تعد قضية التجديد من أكثر القضايا المتداولة في زماننا، فالكل ينادي بالتجديد، ويطالب به، وكل فريق يرى نفسه هو المعيار على مفهوم التجديد.
فما هو التجديد حسبما جاء في القرآن والسنة، وما هي أهم صوره؟ وكيف تتجلى دلالات التجديد من خلال الانضباط العلمي الذي يزيل كثيرا من اللبس ويقلل الاختلاف بين متنازعيه؟
التجديد في القرآن الكريم
لم يرد التجديد بلفظه في القرآن الكريم، وإن كان القرآن من مقاصده التجديد، وهو دائما متجدد، كما جاء في الحديث: “ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه..” ([1]). أي أنه لا يبلى، بل متجدد بشكل دائم، فإن كانت الثياب تبلى من كثرة الاستعمال، وتنتهي وظيفتها، فإن القرآن دائم يتجدد، فيجد العلماء فيه من المعاني مالم ينكشف في العصور السالفة.
ومن رسالة القرآن تجديد الوحدانية، وذلك أن الله – تعالى – أخذ العهد على الناس وهم في الأصلاب أن يؤمنوا به ويوحدوه، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)([2])، ولتجديد هذا العهد أرسل الله – تعالى – الرسل ليذكروا الناس بهذا العهد المأخوذ والوفاء به.
وقد جاء في الحديث القدسي هذا المعنى من خلق الناس على فطرة التوحيد، غير أن الشياطين بدلته في الناس كفرا وإلحادا؛ فعن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ( ﷺ): “يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم”([3]).
وهذا ما يؤيده أيضا حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال ( ﷺ): “كل مولود يولد على الفطرة” وفي رواية “على هذه الملة فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟”([4]).
ولهذا جاء في حديث عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله ( ﷺ) أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك ( ﷺ) فاشتد عليه ثم قال “ما بال أقوام يتناولون الذرية” فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال “إن خياركم أبناء المشركين. ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها” قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية([5]).
ولما كانت فطرة الناس على التوحيد، وتغيرت هذه الفطرة من خلال الشياطين أو من فعل بني البشر، ممن يغيرون ملتهم وملة أبنائهم، كان بعث الرسل من أجل تجديد الغاية الكبرى من الإرسال والكتاب، وهي إعادة التوحيد في قلوب وحياة الناس.
ولهذا أوضح الله – تعالى – هذه الغاية من بعث الرسل فقال: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) ([6]).
وقد جاء في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ( ﷺ) “لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه. ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين”. وفي لفظ آخر “من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه”(([7].
وإن كان الإصلاح من معاني التجديد، فإن من أهم أهداف القرآن الكريم الإصلاح، كما قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)(([8]، وقال أيضا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)([9]).
ونلخص من هذا أن القرآن – وإن لم يتناول لفظ “التجديد”-، فإن مفهومه من أهم المحاور التي ركز عليها القرآن الكريم، سواء أكان تجديدا للتوحيد، أو تجديدا لرسالة الإصلاح في الأرض.
معنى التجديد في السنة
أما السنة فقد أوردت لفظ التجديد، ورسخت أيضا معانيه، فقد ورد اللفظ في حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ): “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”([10]).
والمقصود بتجديد الدين أي إحياء ما اندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة وما ذهب من السنن، وخفي من علوم الشريعة والتزكية والأخلاق ([11]).
كما بيَّن الرسول ( ﷺ) أن الإيمان يبلى في نفس الإنسان كما يبلى الثوب، وهو يحتاج إلى تجديد وإعادة الروح والنشاط فيه؛ فقال ( ﷺ): “إن الإيمان يخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله – تعالى – أن يجدد الإيمان في قلوبكم” ([12]).
كما جاء التجديد بمعنى الإعادة في قوله ( ﷺ): “لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتى بملوك بعد ملوك”([13]).
صور التجديد
ومن خلال النظر إلى تعريف التجديد في اللغة والاصطلاح والقرآن والسنة، يمكن أن نضع صورا للتجديد، هي:
الصورة الأولى:
إحياء ما اندرس من المفاهيم الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة، والتصدي للبدع التي تظهر من حين لآخر، ورد الناس إلى جوهر الإسلام الصحيح([14]) .
فالتجديد ” لا يعني أبدا التخلص من القديم، أو محاولة هدمه، بل الاحتفاظ به، وترميم ما بلي منه، وإدخال التحسين عليه ([15])…
الصورة الثانية:
التجديد بمعنى التنمية والتوسع، وإضافة أمور لها صلة وثيقة بالشيء المجدد، فتضيف إليه مابه يكتمل البنيان.
الصورة الثالثة:
التجديد بمعنى التمحيص والتحرير والترجيح فيما فيه تنازع بين العلماء، كل في فنه([16]).
فالتجديد يقتضي عدة أمور، هي:
- الاحتفاظ بجوهر البناء القديم، والإبقاء على طابعه وخصائصه، بل إبرازه العناية به.
- ترميم ما بلي منه، وتقوية ما ضعف من أركانه .
- إدخال تحسينات عليه لا تغير من صفته، ولا تبدل من طبيعته.
معالم التجديد:
تتلخص معالم التجديد فيما يلي:
أولا- تنظير الفقه الإسلامي:
بأن تصاغ أحكام الفقه الجزئية وفروعه المتفرقة،ومسائله المنثورة في أبوابها المختلفة من كتبه في صورة ” نظريات كلية عامة” تصبح هي الأصول الجامعة، التي تنبثق منها فروعها، وتتشعب جزئياتها المتعددة، وتطبيقاتها المتنوعة. وذلك على نحو ما هو معروف في القوانين الأجنبية، في مثل: ( النظرية العامة للالتزامات)، و(نظرية الأهلية)، و(نظرية البطلان) وغيرها.
وهذا ” التنظير” أو ” التأصيل” شبيه- إلى حد ما- بما صنعه فقهاؤنا في العصور الماضية من وضع قواعد فقهية عامة، تندرج تحتها أحكام جزئية كثيرة، مثل قاعدة :” الأمور بمقاصدها” ” المشقة تجلب التيسير”، ” الضرر يزال” ” العادة محكمة” ” اليقين لا يزول بالشك”.
بيد أن الذي نريده في عصرنا أمر آخر يختلف عن ذلك في مضمونه ونتائجه، وإن كان كلا الأمرين جمعا للمتفرقات، وإدرجا للجزئيات تحت كلياته .
ثانيا- الدراسة المقارنة:
ويقصد بها دراسة الفقه دراسة علمية موضوعية مقارنة، تكشف عن مكنون جواهره، وعدالة مبادئه، ورسوخ قواعده، وتجلي ما فيه من روائع الاجتهاد والاستنباط والتوليد والتخريج.
وتنقسم الدراسة المقارنة إلى نوعين:
النوع الأول: الدراسة المقارنة بين المذاهب الفقهية ، وينبغي أن تعتمد هذه الدراسة على:
- الوصل بين الفقه والحديث .
- العناية بفقه الصحابة والتابعين .
- العودة إلى المراجع الأصلية .
النوع الثاني: الدراسة المقارنة بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية .
ثالثا- فتح باب الاجتهاد:
والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، يجب أن تراعي عدة أمور، أهمها:
أ – الاهتمام بالاجتهاد الجماعي من خلال المجامع والمؤسسات الفقهية .
ب – إعادة النظر إلى الفقه القديم في ضوء مقتضيات وظروف العصر .
ت - ألا يقتصر الاجتهاد على أحكام ” الرأي” أو ” النظر” التي لم يكن فيها نصوص شرعية، بل يدخل في دائرة الاجتهاد الأحكام التي بنيت على نصوص ظنية الثبوت والدلالة .
ث - أن تشمل دائرة الاجتهاد أصول الفقه، إكمالا لما قام به الشاطبي والشوكاني وغيرهما، ومن أهم تلك القضايا الأصولية التي تحتاج إلى إعادة النظر فيها بالاجتهاد: تمييز السنة التشريعية وغير التشريعية، والتشريعية المؤقتة من التشريعية المؤبدة، وتمييز تصرف الرسول بمقتضى الإمامة والرياسة للأمة، من تصرفه بمقتضى الفتوى والتبليغ عن الله.
ومن ذلك أيضا: مناقشة موضوع الإجماع- وبخاصة السكوتي منه-، ومدى حجيته، وإمكان العلم به، وكثرة دعاوى الإجماع، مع ثبوت المخالف، وتحقيق القول في الإجماع الذي ينبني على مراعاة مصلحة زمانية لم تعد معتبرة اليوم.
ومثل ذلك: القياس، والاستحسان، والاستصلاح، ومتى يؤخذ به، ومتى لا يؤخذ؟ وما ضوابط كل منها وحدود استعماله ([17]) .
([1]) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب: فضائل القرآن عن رسول الله، باب ما جاء في فضل القرآن،، والدارمي في سننه، كتاب: فضائل القرآن- باب:فضل من قرأ القرآن، ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 2040،ج 1/741
([3]) رواه مسلم في صحيحه، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار
([2]) الأعراف: 172
([4]) رواه الشيخان
([5])– الآية في سورة الأعراف: 172، والحديث رواه أحمد في المسند، وأخرجه البيهقي 9130، ج9/130، وأخرجه الطبراني 1285 المجمع الكبير، ج1/258.
([6])– النساء: 165
([7])– رواه الشيخان
([8])– الأعراف: 56، وأيضا الآية:85 من نفس السورة.
([9])– هود: 117
([10])– سنن أبى داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة رقم (4270)
([11])– انظر فيض القدير ج 2/282، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج 11 / 260
([12])– رواه الطبراني.
([13])– رواه أحمد في المسند
([14])-التجديد في أصول الفقه.. دراسة وصفية نقدية، الدكتور شعبان محمد إسماعيل، ص: – 3927، بتصرف.
([15])– الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، الدكتور يوسف القرضاوي، ص: 30، مكتبة وهب.
([16])-التجديد في أصول الفقه.. دراسة وصفية نقدية، الدكتور شعبان محمد إسماعيل، ص: – 3927، مكتبة دار السلام بالقاهرة،
([17])– راجع: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، الدكتور يوسف القرضاوي، ص: 30- 43 .