطاق السلطاني، كما يخبرنا، الاجتماع بالمدرسين الذين معه أي مع السلطان، “فلم يتيسر ذلك لعدم المعرفة بلسانهم”». والأرجح أن المقصود هنا أن عدم معرفة ابن طولون باللغة التركية لم يمكنه من التواصل مع الحراس للوصول الى العلماء في وطاق السلطان، وربما لو قيض له أن يجتمع بهم لكان قد وصل الينا حوار مهم بين علماء الجيش «الفاتح» وعالم من المدينة التي دخلها هذا الجيش.
وإلى جانب ذاك، لا بد من الإشارة الى أن جرأة ابن طولون في التوجه الى المخيم السلطاني، ودخوله وعدم اعتراضه من جانب القائمين عليه، وصولاً الى خيمة السلطان شخصياً، سلوك لا يدل على شعور بالهزيمة أو بالخوف أو التوجس من الجيش الفاتح. لقد دفعه الى ذلك حب الاستطلاع والتعرف الى العلماء المصاحبين للسلطان وثقته بأن هذا الجيش ليس جيشاً لعدو بل إنه أقرب ما يكون، في ضوء سلوك ابن طولون، الى جيش صديق.
وحب الاستطلاع هذا غلب أيضاً على تصرف الكثيرين من أهل دمشق الذين أصروا على الفرجة على موكب السلطان سليم متوجهاً الى الحمام وخارجاً منه ومن بينهم ابن طولون شخصياً. ولم يردعهم عن ذلك خوف من الجيش المحتل أو شهرة السلطان سليم الملقب بـ “ياووز” أي الصارم او المتجهم والسريع الغضب، من ان يكونوا في مكان يمكّنهم من ملاحظة أن السلطان “كان قبل دخوله بلحية لطيفة، فلمّا خرج من الحمّام رأيناه قد حلقها كغالب عسكره“.
أترك للقارىء، بعد ايراد هذه الشهادة، أن يضع لهذا الوصول العثماني التصنيف الذي يراه مناسباً.