العلم بحر لا ساحل له، عجائبه لا تنقضي، وفرائده لا تنفد، وطرق تحصيله متشعبة، ومصادره متنوعة، وفي هذا المضمار يمكن القول إن من مميزات النفس الإنسانية وفطرتها الفضول والسعي إلى تحصيل المعرفة أياً كان نوعها، ولكن المشكلة التي يعاني منها الكثير من الناس تتمثل في معرفة المنهجية المثلى لتحصيل العلم بطريقة تمنع الإنسان من أن يضيع وقته بين رفوف المكتبة دون استفادة حقيقية نافعة تعتمد على فقه الأولويات. وكمساهمة في التخفيف من هذه المعاناة القديمة المتجددة، يأتي كتاب “مقاليد العلم: في فضل العلم وأدبه وطرقه تحصيله” للكاتب سالم القحطاني، الذي يقدم فيه جملة من القضايا المهمة التي تمثّل دليلاً إرشادياً للإنسان إلى تحصيل العلم بطريقة منهجية.
يتحدث المؤلف في كتاب “مقاليد العلم” عن فضل العلم وآداب ومنهجية طلبه وعوائق تحصيله، وهدفنا من هذا المقال أن نعرض لك زبدة الأفكار التي نثرها المؤلف بين صفحات كتابه القيم لعلّها تنفعك في اكتشاف المنهجية التي تعينك على السير في الطريق المؤدي إلى المعرفة الممنهجة.
في فضل العلم
إن أول أمر يمكن أن يساعد الإنسان في تكوين رصيد معرفي نافع يعود إلى الوعي بقيمة العلم وفضله ومكانته في الحضارة الإسلامية، فطلب العلم بالنسبة للإنسان المسلم لا يقتصر على الفضول وتجميع معلومات يباهي بها أقرانه ويلهب بها قلوب الجماهير، وإنما تتعدى ذلك إلى معرفة الأحكام الشرعية والعقائدية التي ستنجيه يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا قال ﷺ: “إن الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع”، فالأمر هنا لا يتعلق فقط بجمع معلومات وإنما برصيد معرفي رباني يرسم لنا خريطة الطريق إلى الله ويقودنا إلى جنان الفردوس.
وهكذا، فإننا إذا نظرنا إلى نصوص الوحي سنجد أنها صنعت للعلم الشرعي والعلماء الربانيين العاملين مكانة رفيعة وأهمية جليلة وفضائل كثيرة في جوانب عديدة لا تحصى، ففي الجانب الشرعي نجد القرآن الكريم يقدم لنا آيات عديدة تمدح العلم والعلماء وتحث على طلب العلم، منها قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، قال مالك بن أنس: سمعت زيد بن أسلم يقول في هذه الآية: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قال: “بالعلم يرفع الله عز وجل من يشاء في الدنيا.
ويكفي العلم أهمية وفضلاً أن القرآن الكريم وضع العلماء بجانب الأنبياء في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، أما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} فنلمح سؤالاً عميقاً يؤكد الفروق العظيمة الموجودة بين العالم والجاهل في الدنيا والآخرة، قال صاحب التحرير والتنوير معلقاً: استئناف بياني موقعه كموقع ﴿قل تمتع بكفرك قليلا﴾ أثاره وصف المؤمن الطائع، والمعنى: أعلمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه، فيما قال القاشاني: وإنما كان المطيع هو العالم؛ لأن العلم هو الذي رسخ في القلب، وتأصل بعروقه في النفس، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته، بل سيط باللحم والدم، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه.
وتسعفنا السنة النبوية بمجموعة من الأحاديث التي تدل على فضل العلم ومكانته الجليلة، منها قوله ﷺ: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة”، وقوله: “إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافرٍ”، وقد كان ابن جماعة صادقاً قال: “وحسبك بهذه الدرجة مجداً وفخراً، وبهذه الرتبة شرفاً وذكراً، فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة”.
ولا شك أن للعلم الشرعي أهمية من الناحية النفسية والتربوية تتمثل في تأثيره العجيب على النفس، فطلب العلم علاجٌ نافعٌ لبعض الأمراض النفسية، وقد تنبّه ابن احزم الأندلسي إلى هذا الأمر عندما قال: “ولو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داعٍ له”.
آداب طالب العلم
وقد كانت المكانة الجليلة التي يُحظى بها العلم والعلماء سبباً في ضرورة مراعاة آداب طلب العلم، فطالب العلم الشرعي ليس كغيره من الناس، فهو يجلس في رحاب المعرفة المنبثقة من نصوص الوحي، ولهذا فهو بحاجة ماسّة إلى أن يتحلَّى بالأدب الجميل والخلق الرفيع، يقول ابن المبارك رحمه الله: “نحن إلى كثير من الأدب أحوج إلى قليل من العلم”.
وهنا قد يتساءل القارئ قائلاً: ما نوع الأدب المطلوب لطالب العلم إذاً؟ وإجابة على هذا السؤال نقول إن سالم القحطاني أكد أن هناك مجموعة من الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يتحلَّى بها، ولكنه اقتصر على المهم من هذه الآداب وقسمها إلى نوعين، أولهما الأدب مع النفس الذي يقتضي: أن يراقب الله في جميع أقواله وأفعاله، وأن يصون العلم فلا يبذله إلى من يحتقره، وأن يتحلَّى بالزهد في الدنيا، وأن يخلص النية لله تعالى في طلب العلم، بالإضافة إلى أن يحرص على الطاعات والمستحبات، وأن يتخلق بالأخلاق الحسنة ويتجنب الأخلاق الرديئة، وأن يبادر إلى طلب العلم في شبابه قبل أن يَشِيخ، وأن يروح عن نفسه بالمباح، قال ابن جماعة: “كان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة ويتمازحون بما لا ضرر عليهم في دين ولا عِرض.
أما النوع الثاني من آداب طالب العلم فهو الأدب مع شيخه، ومنها: أن يجعله بمنزلة الوالد فيوقِّره ويبجِّله قال طاووس: “من السنة أن توقر العالم”، ومنها أن يجتهد في اختيار الشيخ الأصلح والأعلم لملازمته، وأن يحسن مخاطبته فلا يكلمه كما يكلم زميله، هذا بالإضافة إلى أن يراعي الأدب في الجلوس بين يديه في مجلس العلم، قال الشافعي رحمه الله: “كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبة له لئلا يسمع وقعها”، كما أن من آداب طالب العلم أن يُظهر لشيخه فرحه بالفائدة وكأنه يسمعها لأول مرة، قال عطاء: “إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً.
منهجية طلب العلم
من المعلوم أن هناك منهجيات عديدة ومفيدة حول تحصيل العلم، ولكن حديثنا هنا يركز على المنهجية الموجزة التي اقترحها سالم القحطاني في كتابه هذا (مقاليد العلم) بعد أن جرَّبها في يوميات حياته وانتفع بها، وتعتمد هذه المنهجية على ثلاث مراحل، أولها المرحلة البدائية التي ينبغي على الإنسان أن يتعلم فيها ما لا يسعه جهله من الكتب الأولية، ففي مجال العقيدة عليه أن يبدأ مثلاً بـ (القواعد الأربع) و(الأصول الثلاثة)، وفي مجال الفقه عليه أن يهتم مثلاً بـ (رسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها)، ويعكف في مجال الحديث على (الأربعين النووي).
أما في المرحلة الثانية من منهجية طلب العلم حسب القحطاني في كتابه حول “مقاليد العلم” فتتمثل في (مرحلة التأسيس اللغوي)، فبعد أن أخذ الإنسان خلال المرحلة الأولى حاجته من مهمات العقيدة والعبادات ينبغي أن يبدأ في المرحلة الثانية توسيع معارفه من خلال تعلم اللغة العربية، فيقرأ (متن الأجرومية) ويحفظ نظم عبيد ربه للمتن، ثم يدرس (متن قطر الندى وبل الصدى) مع شرح ابن هشام، ليختتم هذه المرحلة بحفظ (ألفية ابن مالك) وقراءة شرح ابن عقيل أو دليل السالك لعبدالله الفوزان.
وفي المرحلة الثالثة (التأصيل الشرعي) ينبغي على الإنسان الشروع في العلوم الشرعية، فيقرأ في مجال العقيدة مثلاً: (كتاب التوحيد) و(متن الطحاوية) و(متن الواسطية) و(متن التدمرية)، وفي مجال الفقه: (بداية العابد وكفاية الزاهد) و(زاد المستقنع) و(الروض المربع)، وفي مجال الفقه وأصوله: (نظم الورقات) و(بلغة الوصول إلى علم الأصول)، وفي مجال القواعد الفقهية (نظم القواعد الفقهية)، وفي مجال المواريث “الفرائض” (متن الرحبية).
أما في مجال علوم القرآن فينبغي أن يقرأ (المحرر في علوم القرآن) و(الإتقان للسيوطي)، وفي مجال التفسير (تفسير الجلالين)، وفي مجال أصول التفسير (التحرير في أصول التفسير)، وفي مجال التجويد (تحفة الأطفال) و(متن الجزرية)، وفي مجال مصطلح الحديث (البيقونية) و(نخبة الفكر)، وفي مجال السيرة النبوية (الأرجوزة الميئية)، وفي مجال الصرف (متن البناء) و(الأساس في الصرف) و(لامية الأفعال)، وفي مجال البلاغة يقرأ (نظم مائة المعاني والبيان) و(الجوهر المكنون)، وفي مجال الشعر والأدب (لامية العرب) و(بانت سعاد) و(المعلقات العشر) و(البيان والتبيين) و(مختارات من أدب العرب)، وفي مجال المنطق (السلم المنورق)، وفي مجال الإملاء (قواعد الإملاء وعلامات الترقيم).
عوائق طلب العلم
ورغم كثرة مصادر المعرفة، إلا أن هناك عوائق قد تقف صخرة دون تحصيل العلم، ويمكن القول إن أول عائق من تلك العوائق يتمثل في محاولة أخذ العلم جملة واحدة، قال ابن شهاب مخاطباً يونس بن يزيد: “يا يونس لا تُكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها أخذتَ فيه قُطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الليالي والأيام”.
وهناك أسباب أخرى عديدة مجربة عند أهل النُّهَى تمثّل عائقاً حقيقياً دون تحصيل العلم، منها: ارتكاب المعاصي والذنوب، والتتلمذ على مشايخ السوء، وقَتْلُ الوقت في تتبع ما تبثُّه وسائل الإعلام من أخبار أساسية وثانوية، والإكثار من التنقل بين الخطط العلمية والمناهج، والاشتغال بالمسائل الجدلية في بداية الطلب، هذا بالإضافة إلى كثرة مخالطة العوام، والعجلة في التحصيل المعرفي، والوقوع في فخِّ أمراض القلوب التي تمحق بركة العلم مثل: العجب والغرور والكبر والرياء والمباهات والتعالي.
كما أن الفتور -الذي يمكن أن يتعرض له أي إنساني- يُعدُّ من الأسباب التي قد تتسبب في ترك الاشتغال بالعلم والتحصيل المعرفي، وقد أكد سالم القحطاني أن علاج الفتور “يكون بالترويح عن النفس بالمباحات ومجالسة الجادِّين من طلاب العلم وسماع أخبارهم في التحصيل، مع قراءة أخبار السلف والخلف في طلب العلم”، ولا جدال في أن كثرة النوم معيقة عن التحصيل كما أن قلته معيقة ومضرة، ولذلك لا بد من الاعتدال في النوم وتطبيق قاعدة “لا إفراط ولا تفريط”.
الجامع لمسائل متفرقة
ختم سالم القحطاني كتابه “مقاليد العلم” بمحور يحمل عنوان: “الجامع لمسائل متفرقة”، استعرض فيه جملة من القضايا التي يكثر السؤال حولها، مثل: يحفظ الإنسان القرآن كاملاً ثم يطلب العلم أم يجمع بينهما؟ وما الموقف من كتب المعاصرين؟ وما الموقف من إجازات القرآن والحديث؟ وقد أجاب القحطاني على تلك الأسئلة بطريقة واضحة وموجزة.
وفي خاتمة كتاب “مقاليد العلم” قام القحطاني بعرض مجموعة من الكتب التي يرى أنها تشترك في أنها مناسبة للمبتدئين ولا تحتاج إلى خلفية قبل القراءة، كما وضع -بعد الخاتمة- ملحقاً مستقلاً جاء في 17 صفحة، وتضمن جداول رائعة حول منهجية طلب العلم الشرعي، وتمثل تلك الجداول ملخصاً رائعاً للمراحل الثلاث التي أشرنا إليها خلال الحديث عن منهجية طلب العلم. والله أكبر ولله الحمد.