في عالم موار بعديد الخطابات المتفاوتة منهجا والمتنافرة مقصدا والمختلفة جذورا، يعطينا الوحي الإلهي معالم هادية لخطاب العالمين، سواء كانوا مسلمين أو مخالفين، ويمكن اقتصاد الأمر في توصيف الخطاب الإسلامي بكونه كل خطاب يصدر عن النصوص الوحيانية، ويسير بمقتضاها، ويسعى لتحقيق أهدفها، وسواء نتج هذا الخطاب من أفراد، أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو أهلية، فإن عليه مراعاة المعالم الآتية حتى يأخذ الشرعية والمشروعية، وهذه المعالم مستقرأة من جملة النصوص المحكمة والكليات الشرعية والمقاصد الضرورية، وهي التي تميز الخطاب الإسلامي الأصيل من غيره من خطابات الشنآن والعنف، أو التساهل والتمييع، وهي معالم تضبط حركته واتجاهه بجملة مميزات منها:
الاعتدال والوسطية : فهي سمة تصبغه، وتطبع وسائله ومخرجاته تبعا لمفهوم الوسطية الذي تميزت به الأمة الخاتمة المخرجة للناس:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة، 143]
فهي الأمة التي تميزت بوسطية عقائدها وعبادتها ومعاملاتها، ففي العبادات كانت وسطا بين تفريط اليهودية وإفراط النصرانية، وفي العقائد جمعت المنهج العقلي والوجداني، وكانت عقيدتها مفهومة ميسورة مقبولة للعقل، وتتبّع مظاهر الوسطية في الإسلام مما يجلّ عن الحصر، وعليه فإن كل خطاب يشدّ عن الوسطية والاعتدال، ويركب الغلو أو الانحراف فليس من الشريعة في شيء.
اليسر والبشر في التبليغ: وهو مهيع ومنهج يطبع الخطاب الإسلامي في التركيز على ترجيح التيسير على التعسير، والرجاء على الخوف، والتبشير على التنفير، وهذا المنهج مأخوذ من سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي استولى على القلوب قبل الجدران، وملك أفئدة محادّيه حتى صاروا من أنصاره وأعوانه، وهو الذي أرشد إلى هذا السلوك خطا متينا لا محيد عنه، مما يصلح أن يكون تذكرة للدعاة والوعاظ والعلماء.
فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: «ما خُير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها» [البخاري، 3560]
وعندما بعث عليه الصلاة والسلام دعاته إلى اليمن، وهما الفقيهان أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل أوصاهما بسلوك هذا المنهج، فعن سعيد بن أبي بردة، قال: سمعت أبي، قال: بعث النبي ﷺ أبي، ومعاذ بن جبل، إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا» [البخاري، 7172]
الاستيعاب: الاستيعاب للمجموع العام صالحه وطالحه سابقه ومقتصده من مميزات الخطاب الإسلامي، لأن هذه الأمة تشمل الجميع كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر، 32]
فالخطاب الإسلامي الأصيل يستنكف عن الفئوية أو الطبقية، فهو خطاب للجميع المتفاوتين في درجاتهم ومداركهم وقواهم العقلية والشعورية، ولأجل ذلك لم يكن الخطاب خاصا إلا في حالات معدودة، ولضرورات مضبوطة استوفاها العلماء في مظانها.
وهو خطاب يتغيا التربية، فلا ملل فيه ولا سآمة، فهو يتدرج بالإنسان في مدارج الكمال، وغايته إيجاد الفرد الزكي الذي ينحو نحو الرقي الروحي والفكري والتربوي، ولأجل ذلك اعتمد المنهج المتدرج في التخلية والتحلية، والتروي في مخاطبة الناس حتى لا يثقل عليهم الأمر فينفضوا عنه، مراعاة لما جبلت عليه النفوس، ففي الحديث عن أبي وائل، قال: كان عبد الله -ابن مسعود- يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان النبي ﷺ يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا”[البخاري، 70].
الواقعية : الخطاب الإسلامي خطاب واقعي يتغيا العمل والتحريك والتفعيل، ولا ينحو نحو التنظير الطوباوي أو المثالي الذي يعسر على الناس إدراكه أو تحقيقه، ولأجل ذلك جاءت الآثار بكراهة الخوض فيما ليس تحته عمل، كما هو المعروف من رأي الإمام مالك، كما أنه خطاب ينهج التفهيم والتعليم والترقي والتطوير، ولأجل ذلك كان مفهوما من العامة والخاصة، وفي الحديث عن علي: «حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذّب، الله ورسوله»[البخاري، 127]، ومن أجل هذا ذاعت وشاعت الثقافة الإسلامية عند جمهور المسلمين، في مناقضة كاملة لواقع الثقافات الأخرى عند الأديان المختلفة.
الجمالية : وهي ميزة باسقة في الخطاب الإسلامي القائم على روم الجمال في الأقوال والعبارات والكتابات، وذلك تأسيا بجمالية القرآن الكريم، ما فيه من الآيات المرشدة لبديع ما برأ الله وخلق في سماواته وأرضه، وكونه الواسع الفسيح.
إن الجمال مقصد يتحلى به المسلم ائتمارا بالحديث الوارد عنعبد الله بن مسعود، عن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» [مسلم، 91]
ولأجل ذلك تحلى الخطاب الإسلامي بخاصية الجمالية حتى كان مثار جذب للقلوب النافرة والأنفس الناشزة لما يفيض به من الحنان والرحمة والرغبة الملحاحة في هداية الناس، وخير معبّر عن جمالية الخطاب الرسول الأكرم في تعامله مع المسلمين الجدد أو الكفار أو المخالفين، ففي الحديث عن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله ﷺ وأنا عنده فقال: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة، ثم أذن له، فألان له القول، فلما خرج قلت له: يا رسول الله، قلت له ما قلت، ثم ألنت له القول فقال: يا عائشة، إن من شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه”[الترمذي، 1996].
فالخطاب الإسلامي ينأى عن الفحشاء أو إذاعة الكراهية أو إشاعة البغضاء، فهو خطاب التجميع لا التفريق، خطاب الهداية لا النكاية، خطاب الإرشاد لا الإبعاد.
الفعالية : الرؤية الإسلامية في الفعاليات الاجتماعيات قائمة على توتير الحساسية تجاه كل ما يهدم الدين، أو ينقض القيم، أو يبخس الأخلاق الضامنة للتمسك الاجتماعي.
ولأجل ذلك كانت مركزية النصيحة كبرى في المدونة الإسلامية، فهي من مقتضيات الولاء كما قال تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة، 71] .
وجاء في حديث حذيفة بن اليمان قال رسول الله ﷺ: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمسي ناصحا لله ورسوله ولإمامه وعامة المسلمين، فليس منهم» [الطبراني في الأوسط، 7473] ، وخير ناصحلأمته سيدنا المصطفى الذي قال فيه ربه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة، 128].
ولمركزية النصيحة التي تعضد إقامة الخطاب الأخلاقي الذي يجمع ولا يفرق ويبني ولا يهدم جاء الأمر لاعتبار كل فرد مؤمن لبنة في البناء الإسلامي، ففي حديثأبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» [مسلم، 2585] ، وعن تميم الداري، قال قال ﷺ: « الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [مسلم، 55]
والأحاديث السابقة قاضية بأن الوحدة الشعورية لجماعة المسلمين من معاقد الولاء الذي لا يتكمّل الإيمان ولا يصح إلا به، وأن هذه المولاة الإيمانية تستلزم بدل الجهد في نفع المسلمين بالقول والفعل والشعور الناصح، وأن إن التناصح والاهتمام بالشأن العام من صميم ولاية المؤمنين، واستحضار النصيحة الإيمانية القائمة على تصحيح السير نحو الله، وتصحيح الفهم عن رسوله، وتصحيح القول للائمة القائمين، وتصحيح الفعل مع المتساكنين والمتجاورين.
إن استحضار هذه المعالم من الوسطية واليسر والاستيعاب والجمالية والواقعية والفعالية في خطابنا لأمتنا أو لغيرنا كفيل بقلب الصورة المروجة الكاذبة الخاطئة عن الإسلام، والأمر رهين بأفعال المسلمين وأقوالهم، وما يقدمونه لغيرهم هو محل امتحان واختبار ليمحص الله المحسنين من الخاطئين، وليبلونا أينا أحسن عملا، وأقوم قيلا، وأهدى سبيلا.