لم ينفك المسلمون في كل العصور منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم يحاولون مقاربة القرآن الكريم بمداخل شتى في محاولة استلهام معانيه والإفادة منه في جوانب كثيرة تعبدا وتنفيذا لأمر الله عز وجل واتباعا لهدي نبيه ﷺ..
وفي بعض تلك المقاربات كانت تتجلى طبيعة العصر، ونوعية العلم الذي شكل العقلية التي تقود عملية المقاربة، بل وحالة الأمة وقتها على سلم الحضارة العالمية…
وفي كتاب العلواني (نحو منهج لتدبر القرآن) الذي نتعامل معه في تلك الإطلالة، يفصل القول في أغلب تلك المقاربات، ويظهر بعض الأخطاء التي وقعت بسببها، في محاولة للوصول إلى المنهج الأمثل الذي استعرضناه في الحلقة الأولى وهو ما سماه “منهج جيل التلقي”.
مقاربة جيل الرواية
الكتاب يلفت إلى وجود جيلين بعد جيل التلقي من المهم أن يتم التعرف عليهما وعلى ما أرسوه من مناهج لفهم القرآن الكريم، حتى تتضح طبيعة الإشكاليات التي نجمت عنها..
فالكتاب يرى أنها من الأمور التي أسهمت بشكل أو بآخر في تلك “القطيعة المعرفية مع القرآن الكريم، والتي أرساها منهج جيل التلقي في التعامل مع كتاب الله جل وعلا..
ويبدأ بالإشارة إلى الجيل الثاني مباشرة بعد جيل التلقي، وهو جيل صغار الصحابة الذين كبروا بعد وفاة رسول الله ﷺ وكبار التابعين، هذا الجيل كان يسمّى بجيل الرواية؛ لأنَّه بدأ يلتقط كلّ ما تركه جيل التلقي، ويحاول استيعابه وتداوله، ومعالجة مستجداته به، ونقله إلى الأجيال الأخرى، ولذلك نسميه بجيل الرواية نسبةً إليها..
وقد ازدهرت الرواية، في ذلك الجيل سواء الرواية المتعلقة بنقل القرآن المجيد وتعليمه للأجيال التالية، أو نقل قراءاته وأحكام تجويده والصلاة به وكيفيّات اتباع النبي _ ﷺ_ له وتنزيله في واقع معيش وسائر ما يتعلق بذلك، أو الأحاديث النبويّة الشارحة سواء أكانت أحاديث قوليّة أو أحاديث فعليّة تطبيقيّة أو أحاديث تقريريّة، تلك الأحاديث الشارحة والمبيّنة لكيفيّات الاتبّاع للقرآن المجيد..
ويلاحظ الكاتب أنَّ هذا الجيل –أيضًا- كانوا حديثي عهد بجيل التلقي فكانوا شديدي التعلّق بالقرآن المجيد، وشديدي التعلّق بقضاياه، صحيح أنّهم لم يكونوا بمستوى جيل التلقي الذي كان الخطاب القرآنيّ يشتبك مع بيئته لإحداث التغيير فيها بالطريقة التي جُبِلَ عليها جيل التلقي، ولكن كان لهم من ذلك نصيب كبير وافر، إذ لم يطل الأمد بعد ولم تقس القلوب..
ويؤكد أن أهم ما يمكن رصده في هذا الجيل «جيل الرواية» هو أن رسول الله _ ﷺ_ في مرحلة التلقي كان يمثل المنهج الذي به يعرف أبناء ذلك الجيل دقة معرفتهم وسلامتها لمراد القرآن المجيد، فهو _ ﷺ_ يعلّمهم الكتاب أدق تعليم وأصحه، ويبين بكل مراتب البيان كيفية اتباع القرآن المجيد مع الأمن من الوقوع في الخطأ؛ لأن الوحي كان يستدرك ويسدد ويتابع التطبيقات النبوية فلا مجال للخطأ لوجود كل هذه الضوابط الصارمة.
أمّا بعد غياب رسول الله ﷺ والتحاقه بالرفيق الأعلى فقد أقبل جيل الرواية على جمع كل ما استطاع جمعه من السنن والآثار والمرويات عن رسول الله ﷺ والصحابة الذين عايشوه وشاهدوه، فقد كان ذلك هو الوسيلة البديلة عن الوجود الشخصي له _ ﷺ_ فكأنّ السنن الصحيحة تقوم بالمهمة، أعني مهمة «المنهج » الذي يضبط فهم المسلم وتحركه في الواقع وهو يمارس عملية «اتباع القرآن».
ويرى أنه كان ينبغي أن تُؤسس دراسات توضح كيفية «التعامل المنهجي» مع السنن بأنواعها؛ لئلا يحدث كثير من اللّبس وسوء الفهم، ولو أسست مثل تلك الدراسات لبقيت حركة «الاجتهاد والتجديد» حيّة تمارس دورها في كل عصر ومصر في عملية استيعاب المستجدات وترقيتها بالقرآن، ومنهج التعامل معه بمنهج التعامل مع السنة، ولسارا معًا دون افتراق فتكون السنة «بكلياتها منهجًا» و«بجزئياتها فقهًا» وتزول بذلك كثير من الإشكاليات الموروثة والمعاصرة.
جيل الفقه
وفي استعراضه يرى الكاتب أن هناك جيلا حاول مقاربة القرآن بطريقة مختلفة، يسمى “جيل الفقه”، وهذا الجيل بحسبه استطاع أن يغطي متطلبات الحياة بفقه النص، فالمجتهد أو العالم من الأئمة المعروفين أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان والأوزاعي وسواهم، هؤلاء كلهم كانوا يقرؤون الخطاب، ولكن من مدخل البحث عن الأحكام الشرعيّة..
الغريب في حديث العلواني عن هذا الجيل أنه يتحدث وهو الفقيه الأصولي الذي حقق “المحصول” للإمام الرازي، وكأن حديثه يحمل نقدا لهذه المقاربة مع حاجة المسلمين إليها، فالقرآن هو المصدر الأول للتشريع وللأحكام الفقهية..
وكأنه يدرك هذا البعد الذي يمكن أن يثور في ذهنية القاريء.. ولذلك يحاول بيان رؤيته بأريحية حينما يقول: مقاربة الفقيه للقرآن مقاربة سليمة من حيث هدفها، ولا شيء عليها، لكنها تجعل عقل الباحث ولبّه دائرين بتركيز تام حول الحكم الشرعيّ الذي يراد الوصول إليه، ولذلك رأينا الأجيال الذين جاءوا بعد هؤلاء الأئمة الكبار يحاولون أن يحصوا ما سموه بآيات الأحكام ويعدوها ليمارسوا عمليّات الاستدلال والاستنباط فيها، فبعضهم عدها «500 آية» وبعضهم «300 و340»، أو أقل أو أكثر من ذلك بحسب قواعد كل مذهب من هذه المذاهب.
القضية إذن لدى العلواني هي أن مدخل الفهم أو مدخل مقاربة القرآن لدى الفقهاء كان مدخل الأحكام، ومعلوم أن البحث عن حكم شيء، واستجلاء معاني القرآن بجملتها شيء آخر، لذلك كان في ذلك التحديد نوعا من تجاوز مفهوم الوحدة البنائية للقرآن المجيد.. وهو ما أسهم فيما بعد في تكريس إشكالات كثيرة في تعامل الأمة مع القرآن الكريم في العصور اللاحقة…
ولذلك يؤكد المعنى بطريقة واضحة قائلا: “هذا المدخل مدخل البحث عن الأحكام في القرآن هو الذي ساد بعد ذلك بالنسبة للأجيال التي تلت ذلك الجيل، ولذلك ساد نوع من الفهم، -وهو فهم فيه نظر- بأن القرآن الكريم مصدر للتشريع أو مصدر أساس للتشريع.. وهي مقولة صحيحة بوصف القرآن المصدر المنشئ للتشريع.. لكن مشكلتها أنها جعلت الأنظار تتجه إلى آيات الأحكام واعتبار ما عداها آيات مسوقة للعبرة والاتعاظ.. ولذلك فقد حاول البعض أن يحصر أغراض القرآن الكريم في تلك الأغراض الثلاثة فقط، فقالوا: القرآن الكريم يبيّن لنا العقيدة وعالم الغيب، ويبيّن لنا الأحكام الفقهية فيما يتعلق بشئون الحياة، ويبيّن لنا في الوقت نفسه قصصًا وأمثالًا نأخذ منها العبر والدروس، وتلك هي محاوره التي دارت آياته ـكلهاـ حولها.. وهذا الفهم يقزم دور القرآن في الحياة الإنسانية بعيدا عن شموليته وقدرته على النفاذ لأعماق الحياة كل الحياة..”
ويرى العلواني أن “جيل الفقه لو أرسى دعائم ذلك الفهم وأصّل له، وتجاوز قراءته الجزئية الخاصة “بآيات الأحكام” لتغير وضع الفقه وأصوله، ولأخذ ” مدخل القراءة التشريعية” منحى آخر؛ لأنه لو حدث ذلك لخرج الفقيه إلى رحاب القرآن الكريم الواسعة، ولما حصر جهده في آيات الأحكام، ولوجد نفسه يتجه باستمرار نحو الفقه الأكبر في القرآن، ولأدرك أن القرآن منشئ بكليته والسنة منهج ضابط يعصم الذهن عن الخطأ في فهم القرآن، وسلامة اتباعه، وبيان ذلك في سائر مستويات البيان، وذلك في كلياتها، وأما جزئياتها فتستطيع أن تقدم فقهًا نبويًّا أكبر لا ينفصل عن القرآن، بل يصدق القرآن عليه ويهيمن..”