يُنسب لأديب ألمانيا الكبير يوهان غوته قول مفاده: أن تجهل الحقيقة ثم تسعى لاكتشافها ومعرفتها فأنت إنسان عاقل، أما أن تعرف الحقيقة ثم تحاول إخفاءها وتشويهها فأنت إنسان قاتل. وكذلك كان أبو جهل في مبتدأ البعثة المحمدية، قاتلا لنفسه ولقومه، ومسيئا للحقيقة الساطعة التي شهد براهينها، وأقرّ بصدق حاملها ﷺ، لكن المكابرة أبت أن يكون تابعا لأحد أقرانه من بني هاشم!
جرت مشيئة الله تعالى أن يكون لأنبيائه ورسله أعداء، يناهضون الحق ويخاصمون أهله. ولعداوتهم تلك أسباب متعددة:
- فمنهم من يجد في دعوة التوحيد خلخلة عميقة لموروث الشرك والوثنية التي تربى عليها، ومساءلة قائمة على البراهين والحجج لما يعتبره مسلمات وثوابت لا غيار عليها.
- ومنهم المنتفع بالوضع السائد، ومن يجني من المواضعات والأعراف البالية ثراء ماديا أو وجاهة ومكانة اجتماعية، فيجد في الدعوة الجديدة تهديدا مباشرا لمكاسبه، وللهيمنة التي يبسطها على عامة الناس.
- ومنهم الحسود الحاقد، والذي يرى أنه الأجدر بتولي هذا الأمر، والأحق بالنهوض به لصفات يجدها في نفسه، أو أسبغها عليه الناس، من قبيل الشجاعة والغنى والزعامة وغيرها. وهذا الصنف لا يعنيه الإقرار بالحقيقة بقدر ما يشغله الإجهاز على الداعي إليها.
لكن بعض الأعداء قد تجتمع فيهم كل تلك الأسباب، فتتحجر عقولهم، وتشتد وطأتهم على الحق وأهله، ويبذلون حتى أرواحهم في سبيل القضاء عليه. من هذه الطينة تشكلت على مر التاريخ قافلة من أنصار الباطل وكهنته وسماسرته، بدءا بالنمرود وفرعون، ووصولا إلى تنظيمات وإيديولوجيات تكافح اليوم من أجل عودة الإنسان إلى ضلاله القديم!
لا يكاد مشهد من مشاهد إيذاء النبي ﷺ وأصحابه في مكة يخلو من ذكر لأبي جهل. فهو إما حاضر بذاته ليشتم ويسب ويعذب، وإما واقف خلف ستارة ليحرض ويؤلب ويثير حمية الجاهلية. تجده مع وفود قريش إلى أبي طالب للمفاوضة أو إبداء الشكوى، ومع عامة الناس و سفهائهم ليحرض على إيذاء النبي ﷺ أو التعرض لأحد من أصحابه. ثم تراه في الأسواق يتبع النبي ﷺ ليمنع الناس من الإصغاء إليه، ويحذرهم من تشويشه على معتقداتهم. لا يمل ولا يكل في سبيل تأسيس جبهة كفر موحدة، تتصدى لجبهة التوحيد بكل ما أوتيت من خبث وقسوة ودناءة.
فما سر تلك العداوة الشديدة؟ وهل هي وليدة تعلق بالدفاع عن دين الآباء والأجداد كما يزعم، أم لها جذور تمتد لما قبل البعثة المحمدية؟
تنقل بعض مصادر السيرة النبوية عن أبي جهل إقراره بأن محمدا ﷺ صادق، فلم يجربوا عليه الكذب قبل بعثته، أما خبر السماء الذي جاء به فلا يمكن تصديقه، ليس لذاته فحسب، وإنما لما يترتب عنه من تفكيك للوضع القائم.
سأله المسور بن مخرمة: هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقال : يا ابن أختي، والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط!
قال: يا خال، فلم لا تتبعونه؟
قال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي. فمتى ندرك مثل هذه؟!
وينقل عنه الأخنس بن شريق نفس الموقف يوم بدر حين قال: إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ وهذا يعني أن الأمر يتعلق بالخلفية الاجتماعية لقريش، وبتقسيم الوظائف الدينية المرتبطة بالكعبة، والذي شهد صراعات متكررة بين العشائر. لذا فالإقرار لمحمد ﷺ بالنبوة يعني برأيه رجحان كفة بني هاشم في السيادة الدينية على بيت الله الحرام، وما يستتبع ذلك من إلغاء للتوافقات السالفة.
ما يهم أبا جهل إذن في المقام الأول ليس مضمون الرسالة المحمدية، وإنما أثرها على شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة. من هنا توجب استهداف شخص النبي ﷺ بكل الأساليب المتاحة، والتصدي لكل خطوة تخطوها دعوة التوحيد داخل أو خارج مكة.
أدرك أبو جهل أن تكذيب النبي ﷺ لا يفي بالغرض، خاصة وقد شهدت له منظومة قيم الجاهلية بالصدق والأمانة وحسن الخلق. مثل تلك الشهادة لسنوات عديدة لا يمكن إبطالها بسهولة، لذا فالحل هو التضييق على مبادرات النبي ﷺ لتبليغ أمر ربه، ومنع وصول الرسالة.
يروي أحمد في مسنده عن رجل من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز يتخللها يقول:” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم ولتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله ﷺ.
ولم يكتف بالتشويش على الرسالة في الأسواق التي هي بمثابة فضاءات للتجمع البشري في الجزيرة العربية، بل كان يفرض رقابته حتى على حركة الأفراد، وحريتهم في تلقي دعوة التوحيد والتفاعل معها. فكان إذا سمع بإسلام رجل جليل القدر قال له: تركت دين آبائك وهو خير منك، لنسفهنّ حلمك، و لنغلبنّ رأيك، ولنضعنّ شرفك.
وإن كان تاجرا فيقول له: لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك.
أما إن كان ضعيفا من عامة الناس فإنه يُهينه ويضربه. وهكذا كان يخوض حربا نفسية تتناسب مع مكانة الشخص ومصالحه ووضعه الاجتماعي. وقد بلغ من تأثير تلك الضغوط والشائعات التي أثيرت حول الدعوة أن يضع الرجل القطن في أذنيه، خشية أن يتأثر بشيء من كلام رسول الله ﷺ، مثلما جرى مع الطفيل بن عمرو الدوسي قبل إسلامه.
ومادامت معجزة النبي ﷺ هي القرآن الكريم، فقد عمد أبو جهل إلى استهداف آياته للحد من أثره على قلوب مستمعيه. فإن لم يفلح في صد الناس عن سماعه، فليستخف بالآيات ومعانيها ليبلبل أذهانهم، ويشكك في اعتباره وحيا من السماء. لذا حين ذكرت شجرة الزقوم في القرآن علّق قائلا: هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يُخوفكم بها محمد ﷺ ؟
قالوا: لا
قال: عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمكنّا منها لنتزقمنّها تزقما. فأنزل الله تعالى فيه قوله: { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم } (سورة الدخان:43- 46).
ويسخر من مشاهد النار وملائكة العذاب قائلا: يا معشر قريش، يزعم محمد ﷺ أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا وكثرة. أفيعجز كل مئة رجل منكم عن رجل منهم؟!
غير أن رقعة التوحيد آخذة في التوسع، والناس من داخل مكة وخارجها يُقبلون على دعوة الإسلام، ولم يعد لسلاح السخرية والإيذاء النفسي أثره في صد النفوس عن الحق. هنا تأخذ المواجهة طابعا وحشيا، ويسطر أبو جهل صفحات دموية في تعذيب المستضعفين، لعل أشدها دناءة هي طعنه لامرأة عجوز بحربة في قُبلها تغيظا من قوة إيمانها وثباتها.
وفي رعونة لا تليق بمن تعده مكة أحد سادتها، يوعز أبو جهل إلى سفهاء مكة بأن يلقوا سلا جزور على كتفي الرسول ﷺ وهو ساجد. ويهدد علنا بتصفيته إن رآه يصلي، ثم يتراجع من هول ما عاينه، كما ورد في الحادثة الشهيرة ، فلا يزيده ذلك إلا حنقا وعداوة وخبثا.
فجرت النبوة مكامن الحسد في قلب أبي جهل فانكشفت أمام الناس مفاتيح شخصية مضطربة، قوامها الطيش والفجور، والإعراض عن الحق الناصع، وتجسيد الشر المطلق في بيئة تحتكم رغم جاهليتها إلى منظومة للقيم. كان عنيدا في كفره بلا حجة أو دليل، حريصا على إبقاء نار العداوة مستعرة حتى في المواقف التي تحركت فيها إنسانية المشرك، كما جرى في حادثة حصار الشعب. وإذا كان أبو جهل قد قتل يوم بدر فإن عداءه ” النموذجي” للإسلام لم يمت، وأبوته للجهل لم تنفك عن إنجاب بنين وحفدة، ورثوا حمقه ورعونته في الإساءة للحق، ومعاداة أهله، وإثارة شبهات مردودة تحت غطاء أكاديمي يدعي التجرد والموضوعية.