اعتنت الشريعة الإسلامية بالنسب بحسبانه مادة البقاء الإنساني ومبدأ نشوء الأسر والمجتمعات، فنهت عن المساس بالأنساب، وحرمت على الآباء نفي أولادهم وعلى النساء أن ينسبن لأزواجهن غير أولادهم، وأبطلت والأحكام الفاسدة التي التصقت به كالتبني والخَلع والموالاة، وشرعت أحكام جديدة لصونه وحفظه. وقد اهتم علماء الإسلام قديما وحديثا بضبط مفهوم ومقاصد النسب وتعريفه وتفصيل أحكامه ومسائله، ومن هؤلاء الشيخ الطاهر بن عاشور الذي وضع بحثا بعنوان (النسب في الفقه الإسلامي).
وقد نشر البحث للمرة الأولى في طبعة خاصة أصدرتها الموسوعة الفقهية الكويتية تمهيدا لنشره بها، ولأسباب غير معلومة لم يتم تضمينه، كما يذكر الطاهر الميساوي جامع ومحرر(جمهرة مقالات ورسائل الإمام الطاهر بن عاشور) وعليه قام بتضمينه المجلد الثاني، وهو يشغل الصفحات ( 846 – 904).
منهج البحث وبنيته
وكون البحث أعد للنشر ضمن الموسوعة يعني أن الشيخ لم يلتزم فيه آراء المذهب المالكي وإنما قدم بحثا يستوعب آراء المدارس الفقهية الأربع، وأن زاوية التناول كانت فقهية وليست فكرية أو اجتماعية، ومع هذا فإن منهج الشيخ ابن عاشور أضفى على البحث سعة وأكسبه عمقا نظريا، إذ عمد الشيخ إلى الحديث عن مقاصد النسب وتضمينها ضمن نظرية المقاصد الكلية في بضع مواضع واستطاع بذلك توسعة إطار البحث.
ومن جانب آخر لم يكتف الشيخ بذكر الآراء الفقهية المختلفة – حول مقاصد النسب – وإنما حاول تعليل الكثير منها، كما قدم ملاحظات نقدية واستدراكات على عمل الفقهاء حتى أنه اضطر إلى وضع تعريف للنسب من وضعه لاعتقاده أن التعريف لم يحظ عناية نظرية كافية من جانبهم، كما حظيت المسائل الفرعية المتولدة عنه والمعنية بالإجراءات[1]، كما مارس الترجيح بين الآراء المختلفة مراعاة للمصلحة.
ومما يسترعي النظر أن الشيخ حين قدم تعريفه التزم التواضع ولم يفصح أنه من وضعه تأدبا منه واحتراما لجهود أسلافه من الفقهاء؛ مشيرا أنه من وضع بعض الكاتبين، ولم يصرح بأسمائهم متنا أو هامشا فرجح لدينا أنه من وضعه[2].
أقسام البحث
قسم الشيخ ابن عاشور بنية البحث إلى خمسة أقسام، وهي:
- القسم الأول مقدمة في أهمية النسب ودواعي اهتمام الشريعة به ومظاهر ذلك، ومقاصد النسب.
- والثاني في معنى النسب وحقيقته وأنواعه.
- والثالث طرائق ثبوته.
- والرابع مبطلات ثبوته.
- والخامس والأخير في الآثار المترتبة عليه.
ماهية النسب ومقاصده
واستهله بالإشارة إلى أن “العناية بالنسب هي من مقتضيات الفطرة.. فلأجل ما أودع الله في الفطرة البشرية من قابلية التناسل، جعل في الفطرة داعية التزاوج بين الذكر والأنثى، لينساق المرء إلى السبب ثم إلى المسبب لحكمة خفية، فنشأ عن ذلك نظام الزوجية ونظام القرابة”[3].
وقوانين حماية النسب في الشريعة، كما يقرر، تنضوي إلى أصل كلي من كليات الشريعة، وهو أصل حفظ الأنساب، أحد الكليات الضرورية الخمسة وهي: حفظ الدين والنفس، والعقل، والعرض (النسب)، والمال، فيأتي حفظ النسب متدرجا تدرجا طبيعيا، ويمضي الشيخ ابن عاشور موضحا أن مقصد حفظ النسب يعني انتساب النسل إلى أصله ” وأن عده في الضروري ناظر لأهمية شانه، إذ إن دخول الشك عليه يفيت الداعي النفسي الباعث على الذب عنه وحياطته والقيام عليه بما عليه بقاؤه”[4]، وإلى هذا الأصل المقاصدي شرعت الأحكام التي تذود عن النسب مثل: حد الزنا، وتشريع عدة الوفاة، وإيجاب الشهود عند الزواج وغيرها.
معنى النسب
ويتوقف الشيخ طويلا عند معنى النسب وتعريفه مبررا ذلك بالقول ” لم يعرج الفقهاء على تحديد حقيقة النسب، ولعلهم غنوا بشهرة معناه في الاستعمال عن التكلف لتحديده”[5] لكن الصنيع العلمي يوجب تحديده -كما يقول- لأن تحديد المعاني العلمية يساعد الفقيه على جمع صور المعنى وتفاريعه، وعلى هذا يعرف الشيخ النسب بأنه ” حالة حكمية بين شخص وآخر، من حيث إن الشخص انفصل عن رحم امرأة هي في عصمة زواج شرعي أو مِلك صحيح أو مشبهين للثابت، للذي يكون الحبل من مائه”[6].
وهذا تعريف المولود لأبيه وأمه دون مانع شرعي، ثم يعرف الشيخ نسب الأبناء لأم، ثم الأبناء لأب كل هذا ضمن تعريف واحد طويل نسبيا، الأمر الذي يحملنا على الاعتقاد أنه كان بحاجة إلى وضع تعريف وجيز جامع مانع للنسب، ثم يتبعه بأنواعه وتعريف كل نوع منها على نحو مفصل، ذلك أن الإطالة ووضع محددات أمام كل نوع منها جعل الوقوف على المعنى الكلي للنسب متعذرا، خصوصا أن الشيخ استخدام مصطلحات فنية دقيقة خارجة عن الاستعمال المألوف.
طرق ثبوت النسب وآثاره
ابتداء من القسم الثالث من بحثه يعرج الشيخ ابن عاشور على القضايا العملية المرتبطة بالنسب -التي شُغل بها الفقهاء عن التعريف-، إذ يتناول أولا طرائق ثبوت النسب، إما مستقرأة من قواعد الشريعة أو استنبطها أئمة الفقهاء من هذه القواعد، وبعضها طرق عمومية نجدها في المسائل الشرعية الأخرى ونعني بها (البينة والشهادة والإقرار) وبعضها طرق تخصه مثل (الفراش، الاستلحاق).
والفكرة المركزية التي يطرحها ابن عاشور هي أن تعدد طرق الإثبات وتنوعها ووفرتها (تسع طرائق أقواها الفراش) تبرهن أن الشارع جل شأنه متشوف للنسب، ولهذا توسع الفقهاء في استخدام الاستحسان في هذا الباب عوضا عن القياس، وتساهلوا في إلحاق النسب في حال وجود العقد الشرعي رغم تعذر إمكان الوطء لسفر أو نحوه متعللين بإمكانية الوصول إلى الزوجة بطريقة ما، وحجتهم أن لحوق ولد بغير أبيه “أقل ضررا من قطع نسبه” وهو ما يحملنا على الاستنتاج أن الشرع كان يتشوف كذلك إلى تسكين الأنفس البشرية بنسبتها إلى أب بدلا من نسبتها إلى المجهول وتجنيبها المعرة والازدراء[7].
ويتطرق الشيخ كذلك إلى مسألة أخرى مثيرة للجدل وهي أقصى مدة الحمل، إذ تجمع المذاهب الأربعة على أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر، وتختلف في أقصى مدة بقائه إذ يذهب الحنفية إلى أنها سنتان استنادا إلى حديث السيدة عائشة (ما تزيد في الحمل سنتين قدر ما يتحول ظل في عود المغزل)، على حين يفترض المالكية أنها خمس سنوات، وأما الشافعية والحنابلة فيذهبون إلى أنها أربع سنوات.
والشيخ ابن عاشور وهو مالكي يعتد بمذهبه لا يرى أن رأي مذهبه صائب في مسألة أقصى مدة للحمل، إذ يرجح رأي المذهب الحنفي في هذه المسألة بالقول “ولا دليل لواحد من هذه المذاهب [المالكي والشافعي والحنبلي] من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، واحتج الحنفية بقول عائشة في سنن الدارقطني وسنن البيهقي فهو أمثل ما روي في هذا الباب[8]، وهذا الترجيح من قبله يعني أنه يدور مع الدليل وربما خالف مذهبه إن أعوزه الدليل في مسأله أو إذ لم يحقق رأي المذهب المصلحة، حيث يترتب على تمديد زمن الحمل نسبة أبناء إلى غير آبائهم وفي هذا مفسدة وضياع للأنساب التي شرع الله حد الزنا لصيانتها.
من جانب آخر يُستنتج من تأييد الشيخ رأي المذهب الحنفي أنه لا يؤيد رأي الطب الحديث الذي يختزل مدة الحمل في تسعة أشهر أو ما يزيد قليلا، وحجته أنه إذا ادعت المطلقة الحمل من زوجها وجاءت به في مدة الحمل الشرعية-وأقصاها سنتان- يُحمل الحمل على الحلال “لانتفاء الزنا عن المسلم ظاهرا” و”حملا للمسلمين على صلاح الديانة”، وهي مسألة مهمة إذ لا ينبغي تصور أن اقتراف الإثم هو الأصل بالنسبة للمسلم أو المسلمة، ويدعم هذا قولهم ” النساء مؤتمنات على فروجهن”.
آثار النسب
وفي الأخير يعرج الشيخ على آثار النسب، وهي آثار لا يجوز نقلها أو التنازل عنها أو إسقاطها، وهي على ثلاث مستويات: آثار مالية؛ فالنسب سبب لإرث المال، وسبب لاستحقاق دم القتيل أو أخذ الدية حال العفو، وهو سبب الولاية على مال الصغير للأب أو الجد وغيرها. وآثار حكمية تتعلق بالأحكام مثل: الحضانة والنفقة وصحة حج المرأة التي لا زوج لها والتي يفترض أن يكون معها محرم من ذوي النسب أو الصهر، وآثار معنوية تربط بين من تجمعهم آصرة النسب وهي حسن الصلة والبر.
وبالجملة يمكن القول إن الشيخ جمع بين النظر الفقهي والنظر المقاصدي في بحثه، وأن منهجه في التناول تراوح بين تعليل الأراء الفقهية وبيان وجه القول بها، وبين الاستدراك على عمل الفقهاء وسد الثغرات فيه، مع التزام جانب التواضع أمام جهودهم المتراكمة في هذا الباب عبر قرون.